“معجم الدوحة التاريخي”: إلى أن يكتمل المشروع
يستعدّ قرابة 300 معجمي وباحثٍ لغوي، ممّن شاركوا في إنجاز المرحلة الأولى لـ”معجم الدوحة التاريخي للغة العربية”، لخوض غمار مرحلته الثانية التي تغطّي الفترة من القرن الثاني إلى الرابع هجري، وهي مرحلة تُعدّ الأخصب لغوياً وعلمياً في تاريخ الحضارة العربية.
وكان الإعلان عن الجزء الأوّل جرى بالتزامن مع إطلاق البوابة الإلكترونية للمعجم، يوم الإثنين الماضي في الدوحة، كما انتظَم مؤتمر حول “المعاجم التاريخية للغات” اختتم أوّل من أمس الثلاثاء في مقر “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”. تضمّن الجزء الأول ألفاظ اللغة العربية منذ بدايات استعمالها في أقدم النقوش والنصوص المعروفة، وصولاً إلى نصوص العام 200 للهجرة.
في حديث معه أكد نائب رئيس المجلس العلمي لـ”معجم الدوحة التاريخي للغة العربية”، إبراهيم بن مراد، على التأثير الريادي لإطلاق مشروع كهذا في القاموسية العربية، بالقول إن “التأثير منهجي ومعرفي علمي، أمّا المنهجي فيتمثّل في اعتماد التأليف القاموسي العربي لأول مرة على مفهوم المدوّنة”.
يشرح ذلك بالقول: “المدوّنة كما طُبّقت في المشروع نوعان: مدوّنة نصية جُمِعَ فيها من نصوص العربية منذ أقدم عصور استعمالها كلُّ ما أمكن الوصول إليه والاطلاع عليه، والنوع الثاني هو المدوّنة القاموسية التي تُسْتَخْرجُ من المدوّنة النصية بعد معالجتها حاسوبياً وتدوين كل الوحدات المعجمية التي توفّرها المدوّنة النصية، ثم الاحتفاظ لكل وحدة معجمية بأول ظهور لها في نصّ معلوم بمعناها الأول الذي أُسند إليها، ثم تُتَتَبَّعُ المعاني الجديدة التي أعْطِيَتْ لها عبر تاريخ استعمالها في النصوص اللاحقة. وهذا الاعتماد على المدوّنة بمفهوميها لم تعرفه المعجمية العربية في القديم وفي الحديث، لأن مؤلّفي القواميس العربية لا يتّجهون إلى النصوص لتأليف قواميسهم بل يعتمدون على مؤلّفي القواميس السابقين لهم فينقلون عنهم، وهم بذلك كانوا يطبّقون مبدأ: نقل اللاحق عن السابق”.
يضيف بن مراد: “وأمّا التأثير المعرفي، فمعجم الدوحة التاريخي سيوفّر للمعجمية العربية ثلاثة حلول على الأقل لمشاكل قائمة فيها اليوم: أوّلها هو التأريخ لظهور الوحدات المعجمية لأوّل مرّة في النصوص ثم لمعانيها الجديدة التي أُعطيت لها؛ وثانيها هو تأصيل الوحدات المعجمية التي يشتمل عليها المعجم التاريخي، سواءً بربطها بأصولها الساميّة أو بتحديد الأصول الأعجمية الدقيقة لما كان منها مقترضاً من اللغات الأعجمية؛ والثالث هو إظهار تطوّر معاني الوحدات المعجمية عبر تاريخ استعمالها بدءاً بالأقدم وانتهاءً بالأحدث تاريخاً. وهذه المعطيات الثلاثة ما زالت مغيَّبَةً في المعجمية العربية، وخاصة في مكوّنها التطبيقي وهو القاموسية”.
يرى المعجمي التونسي أن الفوائد من المعجم التاريخي “ستكون أبرز عندما يكتمل المشروع وتُنْجَزُ كل مراحله ويصبح معلَماً لغوياً معجمياً علمياً شاهداً، فالعمل الذي تهيّبته المجامع اللغوية والمؤسّسات الجامعية العربية من قبل أصبح، اليوم، منجَزاً عربياً حقيقياً، بفضل العزائم الصادقة التي رعته والتي شاركت في إنجازه”.
وحول كيفية استفادة المعجم من مساهمات من خارج التخصّصات اللغوية والمعجمية، يقول بن مراد لـ”العربي الجديد”: “المعجم بمفهومه اللساني العام هو الرصيد العام الشامل للوحدات المعجمية التي تستعملها جماعة لغوية معيّنة. والوحدات المعجمية نوعان: عامّة هي “ألفاظ اللغة العامة” ومخصّصة هي المصطلحات. والنوع الأول هو المستعمل في النصوص الإنشائية وخاصة الأدبية، والثاني هو المستعمل في العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الصحيحة أو الدقيقة”.
يتابع: “وقد عرفت العربية في المرحلة الأولى من المشروع النوع الأول، لكنها تطوّرت في المرحلة الثانية، بداية من القرن الثالث الهجري، فأصبحت لغة علمية قادرة على التعبير عن الجديد من المفاهيم والأشياء. وهذا يعني أن المعجم التاريخي يشتمل على ألفاظ اللغة العامة وعلى المصطلحات العلمية والفنية. وهذا يعني أيضاً أن تأليفه في حاجة إلى تظافر اختصاصات كثيرة، منها اللغة بلا شك – لأن المعجم في جوهره عمل لغوي – ولكن منها أيضاً الأدب والفلسفة والشريعة وسائر أنواع العلوم. ووجود ذوي الاختصاصات غير اللغوية في تأليف المعجم التاريخي ضروري لأن التعريف الذي يُعتبَرُ الركن الأساسي في تأليف أي قاموس يحتاج إلى الدقة المتناهية والضبط الدلالي أو المفهوميّ التام لكل لفظ أو مصطلح يُعَرَّف”.
أما المرحلة الثانية من المعجم، فتمثّل تحدّياً مضاعفاً؛ فهي “طورٌ تاريخي أوسع وأشمل من المرحلة الأولى”، كما يؤكّد ذلك رئيس برنامج اللسانيات والمعجميات العربية في “معهد الدوحة للدراسات العليا”، حسن حمزة، موضّحاً في حديثه إلى “العربي الجديد” أنها مرحلة “شهدت بدء ظهور العلوم لدى العرب وظهور المصطلحات في العديد من المجالات، التي يُنظر إليها بوصفها نقلة نوعية في الثقافة العربية الإسلامية”.
يتابع قائلاً: “يمثّل القرنان الثالث والرابع الهجري العصر الذهبي للعلوم، كما شهدا ترجمة كتب اليونان، وهي مرحلة غائبة في المعاجم العربية القديمة والحديثة. حيث توقّفت المعاجم العربية قديمها وحديثها عند القرن الثاني للهجرة ولم تتجاوزه”.
في السياق نفسه، يقول منسّق “مجموعة العلوم”، سعيد الأيوبي، لـ”العربي الجديد”، إن “إنجاز المعجم في مجمله يحتاج إلى خمس مراحل، وبعد أن أُنجزت المرحلة الأولى، نستعدّ للخوض في مرحلة واسعة من حيث المدة الزمنية ومن حيث المواضيع، والتي تشمل الطب والهندسة والفلسفة والشريعة، ولهذا نحتاج إلى أن نقف ملياً في هذه الفترة وننتقي منهاجاً نتبعه”.
من المتوقّع أن تتطلّب هذه المرحلة الثانية خمس سنوات من العمل، في حين أن الانتهاء من “معجم الدوحة التاريخي للغة العربية” كاملاً سيتطلّب في مجمله 15 سنة على الأقل، ليكون للعربية معجمها التاريخي، ولعله أضخم معجم تاريخي يعرفه العالم حتى اليوم.