لماذا لم يعد المشرق ملهما للفكر في دول المغرب الكبير؟
لم يعد المغرب العربي مجرد “ذيل” لطائر المشرق العربي، حتى وإن قيل قديما إنه كان “ذيل طاووس”، فمنذ عبد الرحمن بن خلدون، الذي ولد في تونس، وكتب مقدمته في الجزائر، قبل أن يتوفى بمصر، في بدايات القرن الرابع عشر، وإلى غاية الوجود الفكري والروحي للأمير عبد القادر الجزائري في بلاد الشام، كان المغرب العربي يحاول ألا يكون “ذيلا” فكريا للمشرق، عبر سلسلة طويلة من العلماء المغاربة، قدموا إبداعات ما زال التاريخ يذكرها بإجلال كبير.
لقد تفرد المغاربة ونافسوا أساتذتهم المشارقة في الكثير من العلوم، بداية من علوم اللغة والنحو مثلا، أين كانت ألفية ابن مالك الشهيرة، هي نَسْج وتقليد لألفية ابن معطي الزواوي الجزائري، صاحب أول منظومة في النحو العربي، كما برع ابن آجروم المغربي صاحب متن الأجرومية الشهير، التي كانت أول كتاب يُطبع في إيطاليا باللغة العربية، وصولا الى الرحالة الكبار، على غرار عبد الله اللواتي المعروف باسم “ابن بطوطة” والرحالة ابن جبير الأندلسي في القرنين الحادي عشر والثالث عشر ميلادي.
لكن، منذ النصف الثاني من القرن العشرين، أخذت حقول الفكر والفلسفة والأدب، تأخذ ألوانا وعمقا مختلفا، في منطقة الشمال الإفريقي، بأشكال أبعد مما كانت عليه المواجهة الفلسفية بين ابن رشد والفارابي، فقد بدأت المركزية المشرقية تتلاشى شيئا فشيئا، رغم بقاء سطوتها إلى غاية الخمسينيات، حيث ما زال وقتها المغرب العربي يحاول التخلص عبر حركات التحرر داخله من الإرث الاستعماري.
اليوم، يكاد الإلهام الذي كان يصنعه المشرق لدى المغاربة طوال قرون طويلة، والمرتبط أساسا بالوحي والديار المقدسة التي ظلت محل تبجيل كبير لدى المغاربة، يكاد هذا الإلهام يتوقف، مع بزوغ نجم أجيال مغاربية مذهلة من المفكرين والأدباء، استطاعت أن تؤثر بإبداعاتها على الفكر المشرقي بشكل واضح، وتنقل حالة “الإلهام” في الاتجاه المعاكس تماما.
لقد شكلت أسماء وازنة بحجم محمد أركون، ومحمد عابد الجابري، ومالك بن نبي، ومحمود المسعدي وطه عبد الرحمن، وهشام جعيط، وعبد الله العروي، وأحلام مستغانمي، وغيرهم، طفرة نوعية في تشكيل العقل المغاربي المستقل، المؤثر لا المتأثر، وهذا لا يعني أن القائمة محدودة أو أن قائمة الأسماء الثقيلة هنا محددة المعالم، على العكس تماما، فمنذ أغاني الحياة التي صدح بها أبو القاسم الشابي، إلى محمود المسعدي ومحمد شكري، تغيرت المعادلة تماما، وصارت أقلام مغاربية فذة أخرى لا يتسع لها المقام، تنافس أكبر القامات المشرقية، ويكفي هنا التذكير فقط بالكتاب والمؤرخين من أمثال أبوالقاسم سعد الله، عبد الله الركيبي، عبد الله شريط، أبو العيد دودو (وإذا أضفنا كتاب اللغة الفرنسية من أمثال كاتب ياسين ومحمد ديب مثلا، نكون أمام باقة يصعب اختراقها مشرقيا).
الخصوصية و”القطيعة المعرفية”
إذا بحثنا في الخصوصية المعرفية المغاربية عن نظيرتها المشرقية، سنجد المرجعية اللغوية تؤدي دورا بارزا في إحداث التمايز، فإذا كان المشرق يعتمد على المورد الأنجلوسكوني، فإن المغرب العربي مرجعيته فرنكفونية، حتى وإن كانت هذه المرجعية ليست كلها ذات منتوج فكري عال، بالنظر إلى ارتباطها بالترويج الغربي والفرنسي تحديدا للكتاب المغاربة باللغة الفرنسية، لأسباب استعمارية بحتة، ويمكن الإشارة هنا إلى الدعم الفرنسي لأمثال ياسمينة خضرا وكمال داود، بينما لم يحظ كتاب جزائريون باللغة الفرنسية بنفس الدعم والترويج في زمن الاستعمار على غرار (ماك حداد ومحمد ديب).
ربما هذا الذي دفع بمحمد عابد الجابري للحديث عما أسماه “قطيعة معرفية” بين الفكر الفلسفي المغربي والفكر الفلسفي المشرقي، حتى وإن حاول البعض ربط ذلك بوجود أثنيات غير عربية (أمازيغية وغيرها لها ارتباطات أوروبية)، إلا أن ذلك لا يفسر حقيقة وجود هذه القطيعة المعرفية إلا في بعض الجوانب.
ويمكن ترجمة حالة القطيعة المعرفية هذه، أو توقف الإلهام المشرقي، بالساحتين الدينية والفنية مثلا لتقريب الصورة، وحتى لا نغرق في الجوانب الفلسفية والأدبية أكثر، والملاحظ أن تراجع تأثر المغرب العربي بالحركات الدينية المشرقية، بات في أشد حالته، على الرغم من أن المغرب ظل يستورد تقريبا “كل البضاعة المشرقية” من قبل في هذا الجانب، بداية بتبني المذهب المالكي تقريبا لكل دول المغرب العربي، مع استثناءات قليلة (الإباضية وهي أيضا ذات منتج مشرقي). ويبرز ذلك جليا حاليا في التجربتين الجزائرية والتونسية في التعاطي مع فكر الإخوان المسلمين مثلا، حيث صارت لهذه التيارات “مدارسهم المحلية” غير المرتبطة بالفكر العالمي الإخواني “المشرقي”، بعد أن اتضحت محدودية تلك المشاريع الفكرية في التأثير على عملية التغيير محليا.
أما في الجانب الفني فالوضع يبدو أكثر وضوحا، فالفنانة وردة الجزائرية ما كان لها أن تشتهر لولا أنها غنت بمصر، وبعدها الأمر ذاته ينطبق على فنانين آخرين من أمثال لطيفة العرفاوي وعبد الوهاب الدوكالي وغيرهم، لكن الوضع الآن اختلف بشكل جذري تقريبا، وقد رأينا كيف أن فنانين مغاربيين وصلوا إلى العالمية، وليس إلى حدود الوطن العربي فقط، من دون المرور على المنصة المشرقية، وقد دشن هذا العهد بوضوح الشاب خالد الذي غزا الأسواق المصرية والمشرقية، رغم ما كان يغنيه من كلام غير مفهوم بسبب اللهجة، لكن الموسيقى العالمية فرضت نفسها، وكذلك حصل الأمر مع الفنان الشاب مامي، والفنان “سولكينغ” اليوم، الذي يتابعه الملايين، والفنان المغربي سعد لمجرد وغيرهم.
وحتى لا يتطور الأمر من قطيعة معرفية إلى قطيعة فنية أو روحية، (أو حتى قطيعة كروية، بالنظر إلى حساسية اللقاءات الكروية مثلا بين فرق المغرب العربي وفرق مشرقية وعلى رأسها مصر مثلا)، من المهم هنا الإشارة إلى أن روح التمرد المغاربي عن “الزعامة المشرقية” نلحظه في أبسط الحركات، فلقد تلقى فريد الأطرش نصيبه من الضرب بالطماطم عند زيارته الجزائر؛ لأنه غنى بساط الريح ولم يذكر فيها الجزائر، وكذلك لقيت زيارة الشاعر المصري الكبير أحمد شوقي للجزائر حالة من الاستهجان، فكان رد الجزائريين على اتهامه لهم بأنهم يجهلون اللغة العربية، بالقول إن شاعرنا الكبير لم يلتق في جولته عندنا إلا بماسحي الأحذية.
فكرة المشرق الملهم
يعتبر الدكتور محمد كاديك المتخصّص في قضايا الأدب والدراسات النقدية والمقارنة، أن فكرة “المشرق العربيّ الملهم” انبثقت مع بزوغ ما يوصف حاليا بـ”عصر النهضة”؛ وانبثقت معها فكرة “المركزية المصرية” و”المركزية السّورية” بما يسوّغهما تاريخيا؛ فالقلوب المغاربية ـ بطبعها ـ تهفو إلى الشرق الذي يحتوي قبلتها، وتهفو إلى كل ما يستعيد إليها عبقرية معارفها، وجمال لغتها التي حرمها الاستعمار منها، بل إنّها ظلت محرومة منها، حتى في أثناء الوجود العثماني بالمنطقة، وهي المرحلة التي يصفها مالك بن نبي بـ”مرحلة ما بعد الموحّدين” وشملت العالم العربي برمّته، واتّسمت بالجمود الفكري والاستسلام للخرافات والتّخلي عن أسباب الحضارة، مكتفية بالهيمنة العسكرية؛ فإذا تحدّثنا عن “مركزية مصرية” و”مركزية سورية”، فذلك لأن مصر سبقت تاريخيا إلى تجاوز الثّغرة التّاريخيّة التي وقع بها العالم العربي؛ وتمكنت بفضل تغييرات عميقة على المستوى الفكري والاقتصادي والاجتماعي (قانون تمليك الأراضي 1823م؛ البعثات العلمية؛ مطبعة بولاق، حركة الترجمة..إلخ) من استحداث حركية ثقافية واكبت التّطلعات السياسية والاقتصادية للأمة، فتحوّلت إلى أرضية خصبة للإنتاج الأدبي والفكري؛ وهي نفس الحركيّة التي شهدتها السّاحة السّورية التي أتيح لها وهي تحت الحماية الفرنسية، مثل نظيرتها المصرية تحت الحماية البريطانية، أن تحرّك عجلة الفعل الثقافي بما هو المحرك الرئيسي للنّضال السياسي؛ وهو ما لفت انتباه البلاد المغاربية التي كانت تبحث عن أيّ خيط نور تتعلق به، لتستعيد ما حرّقه مستعمرٌ غاشمٌ استهدف المكوّنات العميقة لقيمها، وعمل لأجل القضاء على مبادئها.
جدلية المشرق والمغرب (العرفان والبرهان)
ويتعمق الدكتور محمد كاديك في حديثه لـ “عربي21” في موضوع جدلية المشرق والمغرب بالإشارة إلى أنها أثارت في الحاضنة العربية، على الدّوام، ما يراه الدّارسون المحدثون نوعا من التّنافس الفكري والتّسابق المعرفيّ؛ فإذا نبغت “ذات الهمّة” في الشّرق، تنبغ “الجازية” في الغرب؛ وإذا صاغ ابن (معطي) ألفية في علم النّحو، ينبغي أن يصوغ ابن مالك ألفية فائقة عليها، وإذا تحصّل محمد بن شنب على درجة الدكتوراه، فينبغي أن يكون طه حسين قد سبقه إليها؛ ولقد تواترت الحال ـ في سياقاتها الحضارية الراقية ـ وكانت لها ثمراتها التي مهّدت للحاضنة العربية، كي تتبوّأ مكانتها السّامية بين الأمم (إلى غاية سقوط دولة الموحّدين)؛ غير أنّ التّنافس المعرفي لم يكن خالصا للمعرفة في كلّ أحواله، فقد كان يشوبه بين حين وآخر نوع من التّعالي، كأنْ يغالي المشرقيّ في فضل أهل الشّرق وهو يباهي بأنّ الخير كلّه مشرقيّ، حتى إنّ الشّمس نفسها تشرق منه على الآخرين؛ فيردّ المغاربيون قائلين إنّ الشّمس إنّما تطلع من الشرق شوقا إلى الغرب ورغبة في احتضانه.
ولقد سجّل حسن حنفي أن الجيل الجديد من الدّارسين أضاف بعض المغالاة إلى الموضوع حين بدأ يدعو إلى “خصوصية مغاربية، عقلانية علمية طبيعية؛ في مقابل مشرق صوفي إشراقي دينيّ”، وفق المقولة الشهيرة: “شرق العرفان، وغرب البرهان”؛ وهذا ما لمح فيه حنفي، نوعا من الإمعان في تقسيم العالم العربي، بل يراه التّواصل لقسمة نشأت أصلا في حضن الاستعمار، فقطّعت العالم الإسلامي إلى “إسلامي وعربي” أولا، ثم قسمت العالم العربي إلى “مشرقيّ ومغربيّ” في مرحلة تالية؛ غير أنّنا نرى أن تقسيم “العرفان” والبرهان” إنّما هو منتج طبيعي للعقلية الثنائية التي اصطبغ بها فكر النهضة الذي لم يحقق للأمة غايتها من التّاريخ إلى يومنا هذا.
انحسار فكرة “الإلهام المشرقي” طبيعية
ويعتبر الدكتور كاديك الباحث بمخبر الترجمة والمصطلح بجامعة الجزائر، أنه إذا وضعنا في اعتبارنا أن العالم اليوم عرف تغييرات جذرية على مستوى التواصل، وأن الحضارة اليوم إنما هي حضارة معرفة ومعلومات؛ فإننا نرى انحسار فكرة “الإلهام المشرقي” طبيعية للغاية، خاصة أن الوطن العربي ـ في عمومه ـ يتقدّم بأثر رجعي بالنظر إلى وضعه السياسي والاقتصادي العام، أو إلى حال مجتمعاته التي يحيط بها الاستلاب وتغرق في الاغتراب، أو إلى مستوى منتجه الفكري والأدبي؛ فالنقاد العرب ـ على سبيل المثال ـ لم يكفوا عن الخصام حول “أول رواية عربية”، فينتصر فريق لـ”زينب” المصرية، ويغالب فريق آخر بـ”غابة الحق” السّورية، دون أن يعير أي فريق من الفريقين انتباها إلى أن الحديث يدور حول جنس أدبي يعود في أسسه الأجناسية إلى القرن الخامس عشر الميلادي على أقل تقدير، إن لم نعد إلى أشكاله الأولى التي ظهرت في عهد أبوليوس المداوروشي؛ وهو ما يجعل ساحة النقد العربية أشبه بمن يرغب في معاودة اكتشاف الأوكسجين.
ويخلص الدكتور كاديك لتفسيير جذور الاستفاقة المغاربية، بالقول: “إن سبق المشرق إلى تأصيل معالم “النهضة”، كان دافعا رئيسيا إلى استلهام الفكر المشرقي ليكون قاعدة انطلاق نحو التأسيس للفعل الحضاري من جديد بعد الغيبوبة الطويلة في “عصر ما بعد الموحدين”؛ وشهدت البلاد المغاربية حركية ثقافية رفيعة المستوى جعلت هدفها الأول ترسيخ مبادئ الأمة وقيمها؛ ومن الطبيعي أن تشهد ساحة الأفكار تفاوتا في الرؤى، واختلافا في المناهج؛ ويمكن أن نلاحظ بسهولة أنّ الجزائري مالك بن نبي فتح أبواب الظّاهراتية الهوسرلية عام 1943م، بحكم تاريخ إصدار كتاب “الظّاهرة القرآنية”، ومثله موحند تازروت الذي مكّن العالم كلّه من فكر أوسفالد اشبنغلر وفلسفة التاريخ، وحمودة بن الساعي الذي كان له أثره الكبير على الفكر الإنساني؛ بينما بقيت الساحة العربية في عمومها، والساحة المصرية بصفة خاصة، رهينة لسؤال “الشكّ الديكارتي” إلى غاية أواخر الخمسينيات؛ وهو ما يعني تلقائيا أن الفكر المغاربي كان قد انتقل إلى مستويات عليا، وإن لم يتمكن من الانتشار أفقيّا، بحكم الواقع المؤلم الذي كان يعيشه تحت وطأة استعمار بغيض؛ ولكنّ هذا لم يمنع الفكر في البلاد المغاربية من الإسهام في جهد النهضة؛ ولهذا، نعتقد أن “الشرق الملهم” وفّر المادة التي تسمح بتجاوز المحرقة التاريخية التي طبقها المستعمر على البلاد المغاربية عامة، والجزائر بصفة خاصة؛ فلمّا استتب الأمر للبلاد المغاربية، كان عليها أن تأخذ بناصية المعرفة، وتقدم إسهامها في حقول المعرفة على اختلافها؛ وإن بقيت في حاجة إلى الخبرة المشرقية في مجال الطباعة مثلا؛ غير أنّ فكرة “الشرق الملهم” بدأت تخفت شيئا فشيئا، لتحلّ محلّها فكرة “المشرق والمغرب”، في محاولة لاستعادة حوار معرفي كان له وزنه في البناء الحضاري العربي القديم.