معجم الدوحة التاريخي للغة العربية.. خطوة في الاستعداد الحضاري
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
أشهِر يوم الاثنين الماضي في العاصمة القطرية، الدوحة، المعجم العربي لتاريخ اللغة العربية وأسمي بالمدينة التي احتضنت العمل الموسوعي الفريد من نوعه في تاريخ اللغة العربية وإن كان قد سبق أهل الدوحة إلى مثل هذا العمل دول اوروبية تخص لغاتها كبريطانيا واللغة الانجليزية وألمانيا واللغة الالمانية وفرنسا مع الفرنسية ومؤخرا اسرائيل مع العبرية أسست السبق لأنواع من الإمكان الحضاري عندهم ولتعزيز هوياتهم القومية، وتأكيد محورية اللغة في لبنات البناء الحضاري والثبات القومي.
وقد حدثت في تاريخ العرب الحديث محاولات متواضعة للقيام بمثل هذا العمل توقفت لأسباب كثيرة لعل أهمها أن هذا العمل يحتاج أن ترعاه دولة ويحتاج الى قرار سياسي وسيادي، وبذلك تكون قطر فاتحة ورائدة لهذا المشروع العملاق وحري أن يسمى المشروع على اسم عاصمتها.
كل محب للغة الضاد سمع عن هذا المشروع تداخلته فرحتان الأولى تتعلق باللغة العربية ذاتها المحروسة بحراسة الكتاب المبين وأننا أمام لحظة تاريخية هامة جاءت متناسبة مع لحظات عجز تتغشانا، لحظة انطلاق هذا المعجم الكاشف لتاريخ ألفاظ العربية وعمقها التاريخي، ليؤسس لبعث حضاري نترقبه جميعا والفرحة الثانية أنّ لحظات البعث الحضاري في كل شعوب الأرض المالكة لناصية حركة الحياة اليوم بدأت بثلاثة تداخلات: حفظ اللغة، وتواصل حضاري مع الحضارات الاخرى دون الانصهار بها، ووجود قرار سيادي لخوض مركب الحياة على أسس من العلم والتقانة يكون احترام اللغة ومأسستها وتثويرها سبب مباشر في تفعيل إرادة الاستعداد الحضاري.
هذا ما حدث على سبيل المثال لا الحصر في أوروبا فكانت إمارات إيطاليا التي تواصلت مبكرا مع العالم الاسلامي بدايات انطلاق شعلة الحضارة الاوروبية وكان تواصل انكلترا في بدايات القرن الثالث عشر مع العالم الاسلامي شعلة الانطلاق الحضاري ولا ابعد القول أن قطر في مشروعها هذا وما يُسمعُ عنها من تواصل وعمل دؤوب داخلي يشكل أساسا عربيا لبعث حضاري طال انتظاره.
تأتي أهمية هذا المشروع الموسوعي لمقارباته الزمانية والتحولات الحضارية والمدنية الجارية في دنيا العرب والمسلمين ففي حين ينكب العجم من المسلمين على اكتشاف دينهم بالعودة لدراسة وتعلم العربية وافتتاح التخصصات المختلفة نجد عربنا قد أذهلتهم سوق المادة والركض وراء تافه القول والعمل وصارت اللغة العربية عند المرضى والمتحولين منهم سُبَة خاصة، وللأسف، ابناء الجزيرة العربية، وهنا لا أعمم حيث تسيطر الانجليزية، وقريبا العبرية، على أجيال (الواي) التي فقدت صلاتها بحضارتها ولغتها ودينها، وكون هذه الموسوعة تصدر من مدينة صغيرة في جزيرة العرب هو رد اعتبار لها ولأهلها وتأكيد على هويتها العربية الإسلامية وأن الطارئ لا يكون أبدا حالة ثابتة وأنَّ هذا الشرود سببه الامتهان والدونية والسلبية التي يعيشها عرب هذا العصر فالمشكلة ليست في لغتنا بل في أنفسنا ولربما لا نبالغ أذا قلنا أن عودتنا إلى لغتنا العربية القرآنية هي عودة للذات وانتصار على واقع طارئ بفعل عوامل الهزيمة للأن اسباب التحولات الحضارية ترتبط اساسا بالتحولات الذاتية على مستوى الانفس ابتداء.
وفقا للقائمين على المشروع فقد تم الفراغ من المرحلة الأولى من هذا المشروع، وهي جزء من خمسة مراحل وقد شُرعَ بهذه المرحلة عام 2013 وامتدت معالجاتها اللغوية في سير الزمن من 550عام قبل الهجرة وإلى 200 عام بعدها وهذه هي المرحلة الاولى وهي الأصعب والأشد وعورة، وسيستمر المشروع بالصدور تباعا، وبهذا تكون الدوحة صاحبة السبق وبحق في الشروع بمثل هذا العمل الفذ.
هذا العمل الموسوعي الذي تهيب ولوجه علماء اللغة العربية وإن زاولهم الطمع في تحقيقه سيكتب التاريخ أن الدوحة بحكومتها قد أنجزت عملا يشكل لبنة أساس في العودة الصحيحة إلى الذات العربية وخطوة أولى نحو الاستعداد الحضاري الذي يشكل دائما الخطوات واللبنات الأساس نحو أي بعث حضاري فما من أمة بعثت حضاريا ألا بعد أن احترمت لغتها وعملت على حفظها معنى ومبنى وتاريخا ولذلك وجدنا دولا كألمانيا وهولندا وفرنسا وبريطانيا وإسرائيل سعت لمثل هذه الاعمال: الحفظ التاريخي لألفاظ لغاتهم، وتشهد عصور الفِعل الحضاري كم كان العالم يهتم باللغة العربية لدورها في تلكم المرحلة من تاريخ البشرية بالفعل الحضاري ففي كتابه “الأتراك والانكليز والمغاربة في عصر الاستكشاف” يذكر نبيل مطر أنَّ حقلَ الطب والعلوم كانا من الحقول التي شكلت تواصلا حضاريا بين المشرق وبلاد المغرب” ومن حقول الاتصال الأخرى حقل العلم والطب ففي سنة 1582 أمضى شخص اسمه نقولا الذي قد يكون نكلس كابري وهو صيدلاني وُلزِنْغُمْ أربع سنوات في اسطنبول وهو يجمع المعلومات عن الأدوية والعلاجات. وقد كان الطب الإسلامي موضوعا دراسيا مهما للأوروبيين أذ كان يُطلب من كل الأطباء في العصور الوسطى أن يدرسوا كتابات الرازي وابن سينا وابن رشد. وفي سنة 1593 نشر كتاب القانون لابن سينا باللغتين العربية واللاتينية في روما ليكون كتابا جامعيا مقررا في الطب-ص132″.
كل دارس لعلم الحضارة يعلم أن اللغة أساسا من أسس البناء الحضاري لأي أمة كانت ، وكلما كانت الامة عزيزة الجانب قوية الجناح كانت لغتها كذلك مؤثرة في غيرها من الامم وقد جاءت على الامم عهد كانت اللغة العربية مصدر الالهام والإبداع الحضاري وتركت اللغة العربية أثارها وكلماتها في اللغات الفارسية والتركية والاوردية والسواحلية وقد أدخلت العربية اليها العديد من حروفها وألفاظها وأدَّى تداخل العربية باللغات الاخرى في بلاد الرافدين إلى اختفاء لغات تلكم الشعوب لصالح اللغة العربية، وكلما تقدمت الامة حضارة كلما ارتقت لغتها وأبدعت باكتشاف الالفاظ تبعا لإبداعها الحضاري في كل مجالات الحياة.
ولعلنا نحن ابناء الداخل الفلسطيني برسم عيشنا على ارضنا مع اليهود نلحظ مدى اهتمامهم بلغتهم وعبرنة الكثير من الكلمات والمصطلحات طمعا بتأسيس حضاري، والحركة الصهيونية في أسسها الاولى أولت الاهتمام باللغة العبرية كأساس جامع لهوية قادمة على أرضنا ففي عام 1953 تأسست أكاديمية اللغة العبرية وكان الهدف من إنشائها العمل على إغناء اللغة العبرية بالألفاظ العبرية لتكون اللغة الرسمية لدولة جديدة يتكلم سكانها لغات عدة وينتمون إلى ثقافات مختلفة . في عام 1955 شرعت هذه الاكاديمية بتصنيف تاريخي للغتهم بدأ تتبع الألفاظ من 200 ق.م الى التاريخ المعاصر واستغرق هذا العمل المدعوم رسميا ستة عقود كاملة .
اللغة العربية حية لا تموت وهي اللغة الوحيدة من كل لغات العالم التي مضى عليها، كما تشير مقدمة المعجم الالكترونية، أكثر من عشرين قرنا دون أن يلحق قوانينها وقواعدها العامة الصوتية والصرفية والتركيبية النحوية تغير ذا اهمية بالنسبة لبى نظامها فلغتنا لم تعرف ما عرفته لغات أخرى قديمة من تغييرات كالفارسية واليونانية او لغات حديثة كالإنجليزية والفرنسية والالمانية وهو ما جعل هذه اللغات تُقسم الى مراحل قديمة ووسطى وحديثة . وهذا الثبات سر من أسرار متانتها وديمومتها ولا ننسى ابدا في هذا المقام دور القران الكريم في حفظ هذه اللغة بل وإثرائها وقد اعتمد القائمون على المعجم، القرآن وبيانه اساسا مرجعيا للألفاظ في سيرها الزمني ولربما شكلت هذه المعالجات في هذا المعجم اساسا ثرا لفهم بعض معاني الكتاب العزيز من حيث اختلافها تبعا لهذا السيرورة، ثم كان الاعتماد على الأحاديث النبوية الشريفة الصادرة عن رسولنا محمدﷺ وأقوال الشعراء والنقوش القديمة المكتشفة … ووفقا لهذا المعجم فإنَّ اللغة العربية هي أقدم اللغات وأثبتها وأكثرها حياة وحيوية واستعدادا لريادة المستقبل خاصة وأن تتبع الالفاظ العربية سيفيد اهل البحث والدراسات الدلالية التي بات سوقها اليوم رائجا وسيكون مرجعا في اعادة قراءاتنا لعديد الطروحات المتعلقة بقضايا الاجتماع والسياسة والحضارة عند العرب فعلى سبيل المثال لا الحصر عرف العرب السياسة 200 عام قبل الهجرة فيما عرفوا العدالة قبل 86 عاما من الهجرة وهذا يحمل علاقات مفاهيمية بين السياسة والعدالة تثري العقل السياسي العربي والمؤثرات التي دخلت على هذه المعاني وتدلياتها السلوكية في ما سمي في ميراثنا السياسي “سلوك الملوك وتدبير الممالك”، وكذلك، مثلا، كلمة الله فقد عرفها العرب بمعناها الواحد الاحد المعبود قبل 431 ق.هـ أي 231م وهذا سيمكن الباحثين في تتبع التوحيد في جزيرة العرب والتقلبات التي جرت وكيف استقرت عقيدة التوحيد في هذه الجزيرة.
وتؤكد مقدمة المعجم الالكترونية على أهمية التتبع الزماني لمعرفة الوجه الدلالي للألفاظ العربية وموضعتها في سياقها الصحيح “… بحكم كونه معجما لغويا تاريخيا فهو يجمع ألفاظ اللغة العربية المستعملة في نصوصها المطبوعة منذ أقدم استعمال لها وأياً كان مكان استعمالها الجغرافي ويعرض “ذاكرة” كل لفظ من ألفاظها، فيؤرخ لاستعمالها ولتاريخ تطورها بنيةَ ودلالةَّ”.. إذ بهذا التتبع الزماني -الدقيق قدر المستطاع- يمكن أن يؤسس أهل البحث والدراية لنظريات جديدة فاتحة في عديد القضايا والمواضيع وقد تتغير دعاوى وطروحات كذلك.
إذا كانت السيادة اللغوية في مسيرتنا الحضارية ترتكز على ثوابت الأمة: الدين واللغة العربية والتراث المعرفي فإنَّ هذا التراث كتب باللغة العربية وحُفِظَ باللغة العربية ولا تزال آلاف المخطوطات في مختلف العلوم كتبت بالعربية حبيسة تنتظر من يزيل عنها الغبار ويخرجها الى النور.
لا يسعني الا القول شكرا لقطر والدوحة شعبا وأميرا وكل من قام على هذا المشروع العملاق الكبير.