كن مثل زيت الزيتون
الشيخ كمال خطيب
ها نحن في الموسم المبارك، موسم قطف الزيتون وعصره ليخرج منه ذلك الزيت الذي يضيئ ولم تمسسه نار، ذلك الزيت المبارك من تلك الشجرة المباركة { زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} آية 35 سورة النور{ وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين } آية 20 سورة المؤمنون. { والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين } آية 1-3 سورة التين. إنه الزيت الذي يستعمل للطعام ويستعمل للعلاج ويستعمل للإضاءة وغيرها من الاستعمالات الكثيرة والفوائد الجمّة.
يحكى أن حوارا جرى بين الزيت وبين الماء، وقد صُبّ الماء في إناء ثم صبّ عليه الزيت، فصعد الزيت إلى أعلى وبقي الماء في الأسفل، فقال الماء للزيت: “أنا ربيّت وأنبت شجرتك فأين الأدب. فقال له الزيت: وأنت في مجرى النهر تسيل في طريق السلامة، بينما أنا صبرت على العصر وطحن الرحى، وبالصبر يرتفع القدر. فقال له الماء: إلا أنني الأصل فلولاي ما كنت أنت ولا كانت شجرتك. فقال له الزيت: استر عيبك فمني يكون النور، بينما لو قاربت أنت فتيل المصباح لانطفأ وذهب نوره ” فبالمجاهدة ترتفع الأقدار.
فكن مثل الزيت فلا تقبل الدون، وابحث دائما عن الأعلى والأسمى والأرقى، كما قال الشاعر :
إذا كنت في أمر مروم فلا تقنع بما دون النجوم
إن المسلم لا يرضى أبدا أن يكون رقما من الأرقام، ولا أن يكون شيئا من الأشياء. إنه لا يرضى ولا يقبل أن يكون إلا حجر الزاوية في كل شيء وعمود البيت من كل شيء. إنه لا يقبل إلا أن تكون يده هي العليا، فاليد العليا خير من اليد السفلى.
إن من الناس من يرضى لنفسه أن يعيش عند السفوح، ويكتفي بذلك لأنه لا يريد المغامرة وصعود القمم، بينما أنت أيها المسلم فمثل الزيت كن واصعد وارق، وابلغ القمم ولا ترض عيش السفوح لأنه عيش الضعفاء ولأنها همّة الجبناء.
فكن مثل الزيت تضيء على من حولك وتشع على من حولك وينتفع بك من حولك. كن مثل القمر المنير بل مثل الشمس الوهاجة،. كن شامة بين الناس كما أراد لك حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم، ليرى الناس اشعاعات النور تنبعث من أخلاقك ومن ألفاظك ومن معاملاتك ومن نفعك للناس في كل شيء، بل ليشعر الناس بغيابك وكأن نورا كان وانطفأ، لأنك كنت بالنسبة لهم شيئا نافعا ونورا ساطعا، بل وبركة كانت تحلّ عليهم، وهذا لن يكون لك إلا إذا كنت مسلما حقا.
فكن مثل الزيت أصيلا ومثل شجرة الزيتون أصيلة، لا يتغير لونها لأنها دائمة الخضرة وليست موسمية، فلا يتساقط ورقها ثابتة راسخة عميقة لا يضرها زمجرة الرياح ولا تتمايل يمنة ولا يسرة لا شرقا ولا غربا. مثل الزيتونة كن ثابتا في عقيدتك، صافيا في فكرك، قويا في انتمائك. مسلم أنت لا شرقي ولا غربي، لا شيوعي ولا رأسمالي، لا يميني ولا يساري. مثل الزيت كن ومثل الزيتونة فلا يضيرك تقلب الظروف والأحوال. كم من محتلٍ مرّ على زيتون بلادنا، وكم غريب جلس تحت ظلّه ذهبوا هم وبقي زيتوننا، رحلوا وسيظلّ زيتوننا وسنظلّ نحن ويظلّ زيتوننا ويرحل الغرباء عنّا بإذن الله فمثل الزيت كن ومثل الزيتون.
كن مثل جابر عثرات الكرام
صحيح أن جار عثرات الكرام هو ليس اسمًا، ولكنها صفة وكنية اتخذها لنفسه الشجاع الجواد عكرمة بن ربعي الفياض، من مشاهير الفضلاء في العصر الأموي. هذا الرجل الذي فطِنَ وتنبه إلى أن ليس الفقراء والمعدومون هم من يجب الانتباه إليهم وتفقدهم بالصدقة والإحسان إليهم، وإنما لا بد من الانتباه إلى أصحاب الفضل وكرام الناس والأوفياء من أهل العلم وأهل الكرم والأغنياء الذين دارت عليهم الأيام وجارعليهم الزمان، فانقلب حالهم من الغنى إلى الفقر، ومن العز إلى الذل ولكن لأنهم يتعففون ولا يسألون الناس إلحافا، فإنهم لا يُشعرون أحدا بضيق ذات اليد وهم الذين كانوا يمدون للناس أيديهم ولا انهم بحاجة إلى المساعدة، بينما كانوا يهبّون لمساعدة غيرهم من غير حاجة أن يسألوهم.
هكذا فعل عكرمة بن ربعي الفياض كما ذكرت كتب الأدب وسير الرجال مع “خزيمة بن بشر الأسدي” والذي كانت له يد طولى وباب مفتوح وعطاء لا ينقطع وتفقد للإخوان ومروءة ظاهرة وهمة للخير لا تبارى. لكنها الأيام دارت والأحوال تبدلت، فافتقر بعد غنى وضاقت عليه الأحوال بعد سعة، ولم يعد قادرا على أفعال الخير التي عوّد الناس عليها وعرفه الناس بها. فذهب إليه عكرمة ليلا ومعه مال، فطرق عليه بابه وقد أخفى معالم وجهه، فلما سأل خزيمة عكرمة عمّن يكون قال له، أنا جابر عثرات الكرام.
ليس جابر عثرات الكرام هو شخص بعينه كما هو حال عكرمة الفياض، ولا الكريم الذي يحتاج إلى من يجبرعثرته هو خزيمة بن بشر الأسدي ليس هذا ولا ذاك، وإن كان كثيرون هم مثل عكرمة وكثيرون غيرهم مثل خزيمة، ولكن الذي لا بد من الإشارة إليه أن هناك من هو أولى بأن نَجبُر عثرته، إنه الإسلام ديننا العظيم الذي فضله علينا أفرادا وأمة لا يعدّ ولا يحصى. إنه الإسلام الذي هدانا من ضلالة وعلمنا من جهالة، ووحدنا من فرقة، ورفعنا من مهانة، وجعلنا في مقدمة الأمم بعد إذ كنا في ذيل القافلة، وبه أصبحنا سادة بعد إذ كنا عبيدا.
فإذا كان الكريم وصاحب الفضل يجدر بنا ولزاما علينا أن نجبر عثرته، فإنه الإسلام الذي عشنا في كنفه وتحت ظلال راية مجده قرونا طوال، أمة واحدة متحابة قوية عزيزة متقدمة في كل شيء. هذا الإسلام الذي دارت الأيام وإذا بالسهام تصوّب إليه، وإذا بالأعداء يتكالبون وبعض الأبناء يعقّون ويغدرون، وإذا به يثخُنُ بالجراح، وإذا بالأقزام يتطاولون عليه وإذا بالسفهاء ينالون منه.
لا أصعب ولا أقسى من أن يرى الوالد ابنه الذي رعاه صغيرا وعلمه كبيرا وتفانى من أجل سعادته، إنه الذي كان يجوع ليطعمه ويعرى ليلبسه ويسهر الليل لينام هو هانئا وادعا، وإذا به لمّا يكبر وتتغير أحواله فإنه يعقّه ويعصيه ويدير له الظهر بل ويقسو عليه ويهينه، ولعله يجوع فلا يطعمه ويمرض فلا يطببه وإن يظن الأرض خيرا من ظهرها في مثل هذا الحال، ولكن لأن الموت بيد الله سبحانه فلن يسعف ذلك الأب إلا دمعات ساخنات يذرفها وإلا زفرات وتنهيدات تنبعث من صدره المكلوم وهو يتذكر ماذا فعل هو لابنه وماذا يفعل به ابنه اليوم.
أيها الشاب يا ابن الإسلام ويا بنت الإسلام، لا تكونوا مثل ذلك الابن العاق مع أبيه، فلا تعقّوا الإسلام الذي ما بخل عليكم بشيء، بل كونوا الأبناء البررة الأوفياء لهذا الدين العظيم، فإن لم تكونوا للإسلام أنتم فمن سيكون؟
أيها الشاب، لقد قالها يوما شاعر مكلوم في وصف الإسلام الذي تكالب عليه اعداؤه ورموه عن قوس واحدة، هذا الإسلام الذي كان هؤلاء يتمنون رضاه ويتوسلون من أجل العيش في أكنافه أو في علاقة طيبة معه :
إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجدا تليدا بأيدينا أضعناه
أنّى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصا جناحاه
ويح العروبة كان الكون مسرحها فأصبحت تتوارى في زواياه
كم صرفتنا يد كنا نعرفها وبات يملكنا شعب ملكناه
فلا يطولنّ هذا الحال يا شباب الإسلام وكفكفوا دموع اسلامكم لينتهي زمن الأنذال وتنطوي صفحة الأقزام، وليعلم أعداء الإسلام أن لهذا الدين أبناء بررة أوفياء لن يعقّوه وأبطالا لن يخذلوه، وإذا كان نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: ” ارحموا عزيز قوم ذل” فارحموا الإسلام أن يصبح ذليلا بعد عز وضعيفا بعد قوة مهانا بعد مجد واجبروا عثرته، وكونوا مثل جابر عثرات الكرام وليس أكرم من الإسلام.
كن مثل أبي ضمضم
بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس يوما مع أصحابه وإذا به يقول لهم: ” أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم. قالوا: وما أبو ضمضم يا رسول الله؟. قال: رجل فيمن كان قبلكم كان إذا أصبح يقول :اللهم إني تصدقت بعرضي اليوم على من ظلمني”.
إنه خلق العفو والتسامح، وسعة الصدر والصفح، إنه خلق من لا يحمل في قلبه الضغينة ولا الحقد على أحد، إنه خلق من لا يبحث عن الانتقام، إنه خلق من لا يبيت وفي صدره غلّ على مسلم، إنه خلق من يعلم أن الناس لن يعاملوه بنفس ما يحب هو أن يعاملهم ولكن هذا لا يجعله يغير أخلاقه ولا يبدل سلوكه، لأنه يحب أن يغفر الله له مثلما يغفر هو للناس ذنوبهم، إنه يريد رضى الله وليس رضى الناس.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إذا جمع الله الخلق يوم القيامة، نادى مناد: أين أهل الفضل؟ فيقوم أناس وهم يسير فينطلقون سراعا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فيقولون:إنا نراكم قليلا، فما كان فضلكم؟ فيقولون :كنا إذا ظُلمنا صبرنا، وإذا أسيء إلينا غفرنا، وإذا جهل علينا حلمنا. فيقال لهم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين “.
ما أجمل مقولة القائل( على المسلم أن يكون مثل الشمس في المنفعة، ومثل الليل في الستر، ومثل البحر في العطاء، ومثل الأرض في التواضع ) وانا أضيف :مثل محمد صلى الله عليه وسلم في حسن الخلق.
يظن بعض الناس بل ويحاول البعض أن يغرس مفهوم أن المسامحة والصفح أخلاق الضعفاء والعاجزين. ولكأني بهذه المعاني والمفاهيم هي من إفرازات المجتمع الذي ابتعد كثيرا عن أخلاق الدين بل أصبحت أخلاقه أخلاق الوحوش المفترسة. ليس معنى التسامح الذلة ولا الخنوع للأعداء ابدا، ولكنها أخلاق المسلم مع أخيه المسلم ومع كل الناس إذا تعاملوا معه بنفس الخلق، ولكن من يريد بالمسلم وللمسلم الذل والهوان والظلم فعندها تكون المعادلة { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يفقهون }.
فكونوا مثل أبي ضمضم، بل كونوا مثل محمد صلى الله عليه وسلم.
رحم الله قارئا دعا لنفسه ولي ولوالدي بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون