بين ربيعين.. الربيع العربي و ربيع أمتي
الشيخ كمال خطيب
# # الربيع العربي
بعد أيام قليلة وتحديدًا يوم 17/12 سنكون مع الذكرى الثامنة لانطلاقة أولى ثورات الشعوب العربية ضد طواغيتها. هذه الثورات التي عرفت باسم ثورات الربيع العربي، كانت البداية في تونس يوم 17/12/2010 بعد الحادث المأساوي الذي تمثل بإحراق الشاب الجامعي محمد بوعزيزي نفسه. إنه الشاب الذي لم يجد فرصة للعمل في تخصصه، فاضطر لاقتناء عربة يبيع عليها الخضار. حتى هذه كانت سببًا لمأساته حين قامت الشرطة بمصادرتها، والأنكى والأشد إيلامًا أن شرطية تونسية قامت بصفعه في الشارع العام، فكانت لحظة الغضب واليأس وقلة الحيلة، فقام بإشعال النار في جسده يرحمه الله.
أشعل محمد بوعزيزي النار في جسده، فاشتعلت نار الثورة في تونس ضد الظالم والطاغية زين العابدين بن علي، حتى اضطر تحت غضب الجماهير الثائرة للهروب يوم 14/1/2011 فلم يجد إلا السعودية لتستقبله، وما يزال فيها حيث الطاغية بن علي في حماية الطواغيت من آل سعود.
ومن تونس انطلقت شرارة ثورات الربيع العربي إلى مصر. ومن شوارع مصر ومساجدها انطلقت صرخات الغضب ضد الطاغية حسني مبارك لتبلغ ذروتها يوم 25/1/2011 بإعلان خلع حسني مبارك، وفي 11/2/2011 انطلقت ثورة الشعب اليمني ضد طاغية اليمن علي عبد الله صالح، وفي 17/2/2011 انطلقت ثورة الشعب الليبي ضد طاغية ليبيا معمر القذافي، وفي 18/3/2011 انطلقت ثورة الشعب السوري ضد طاغية سوريا بشار الأسد.
لم يكن أحد أن يتوقع أن الشعوب العربية المقهورة والمظلومة ومكسورة الخاطر يمكن أن تثور وأن تغضب وأن تصرخ في وجه ظلّامها، لا بل إنها تضطرهم للهرب أو للتنازل أو حتى أن يداسوا بالأقدام كما كان حال القذافي.
نعم لقد كان ربيعًا حقيقيًا أزهرت فيه أمتنا بعد طول أفول وذبول، وظهرت شعوبنا في عنفوان شبابها وقد ظنوا أنها شاخت وهرمت ولن تقوم لها يومًا قائمة.
لقد تردد صدى هدير ثورات الربيع العربي في ردهات البيت الأبيض وفي دهاليز الكرملين وفي مراكز مخابرات بريطانيا واسرائيل وغيرها من دول الشر، فتداعى كل هؤلاء عبر أذنابهم وعملائهم في السعودية والإمارات وغيرها من إجهاض هذه الثورات المباركة والانقلاب عليها.
إنهم كانوا على يقين أن كرة الثلج بل إن شرارة نار الثورة لن تتوقف في القاهرة ودمشق، وإنما ستصل إلى الرياض وأبو ظبي وكل عواصم الطواغيت العرب، لذلك كانت خطواتهم متسارعة عبر انقلاب دموي في مصر، وعبر تمكين الحوثيين من احتلال صنعاء في اليمن، وعبر إنزال جيوشهم ومرتزقتهم الطائفية في سوريا. كل ذلك للحيلولة دون أن يتحول ربيع مصر وسوريا واليمن وليبيا وتونس إلى ربيع كل العرب من المحيط إلى الخليج.
لقد رصدت أجهزة مخابراتهم هوية هذا الربيع، وقد رأوا اختيار الشعوب لأبناء المشروع الإسلامي في أول تجربة انتخابية “قريبة من النزاهة” كما في مصر وتونس، ورأوا قبل ذلك أن المساجد كانت هي منطلق تلك الثورات، فعرفوا يقينًا هوية شعوبنا ووجهتها الفكرية والثقافية والعقائدية، فكان لابد من التحرك.
نعم لقد عملوا لتحويل ذلك الربيع إلى خريف ونجحوا في ذلك نسبيًا ومؤقتًا، ولكنهم وبغباء كبير فإن موقفهم هذا قد جعل حجم الغضب الذي كان في بداية 2011 يتراكم، وإذا كان الغضب والنقمة على الغرب والشرق وعملائهم محدودًا فإنه اليوم غضب شامل وواسع، وإن ملامح الانفجار قريبة، وإن شرارة الانطلاق مسألة وقت، وإن كل عاقل ومراقب يدرك بل ويرى أن تحت الرماد وميض نار.
وإذا كانوا قد عملوا بل مكروا مكر الليل والنهار لتحويل الربيع العربي إلى خريف عربي عبر ما أحدثوه من جراحات وآلام أثخنوا بها الشعوب، وقد سعوا لأن تصبح الشعوب تترحم على ظلم حسني مبارك مما رأوه من ظلم السيسي، إلا أنني على يقين أن أجهزة مخابراتهم ومراكز دراساتهم بدأت تستشعر وتلمح إلى تطورات ستشهدها المنطقة العربية، ليس أنها ستتحول إلى ربيع عربي جديد بل إنها ستتحول إلى شتاء إسلامي قارس. وإذا كانت السعودية رأس الحربة في محاربة الربيع العربي وظنت أنها في أمان، فإنني على يقين أن الملامح باتت تشير إلى أن رياح التغيير بدأت تزمجر في أرض الحجاز وستطيح وتقتلع هؤلاء الفاسدين من آل سعود قريبًا بإذن الله تعالى.
## ربيع أمتي
فإذا كنا يوم 17/12 القريب على موعد مع ذكرى بداية ثورات الربيع العربي، فإننا وبعدها بأيام، أي في 23/12 سنكون مع بداية فصل الشتاء، الشتاء الذي شبّهه النبي صلى الله عليه وسلم أنه ربيع المؤمنين من أمته وقد قال: “الشتاء ربيع المؤمن طال ليله فقامه وقصر نهاره فصامه”.
إنه الشتاء فيه يرتع المؤمن في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات وينزه قلبه في رياض الأعمال التي تقربه إلى الله سبحانه، وهي ميسّرة له في الشتاء حتى أن أحد الصالحين قد أسمى صيام الشتاء بأنه “الغنيمة الباردة”، لأن عبادة الصيام فيها تحصل من غير تعب ولا من جوع أو عطش. إنه الشتاء، ليله طويل فتأخذ النفس حظها من النوم، ثم يكون نصيب من الليل للصلاة ولقراءة القرآن وللأذكار، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “مرحبًا بالشتاء فيه تنزل البركة، يطول الليل فيه للقيام ويقصر النهار فيه للصيام”. وكان عبيد الله بن عمر إذا جاء الشتاء قال: “يا أهل القرآن قال طال ليلكم لقرائتكم فاقروا، وقصر النهار للصيام فصوموا”.
ومع أن الشتاء هو ربيع المؤمن وهو ربيع الأمة، إلا أن العبادة فيه فيها مشقة ما يجعل الأجر والثواب فيه أعظم مما سواه من باقي أيام وفصول العام. نعم إنه يشق على النفس وهي تستمتع بالدفء في الفراش أن تقوم للصلاة في برد الليل في الشتاء، لكن ذلك القيام له في ميزان الله ما لا يعلمه إلا الله، فقد ورد عن داود ابن رشيد أنه قال: “قام بعض إخواني إلى وردهم بالليل في ليلة شديدة البرد، وكان على أحدهم ثوبان فضربه البرد من شدته فبكى ذلك الرجل، ثم إنه لمّا قام بعدها سمع هاتفًا يهتف به يقول: أقمناك وأنمناهم وتبكي علينا؟”.
ثم إنه يشق على النفس كذلك ما تجده من لذع البرد بما يحصل من إسباغ الوضوء في شدة البرد وينسى ذلك المتألم ما ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات. قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط”.
ومن هذا الفهم لقيمة ودلالة عظيم الأجر والثواب مما يحصل من أثر الوضوء والصلاة في برد الشتاء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أوصى ابنه عبد الله قائلًا له: “يا بني عليك بخصال الإيمان، قال: وما هي. قال: الصوم في شدة الحر في الصيف، وقتل الأعداء بالسيف والصبر على المصيبة وإسباغ الوضوء في اليوم الشاتي”. ومع أنه عمر نفسه رضي الله عنه وما علمه من فضائل الشتاء وأنه ربيع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أنه كان رضي الله عنه إذا حضر الشتاء بعث إلى أمراء الولايات الباردة يوصيهم بالمسلمين قائلًا لهم: “إن الشتاء قد حضر وهو عدو فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف، واتخذوا الصوف شعارًا ودثارًا، فإن البرد سريع دخوله بعيد خروجه”.
## لا تخافوا على ربيع أمتكم وخافوا على ربيع إيمانكم
رغم المكر والكيد والعداء السافر لأمتنا من الشرق والغرب من اليمين واليسار من روسيا وأمريكا ومن عملائهم وأذنابهم أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة والسمو والمعالي، ورغم أنهم قد رصدوا كل إمكاناتهم لتحويل الربيع العربي إلى خريف فيه كل معاني القحط والجفاف والذبول والأفول وزمجرة الرياح، إلا أننا مطمئنين واثقين من أن الربيع العربي وإن كان مرّ بتقلبات خطيرة واعترضته عثرات ومطبات صعبة وصعبة جدًا، إلا أنه سيتجاوزها بإذن الله، وبإرادة شعوبنا. وأن هذا الربيع يوشك بإذن الله أن يزهر من جديد، ليس فقط ياسمين تونس والشام وإنما سيزهر جيلًا مباركًا يزمجر زمجرة الأسود يجعل أعداء الإسلام وأذنابهم من الأقزام الصغار، يتمنون لو أن أمهاتهم لم تلدهم.
إنه الربيع العربي ليس أنه لن يكون خريفًا، بل إنه سيكون شتاء إسلاميًا قارسًا، بل سيكون تسونامي وطوفان يجرف ويقتلع كل رموز الشر من الطواغيت ومن أعداء الإسلام، وكما قال الشاعر:
ظن الطغاة بأن نار جحيمهم أقوى من الإيمان بالقرآن
لا والذي جمع القلوب بشرعه لا لن يطول تجبر القرصان
أُسد العقيدة لن يداس عرينها ستهب كالإعصار كالطوفان
ستموج تقتلع الطغاة لتعتلي فوق العروش شريعة الرحمن
وإذا كنا غير خائفين على مستقبل الربيع العربي وأنه لن يتحول خريفًا إلا أننا يجب أن نخاف كلنا، ويخاف كل واحد منا أن يتحول ربيعه الشخصي إلى خريف. نعم يجب أن نخاف من أن يتحول ربيعنا الإيماني إلى صحراء قاحله فنضلّ بعد هدى، أو نعصي بعد طاعة أو ننحرف بعد استقامة أو نكسل بعد همة أو ننقض بيعة بعد عهد وميثاق، أو نستبدل صداقة مصلحة وهوى بعد أخوة دعوة وإيمان وفضيلة.
على الإسلام ومستقبله لن نخاف، ولكنه الخوف الحقيقي على مستقبل وثبات وإيمان وهوية كل إنسان منا في هذا الزمن الصعب، وهذه الفتن الهوجاء التي تعصف بنا من كل جانب، فلا تخافوا على ربيع أمتكم ولكن خافوا على ربيع إيمانكم، ولا تخافوا على دعوتكم ولكن خافوا على أنفسكم، وأن أفضل وسيلة للنجاة وألّا يتحول ربيعنا إلى خريف هو بأن نجعل الشتاء ربيعًا حقيقيًا فيه نعد الزاد للزمن الصعب بل لرحلة الآخرة بإذن الله تعالى. فجددوا إيمانكم دائمًا، وتذكروا أن القلوب تصدأ بالذنوب والمعاصي والغفلة، ولا بد لها من جلاء وتجديد دائم. وتذكروا أن الإيمان في القلوب يضعف ويتهتك كما يتهتك الثوب القديم البالي، فلا بد من تجديد وصيانة دائمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم”.
إننا واثقون ومطمئنون أن في شباب وأبطال الأمة من سيحافظون على ربيعها ليزهر من جديد، لكن لا أحد سيحافظ على ربيعك الإيماني إلا أنت، فاجتهد ليظل ربيعك مزهرًا لا يذبل أبدًا، وعندها ستكون الفرحة أعظم لمّا يزهر ربيع الأمة ويزهر ربيع الإيمان.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون