صراع الهويات.. قراءة في رواية “كريسماس في مكة”
تضعنا رواية “كريسماس في مكة” للكاتب والروائي أحمد خيري العمري الصادرة في 2019 عن دار عصير الكتب، ومن العتبة الأولى للعمل ـ العنوان ـ أمام مجموعة تحديات قرر الكاتب مشاركتنا في خوضها، وبالفعل فقد صدرت الرواية بطبعتين تحملان عنوانين، الأولى بعنوان “كريسماس في مكة” بينما الطبعة الأخرى صدرت بعنوان “كريسماس” وذلك نتيجة خوف الناشر من منع الرواية في بعض الدول الخليجية التي قد تتحسس من العنوان، أو هو إجراء احترازي للحيلولة دون منع دخول الكتاب إلى بعض الدول العربية التي ترى حرجا في العنوان.
إذا نحن إزاء عمل يحمل في داخله من الخطوة الأولى سمة الصراع وهمومه بشكل لا لبس فيه، ومن ينحو هذا المنحى من الكتابة القائم على أطروحات صراع الهويات، صراع الأفكار، لقاح العقائد وحتى حوار الثقافات، لا بد أن يتحلى بأفق فكري منفتح لا يميل فيه إلى جهة على حساب أخرى، لذلك ربما كان السؤال الأول الذي يجب أن نطرحه هو: هل استطاع العمري في عمله هذا أن يكون محايدا في نقل تصورات شخصياته كما هي، أو كما يجب أن نتوقع منها سلوكيا؟ أم أنه قام بفرض وجهة نظره عليها لتأخذ مواقف غير حقيقية تجاه الإشكالات المطروحة؟
تفكيك الشخصيات
في البدء يجب أن نصف الرواية بأنها يمكن أن تبوب ضمن ما يعرف برواية الشخصيات، أي العمل السردي القائم بشكل رئيس على بناء الشخصيات، وبعد ذلك تأتي أهمية المكان والزمان. وبذلك يخلق السارد في هذا العمل خمس خطوط درامية قائمة على بناء خمس شخصيات رئيسية مثلت العمود الفقري للعمل؛ الشخصيات هي مريم، ميادة، سعد، حيدر، بالاضافة إلى الشخصية التاريخية أحمد، وهو عم الخليفة العباسي الأخير المستعصم بالله.
الشخصية الأولى هي مريم بكر آغا، شابة عراقية الأصل، مولودة من زواج مختلط بين عائلتين سنية وشيعية، تربت في بريطانيا حتى وصلت مرحلة الدراسة الجامعية، تدرس العمارة في جامعة بريطانية وتعاني من صراع هويات بين هويتها المسلمة الأصلية وهويتها الغربية المكتسبة والتي صاغتها في النهاية على شكل تحدٍّ طرحته ضمن مشروع تخرجها الذي تعمل عليه، وهو مشروع معماري لتطوير الحرم المكي، لذلك تذهب لآداء العمرة مع أمها ولقاء أفراد عائلة الأب الذين لا تعرفهم.
رواية الشخصيات تعد من أصعب أنواع السرد، لأنها تقوم على تحدي تعدد الأقنعة التي سيرتديها السارد، والتي يحاول أن يقنع المتلقي عبرها بأن المتحدث في كل مرة هو شخص آخر
أما شخصية ميادة الباقر، فهي أرملة عراقية شيعية من عائلة سادة أو أشراف متزوجة من سني، عانت من مقتل أخيها على يد المسلحين السنة، ثم مقتل زوجها على يد المسلحين الشيعة، ولم تجد أمامها إلا الهروب بابنتها الوحيدة من دوامة الموت في الوطن، تريد ـ كما صورها الحدث المركزي للعمل ـ أن تعرف ابنتها على عائلة الأب، لتربح ودهم وتنهي القطيعة التي فرضتها على البنت تجاه عائلة أبيها، عبر ترتيب زيارة العمرة واللقاء هناك، والأهم أنها تحاول أن تحصل منهم على دعم مالي عن طريق ميراث البنت لتستثمره في شراء بيت في لندن والانتقال للعاصمة لتتوفر للبنت فرصة التعرف على الجالية العراقية والعربية وبالتالي لتزداد فرصها في الحصول على زوج مناسب.
شخصية الدكتور حيدر الباقر، شقيق ميادة، وخال مريم، المتحدر من عائلة سادة أو أشراف تتحدر من نسل النبي محمد (ص)، إلا أنه ذهب بعيدا في تغريبه وارتدى قناع الرجل الغربي المنفتح، والطبيب الاستشاري الناجح الذي تزوج زميلته الصيدلانية الغربية، وربى إبنته الوحيدة على الانفتاح المفرط، ليصاب في لحظة فارقة بصدمة صراع الهويات نتيجة حرية البنت في المجتمع الغربي. يأتي للعمرة كمحرم مع أخته وابنتها، لكنه في الحقيقة كان يبحث عن حل لأزمته النفسية عبر الاغتسال الروحي ومحاولة العودة بحثا عن الأصل الذي ضيعه.
شخصية د.سعد بكر آغا، عم مريم، شقيق عمر بكر آغا زوج ميادة، حاصل على دكتوراه في العمارة من جامعة بغداد، ابن العائلة السنية المرفهة، ابن أحمد بكر آغا الضابط الكبير الحاصل على الدكتوراه في العلوم العسكرية والتاريخ. سعد ذو شخصية عصابية متبجحة، يصاب بأزمة مدمرة عند معرفته أنه عقيم ولا يمكنه الإنجاب، ثم تتوالى عليه المآسي بدءً باغتيال الأخ، ووفاة الأم، وإصابة الأب بالزهايمر، وترك الزوجة له، ليتحول إلى إنسان مختلف يرجع إلى الله بحثا عن الحل، وتأتيه سفرة العمرة للتعرف على آخر حبة في سلسال العائلة، مريم إبنة عمر التي لم يرها منذ أن هاجرت مع الأم وهي طفلة، كما أنه يأخذ الأب ليحقق له أمنية آداء العمرة بصحبة أكثر شخص يحبه، الحفيدة.
أما أحمد، الشخصية التاريخية، فهي شخصية مختلفة عن بقية الشخصيات كونها شخصية تاريخية، نصفها حقيقي تاريخي ونصفها درامي قائم على خيال السارد. كانت أوهى الخيوط في بناء الشخصيات، لأنها طرحت في البدء وقد أحاطها التوقع بأنها ستمثل إطارا تاريخيا سيتم الاستفادة منه في تدعيم السرد، أو تستثمر كمعالجة غرائبية للسرد بطريقة ما، إلا أنها لم تكن بهذا المستوى من التحدي، وأن الربط الوحيد بينها وبين شخصيات العمل أتى واهيا في ختام العمل عن طريق تشابه الأسماء وتماهي شخصية الجد بشخصية أحمد، وهما الباحثان عن بغداد بعد أن دمرها المغول هناك، ودمرها الاحتلال الأمريكي هنا.
كما جاء الفصل الأخير لهذه الشخصية على لسان مساعده إسحاق بالإضافة إلى الاقتباسات التاريخية، تقريريا، إذ أن هذا التكنيك قد أضعف بناء الشخصية دراميا ولم ينفعها أو يدعمها، لأنه أخرج المتلقي من جو العمل السردي ليلج به دهاليز القراءة التاريخية الناشفة والمباشرة.
رواية “كريسماس في مكة” رواية مهمة طرحت موضوعا مهما وخطيرا هو صراع الهويات وتداخل الرؤى بين شخصيات عاشت محنتها داخل وخارج العراق في مغترباتها
شخصيات الظل في العمل كان لها تاثير كبير بالرغم من عدم إفراد مونولوجات خاصة بها في السرد، مثل شخصية عمر بكر آغا، الزوج والطبيب والإنسان المميز المغدور على خلفية طائفية. شخصية الجد أحمد بكر آغا، الضابط الصارم الجاد، الحنون، المعتد بنفسه. شخصية سعاد الدباغ أم ميادة، المديرة الصارمة التي ربت أولادها بطريقة صارمة وجادة من جهة، لكنها متفتحة وحديثة من جهة اخرى. شخصية نزرين صديقة مريم الافتراضية على السوشيال ميديا، الشرقية التي تعيش في الغرب والتي تواجه ما تواجهه مريم من صراع هويات. وكذلك شخصية إسحاق الذي يصاحب أحمد المستنصر بالله عم الخليفة طوال رحلته ليقوم بدور الأذن التي تسمع وتتلقى حوارات احمد وطرح أفكاره وهمومه.
كل هذه الشخصيات نتعرف عليها عبر طرحها والتعريف بها على لسان شخصيات العمل الأساسية، وقد لعبت هذه الظلال دورا مهما في منح السرد الحيوية المطلوبة وتبعده عن مباشرة المونولوجات وهواجسها.
في التكنيك وتحدياته
التكنيك المستخدم في العمل هو ما يمكن تسميته بالمونتاج المتوازي الذي يقوم على سرد كل شخصية من الشخصيات للحدث المركزي الذي ستدور حوله الأحداث، وهو، كما سيعلم القارئ منذ بداية العمل، القيام بزيارة الديار المقدسة في مكة والمدينة المنورة لغرض آداء العمرة، أما الوقت الذي تم تحديده، ولأسباب تختلف باختلاف ظروف الشخصيات، فهو موسم أعياد الكريسماس ورأس السنة الميلادية، لكن ضمن بناء الشخصيات يتضح أن لكل منها غرض آخر خفي يحاول الوصول له بالإضافة للعمرة.
نتيجة بناء السرد بشكل رئيس على شخصيات العمل، نجد أن السارد استخدم صيغة ضمير المتكلم في سرد الأحداث، التي أتت على شكل وجهات نظر، أو نوع من الذكريات، وغالبا على شكل مونولوجات داخلية، لكن، ولإشباع الموضوع والحدث، لم يستطع السارد إلا أن يدخل الحوارات، الديالوجات، في متن مونولوجات الشخصيات، مما تسبب أحيانا ببعض التشوش، وأوحى بالضعف في تكنيك العمل الذي كان منفذا بصرامة في بداية العمل ثم تم تجاوزه، وأصابه بعض التراخي في ضبطه في منتصف العمل.
ويمكننا استثناء الفصل الختامي من الرواية الذي جاء بصيغة شاهول المسبحة، إذ نسير طوال رحلة القراءة بفصول تناوبت الشخصيات على سردها وحملت أرقاما متسلسلة، بينما جاء الفصل الأخير بعنوان: “مطار جدة 31 كانون أول / ديسمبر 2018″على شكل فصل تقريري ختامي، يقول فيه الراوي العليم ما ستؤول إليه الأمور في نهاية العمل بعد أن كان مختفيا خلف قناع الشخصيات طوال الرحلة، وهي طريقة ناجحة للوصول إلى خاتمة ينهي بها السارد دورات الحدث التي يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية في تداعياتها .
ملاحظات نقدية
إن رواية الشخصيات تعد من أصعب أنواع السرد، لأنها تقوم على تحدي تعدد الأقنعة التي سيرتديها السارد، والتي يحاول أن يقنع المتلقي عبرها بأن المتحدث في كل مرة هو شخص آخر. أي أن السارد يتعرض لتحدٍّ أكبر وأشد مما هو الحال إذا ما استخدم تكنيك السرد بضمير الغائب على لسان الراوي العليم، وفي “كريسماس في مكة” كان التحدي واضحا وقد نجح فيه أحمد خيري العمري أحيانا، إلا أنه أخفق في بعض الأحيان.
الملاحظ أن لغة الشخصيات في مونولوجاتها يكاد يكون متطابقا، أي أن الطريقة والصيغ والاستخدامات اللغوية تستخدمها شخصية متوترة مثل سعد بنفس طريقة شخصية حيدر المأزومة وبنفس طريقة شخصية ميادة المحبطة وشخصية مريم المتوثبة. الكل يتكلمون بنفس الصيغة، وهذا تحد يواجه الرواية القائمة على الشخصيات.
لكن في الختام يجب أن نقول أن رواية “كريسماس في مكة” رواية مهمة طرحت موضوعا مهما وخطيرا هو صراع الهويات وتداخل الرؤى بين شخصيات عاشت محنتها داخل وخارج العراق في مغترباتها. وقد بذل الأستاذ أحمد خيري العمري فيها جهدا طيبا، ومثلت إضافة مهمة في مشروعه الإبداعي، فهي رواية تستحق القراءة المتأنية لنستمتع بالجهد المبذول فيها.