مسجد “نيوجيه”… عنوان المسلمين الأشهر في الصين
ثمة طقوس بديعة في صلاة الجمعة بمسجد نيوجيه في بكين بالصين، لا يمكن أن تشاهدها في بلد آخر، فما أن يحين منتصف النهار، ويقترب وقت صلاة الجمعة، حتى يشق ساحة مسجد نيوجيه، أقدم مساجد العاصمة الصينية بكين والذي بني عام 996 ميلادية، ستة من الأئمة المسلمين الصينين، متوجهين إلى صدر المسجد، ليجلسوا القرفصاء ويبدأوا في تلاوة سور من القرآن بأصواتهم الجميلة. بشكل منفرد يقرأ كل عالم منهم بعضاً من السور، ليتبعه الآخر، حتى ينتهي الجميع، بينما أورقة المسجد الذي يتميز بطريقة بنائه على الطراز الصيني تمتلئ بالمصلين. وحينما يحين موعد الصلاة، يقوم أحد العلماء بإلقاء درس ديني باللغة الصينية، يتضمن آيات وأحاديث قرآنية بالعربية، وما أن يؤذن لصلاة الجمعة، حتى يؤدي المصلون ركعتا السنة، ثم يرتقي الإمام المنبر، ويقرأ الخطبة باللغة العربية، وهي خطبة عادة تكون قصيرة، ثم يؤدي الإمام والمصلون صلاة الجمعة جماعة.
وأهم واجبات الإمام أداء الشعائر الدينية والواجبات الشرعية داخل المسجد وخارجه، ومن ذلك أنه يؤم المصلين، ويعظهم ويلقي الخطبة ويلبي الاحتياجات الدينية للمسلمين المقيمين حول المسجد والتابعين له، فيشرف الإمام على عقد القران ومراسم الجنازة للمسلمين.
ويرجع تاريخ دخول الدين الإسلامي إلى مدينة بكين إلى ما قبل أكثر من ألف سنة. ويبلغ عدد المساجد في الوقت الحالي سبعين مسجدا تقريبا، ومن بينها مسجد نيوجيه الذي يعتبر أقدم وأكبر مسجد في بكين.
وتبلغ مساحة مسجد نيوجيه، الذي بناه، حسب المراجع التاريخية، أحد أبناء شيخ عربي يدعى ناصر الدين ابن قوام الدين، حوالي 6000 متر مربع. ومع أن مبانيه لا تختلف عن القصور الكلاسيكية الصينية شكلا وتوزيعا، إلا أنها مميزة بالزخارف الإسلامية الطراز. وتتكون قاعة الصلاة من ثلاثة مبان تتسع لقرابة ألف مصل في آن واحد. وتتميز قاعة الصلاة بكونها مبنى كلاسيكيا صينيا نموذجيا بما تتميز به من الأفاريز المرفوعة والتركيبات الخشبية الزاهية الألوان، غير أن زخارفها الداخلية إسلامية الطراز. أما محراب قاعة الصلاة فمسقوف بمقصورة مسدسة الأضلاع مخروطية الشكل مميزة بالسقف الدائري الملون من عهد أسرة سونغ (960 – 1279م)، وعلى جدرانها الجنوبية والشمالية نوافذ منقوشة بالكتابات العربية. وفي قاعة الصلاة ثماني عشرة دعامة وواحد وعشرون عقدا. وتظهر على عتبات العقود العليا نقوش من الآيات القرآنية والتسابيح الإلهية والمدائح النبوية. وعلى جنبات الدعامات القرمزية اللون نقوش لزهور مموهة بالذهب، وهو ما يشكل مع الثريات المعلقة في القاعة منظرا فريدا من نوعه.
وبالمسجد منبر خشبي تتجلى فيه فنون الحفر الخشبية، وقيل إنه أحضر من اليمن منذ 100 عام تقريبا، وتوجد أمام قاعة الصلاة مقصورة تتم مشاهدة الهلال منها في سائر الأشهر العربية، خاصة خلال شهر الصيام.
وحسب الروايات التاريخية، يوجد في الركن الجنوبي الشرقي من المسجد ضريحان للشيخ أحمد البرتاني المتوفى سنة 1280م، والشيخ عماد الدين المتوفى سنة 1283م، وهما من علماء الإسلام العرب الذين جاؤوا إلى الصين لنشر الإسلام. وتنتصب بجوار هذين الضريحين شاهدتان منقوشتان بكتابات عربية واضحة الخطوط حتى يومنا هذا.
ومن ضمن محفوظات المسجد لوح منقوش عليه أمر أعلنه الإمبراطور كانغشي سنة 1694م بخصوص المسلمين. إذ قيل إنه حينما وجد أحد الحاقدين على الإسلام المسجد مضاء بالأنوار المتألقة في ليالي رمضان، وشى بالمسلمين إلى الإمبراطور بدافع التقرب إليه، وزعم قائلا: “إن المسلمين يجتمعون ليلا، ويتفرقون نهارا، فيبدو أنهم يستعدون للتمرد”. فتوجه الإمبراطور في بزة مدنية إلى المسجد خفية للتحقق من الأمر. ولكن تبين له أن كل ما ورد في وعظ الإمام هو من التعليمات الإسلامية الداعية إلى الخير والناهية عن الشر، فما لبث أن أصدر أمرا جاء فيه: “ليكن في علم جميع المقاطعات أنه إذا افترى أحد الموظفين أو الرعايا على المسلمين بالتمرد، متذرعا بذريعة تافهة، فلا بد من معاقبته معاقبة شديدة قبل استشارة القيادة العليا. وليتمسك المسلمون بالإسلام دون السماح لهم بمخالفة أمري هذا”.
وقد كان مسجد نيوجيه صغير الحجم في بادئ الأمر، ثم أصبح على الصورة التي نراها اليوم بعد توسيع بنائه مرارا في عهد أسرتي مينغ وتشينغ (1368 – 1911م). وفي سنة 1474م أطلق الإمبراطور عليه اسم لي باي سي الذي يعني (دار الصلاة). ولما تم ترميمه سنة 1696م على حساب البلاط الإمبراطوري منح لوحا مكتوبا عليه “دار الصلاة الإمبراطورية”.
وبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية سنة 1949، خصصت الحكومة مبلغا لترميم مسجد نيوجيه ترميماً شاملاً. ولكنه عانى من التخريبات الخطيرة خلال “الثورة الثقافية”، كما أغلقت أبوابه أكثر من عشر سنوات. وفي سنة 1979 تم ترميمه بصورة شاملة، وعادت إليه الحياة من جديد، وتم إدراجه ضمن المواقع الأثرية والمحميات الثقافية الصينية، وفي سنة 2005 تم إعداد مشروع كبير لحماية المسجد. وتتولى الجمعية الإسلامية أمور المسلمين ومساجدهم، وقد تأسست هذه الجمعية سنة 1953، وتقوم بالتنسيق مع الجهات الحكومية في ما يخص أحوالهم وقضاياهم.