بعيون رحالة بريطاني.. ثلاثة آلاف عام من تاريخ العرب
افتتح الكاتب والرحالة البريطاني تيم ماكينتوش-سميث كتابه الجديد “العرب ثلاثة آلاف عام من تاريخ الشعوب والقبائل والإمبراطوريات”، من صنعاء التي تعبث بها الصواريخ والقذائف حاليا وتنام على أصوات المدافع، ولكنها كانت مقر إقامته زهاء عقدين.
يتحدث سميث العربية بطلاقة -باللهجة الصنعانية- وبعد دراسته في أوكسفورد سافر ليستقر في عاصمة اليمن التي يعرف دروبها جيدا ويحمل لها شغفا وتعلقا شديدين.
وينعكس ذلك على كتاباته التي يصفها بأنها “ليست علمية جافة” مثل كتابات الباحثين الغربيين المعتادة، وفي أحد فصول الكتاب يجري مقارنة طريفة بين الشعر الجاهلي ومهرجانات الموسيقى الشعبية والبوب.
ولكن صنعاء التي عرفها سميث لم تعد كما كانت، فالقصف والدمار والدماء والجنود الحوثيون على الأرض والطائرات السعودية في السماء، لا تشبه صنعاء التي يعود تاريخها للعرب القدماء قبل الإسلام، وقد اندثر هذا التاريخ طويلا ويحاول سميث إزالة الغبار المتراكم عليه.
يعود سميث -في كتابه- إلى عصور ما قبل الإسلام، فمنذ ثلاثة آلاف عام كانت السلالات العربية الأولى التي شكلت حضارة العرب بما فيها سبأ وحمير.
ويرى أن قصة العرب هي قصة القبائل البدوية وشبه البدوية والشعوب الحضرية المستقرة على حد سواء التي جمعها لسان واحد ودين واحد .
ويدرس سميث التغيرات الاجتماعية والاقتصادية (التي كان تدجين الهجن واستئناس الجِمال مفتاحها) وشكلت العالم العربي قبل مجيء الإسلام.
وكانت العطور والأحجار الكريمة هي التاريخ البعيد للنفط والغاز في عصرنا الحالي، وشعر العرب دائما بتحدي جيرانهم الآشوريين والفرس والرومان والمغول، وخاضوا الحروب خلف قادة وفرسان أسطوريين وخطباء كانوا على ظهور خيولهم بأسلحة خفيفة.
وكانت المفارقة الكبرى بنجاح الفرسان العرب والفتوحات عبر القارات بنشر لغتهم وعقائدهم في العالم الإسلامي الكبير الذي يضم الآن شعوبا متنوعة مثل الفرس والأتراك والطاجيك والبربر والأفغان، ولكن أدت الهجرات العربية المتتابعة من شبه الجزيرة إلى التصحر الثقافي في مهد الإسلام.
وتأثر سميث بكتابات الرحالة المغربي ابن بطوطة (المتوفى 779هـ/ 1377م) كثيرا، وحرص على أن يقيم علاقة جيدة مع محيطه اليمني ويعلّم الأطفال اللغة الإنجليزية والموسيقى.
محطات بارزة للتاريخ العربي
ويرى سميث أن الفتوحات العظيمة للتاريخ العربي مرت بمحطات بارزة بدءا من انتشار اللغة العربية عبر شبه الجزيرة العربية في القرون التي سبقت الإسلام. وفي مرحلة لاحقة، يروي حكايات الفرسان العرب الذين يخرجون من الصحراء في القرنين السابع والثامن الميلاديين لفتح العالم القديم.
وفي حين يفسر سميث هذا الخروج والفتح في التاريخ الإسلامي التقليدي على أنه مهمة دينية، فإنه يعتبرها استمرارا للتقليد العربي القديم المتمثل في الغارات والنهب، وأكثر من ذلك يجد استمرارية تاريخية مظلمة في الزمن الراهن لهذا التقليد العنيف متمثلة في “نهب” الدكتاتوريين المعاصرين مثل بشار الأسد.
وبهذه المقارنة يتجاهل سميث الفروق الجوهرية بين أعمال النهب القديمة التي قام بها قطاع الطرق العرب، وبين التوسع الحضاري الإسلامي الذي حمل معه معارف وقواعد ونظما إدارية، ولم ينهب المدن المفتوحة بل أقر سكانها على أملاكهم بعد تغيير نظامها الحاكم.
وفي موضع آخر من الكتاب يشير المؤلف لأول تاريخ لنقش عربي معروف عام 853 قبل الميلاد، أي قبل 1400 عام من بعثة النبي محمد.
ويرى أن القبائل والشعوب المتباينة توحدت خلال مرحلة الفتوحات الكبرى من الخليج إلى شمال أفريقيا عبر الكتابة العربية ذاتها، وردد العرب عبارات القرآن الذي “لم يكن الكتاب المقدس للإسلام فحسب، بل كان النص التأسيسي للعربية”، معتبرا أن التاريخين العربي والإسلامي يرتبطان معا ارتباطا وثيقا.
ويحاول سميث إثراء الصورة بتفاصيل مدهشة، فيشير لوصول القوة العربية إلى ذروتها في القرن التاسع الميلادي عندما كان الدينار العباسي يعادل الدولار الأميركي حاليا -في عالميته وانتشاره- كما يشير إلى ما بلغه الإبداع الفكري مستشهدا بمفردات عربية مثل الكحول والجبر، والخوارزمية، وتسارع انتشار العربية عالميا لتصبح “لغة لاتينية جديدة”.
العرب في العصر الحديث
لا يكتفي الكتاب بتاريخ العرب القديم، فموضوعه العرب خلال ثلاثة آلاف عام بما في ذلك الأزمنة الحديثة التي بدأت بالحملة الفرنسية على مصر عام 1798، إذ حملت معها المطبعة، والأفكار القومية التي ينسب إليها “عصر الأمل” القصير والمخيب للآمال والذي تجسد في شخصية جمال عبد الناصر المصرية.
وفي صورة أخرى لعرب القرن الحادي والعشرين يقارن سميث بين هجوم أنصار النظام المصري على ظهور الجِمال بميدان التحرير في ثورة يناير 2011، وبين المتظاهرين المطالبين بالحرية في البلد الذي عرف الحكم الدكتاتوري لفترات طويلة.
ويعتبر سميث أن النجاح الوحيد للعرب في هذا العصر تمثل في الربيع العربي الذي بدأ من تونس (الأقرب لأوروبا) لكنه كان نجاحا نسبيا، وانقلب إلى شتاء أو خريف عربي مظلم فقد عادت مصر لنموذج أكثر دكتاتورية من زمن الرئيس السابق حسني مبارك.
كما أن شيوخ الخليج الذين يبنون ناطحات السحاب ومراكز التسوق أصبحوا ملوكا مطلقين بطريقة غير مسبوقة، وفي سوريا تعاني البلد من ويلات الحرب والخراب في واحد من فصول المعاناة التي لم تنتهِ بعد، بينما لا يزال الفلسطينيون يعانون من توابع وعد بلفور والتقسيم الإمبريالي للشرق الأوسط.
وفي زيارته لموريتانيا -أبعد البلاد العربية-عن اليمن يسمع المؤلف الإيقاعات المألوفة للهجة اليمنية التي يعرفها، وحتى في إسبانيا يشير المؤلف إلى تأثيرات اللغة العربية التي بقيت ثمانية قرون في الأندلس العربي وأثرت اللغة الإسبانية بأربعة آلاف كلمة عربية.
ويرى سميث أن نمو اللغة العربية المكتوبة -في العصور الحديثة خاصة في عصر النهضة الأوروبي-تباطأ لكن سرعان ما ضاقت الفجوة في القرن التاسع عشر وفي العصر الرقمي الراهن، غير أنه يرصد أن التهديد الحالي للعربية يأتي من مصدرين مختلفين تماما، وهما القمع والاستبداد اللذان يهيمنان على عصر “تكنولوجيا المعلومات الخاطئة” وخاصة في العالم العربي.
ويعتبر أن حروب تويتر العربية تمثل جزءا من مشهد عربي معاصر يمكن مقارنته بما مثلته الكتابة على الجدران وشواهد القبور في عصر ما قبل الإسلام، مفترضا أن العيش وسط كآبة ويأس العالم العربي الحالي يعد مثالا على الشقاق الذي يفرض القرآن على المؤمنين تجنبه.
وينتقد المؤلف بشدة الجماهير التي لا ترغب في الحرية، لكنها تريد نموذج “الديناصورات” أو الحكام الأقوياء المستبدين، مستشهدا باعترافات من عراقيين وليبيين قالوا له “نحن لسنا بحاجة إلى الديمقراطية. نحن بحاجة إلى زعيم قوي”.
ويرى سميث أن شمس الحضارة العربية وقعت في أيدي قادة دكتاتوريين، ولم تعثر الديمقراطية على أرض خصبة في العالم العربي.
وفاز كتاب سميث الأول “اليمن: رحلات في قاموس الأرض” بجائزة توماس كوك لكتب السفر والرحلات عام 1998. أما كتابه أو رحلته التالية فتناول فيها رحلات الرحالة المغربي ابن بطوطة في القرن الرابع عشر الميلادي/ الثامن الهجري عبر العالم الإسلامي القديم.
ويعد كلا العملين من أبرز كتب نيويورك تايمز، ويستعرض كتابه “قاعة الأعمدة الألف” مشاهد مغامرات ابن بطوطة الهندية وتم نشره عام 2006.
وفي مايو 2011، تم اختيار سميث من قبل مجلة نيوزويك، واحدا من أفضل كتّاب السفر والرحلات الاثني عشر في المئة عام الماضية.
ونشر سميث في أغسطس/آب 2010 سلسلة “الوصول إلى اليابسة: على حافة الإسلام”، وتتبع فيها ابن بطوطة وجولات المغاربة من زنجبار إلى قصر الحمراء (بإسبانيا حاليا)، وحتى الصين وتمبكتو، وحصل الكتاب على جائزة ابن بطوطة من المركز العربي للأدب الجغرافي.
المصدر: الجزيرة