لماذا تصورت جماعة بن سلمان أن عداوة الإسلام مؤهِّلة لحكم المسلمين؟
محمد الجوادي، مؤرخ ومفكر مصري
تُصاب الحضارات الكبيرة بالعصاب الطويل المدى حين يُفاجئها التاريخ بما لم تتحسب له على أي مستوى، كما حدث في هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.
ومهما قيل من أن أجهزة الأمن الأميركية أو غير الأميركية قد رصدت مؤشرات دالة على تنامي التخطيط لذلك الحدث الكارثي؛ فإن وقائع ذلك اليوم الذي شهده جيلنا الحاضر بأعين مفتوحة وعقول ذاهلة، والصدمة التي أحدثتها تلك الوقائع، لا تزال مُسيطرة على مكونات ومردودات الفكر السياسي في أميركا والعالم الغربي كله.
وذلك في الوقت الذي لا تزال تنحصر فيه رؤية مواطني الدول التي خرج منها من نفذوا الحادث في ترديد القول بصعوبة قيام أبناء هذه الدول بهذا العمل بمفردهم، أو التقدم من على منصة أخرى للقول بأن هؤلاء الذين أداروا العملية ونفذوها كانوا ضحية قوى استعمارية كبيرة استهدفت توريط بلادهم في مثل هذا الحدث الضخم، أو بمثل هذا الحدث الضخم.
ومع أن المعنييْن مختلفان باختلاف حرفيْ الجر؛ فإنهما يجتمعان في مسارهما الأخير عند نهاية مؤذية للدول التي حمل منفذو الحادث جنسياتها.
وهكذا؛ فإننا في مقابل صدمة الاندهاش الغربي وجدنا -ولا نزال نجد- ما يمكن تسميته بالهروب العربي (أو بالأحرى: السعودي) من تحمل المسؤولية عن مواجهة حقيقة الحادث وطبيعته، ولا نقول عن الحادث. وهناك بالطبع فارق كبير بين المسؤوليتين.
ومن ناحيتنا كدارسين أو مؤرخين أو مفكرين؛ فإنه إذا لم نستطع أن نحدد سر المشكلة في هذا الهروب العربي من مواجهة فلسفة الحادث وطبيعته الفكرية؛ فإننا للأسف الشديد نجد أنفسنا وقد دفعنا وجودنا كله إلى مربع الإدانة المستقبلية والدائمة والمتجددة، وليس في هذه الأوصاف الثلاثة أي تزيُّد في وصف حالتنا إذا ظللنا حريصين على البقاء في مربع الهروب.
وإذا جاز أن هناك حقائق جوهرية أخفتها ضوضاء الحدث وضوضاء معالجته المستمرة؛ فإن من واجبنا أن نعود إليها لتأملها بقدر كبير من “الصراحة العلمية” التي أصبحت متاحة بسبب تباعد الزمن عن وقت وقوع الحدث نفسه، بما يبتعد بنا عن منطقة “حجاب المعاصرة” التي تسم كثيرا من تحليلات التاريخ بفقدان البصيرة، بسبب سطوة المعاصرة أو بسبب المعاصرة نفسها.
وفي هذا الإطار؛ فإني أحب أن أكرر ما قلته كثيرا من أن شرارة أحداث 11 سبتمبر/أيلول بدأت بسياسات اللواء زكي بدر في وزارة الداخلية المصرية (1986ـ1990)، وهي سياسات استفزازية واستعدائية حرضت -من دون وعي أو تبصر- على تغذية العنف والاستثمار فيه، كما حرصت على تكرار إبداء السعادة والفخر بممارسة هذا العنف علانية، بتبريرات ديماغوجية كانت تستدعي بعض الإعجاب السلطوي.
ومن هذه السياسات مبدأ عدم الفصل بين الأمن السياسي والأمن الجنائي، ومعاملة المعتقلين السياسيين على أنهم مجرمون جنائيون، واستسهال القتل المباشر والحث على تسويغه بدلا من التحقيق والمحاكمة، وتكرار القول المغلوط بحق الحاكم في قتل الثلث من أجل أن يحيا الثلثان… إلخ.
وبصراحة شديدة؛ فقد كان السياسيون السعوديون الرسميون هم أكثر العرب سعادة واعتزازا بهذه النغمات التي يعزفها زكي بدر، وقد تمادوا في هذا الإعجاب إلى حدود خطرة من خلال مجلس وزراء الداخلية العرب، ومن خلال المركز العلمي المتقدم للدراسات الأمنية الذي يحمل اسم الأمير نايف وزير الداخلية السعودي الأشهر.
وفي مقابل تعاطف السعودية -طيلة الفترة السابقة على زكي بدر- مع حركات الجهاد الإسلامي خارج حدود جزيرة العرب؛ فإنه سرعان ما نشأ -بنعومة وسلاسة ولأسباب متعددة- اتجاه مناقض تماما ومفاجئ، يذهب إلى توهين ثم تعويق ثم معارضة ثم حظر ثم تجريم ثم محاربة ثم إبادة هذه الحركات.
كانت ممارسة السلطة السعودية -التي تعاقبت سريعا على هذه المراحل السبع من التوهين والتعويق والمعارضة والحظر والتجريم والمحاربة والإبادة- كفيلة بالطبع ببناء مشروع من قبيل مشروع 11 سبتمبر/أيلول، بل وبأكثر قسوة من مشروع 11 سبتمبر/أيلول الذي بدا في مساره التاريخي وكأنه تصور نفسه نهاية، على حين كان التصور الدرامي العلمي له يراه أصلح لدور البداية منه لدور النهاية.
وبلغة المسرح؛ فإن 11 سبتمبر/أيلول كان أقرب إلى أن يكون بمثابة الفصل الأول في مسرحية من أن يكون بمثابة الفصل الأخير فيها.
ومن العجيب أن هذا الفهم الدرامي العلمي أو المدرسي أثبت صحته على أرض الواقع في إحدى الضفتين؛ فقد اتخذت القوى الغربية من حادث 11 سبتمبر/أيلول فصلا أول بنت عليه فصولا متتالية في مسرحية الصراع الدولي أو الصراع مع الإسلام، أو بالأحرى الصراع على الموارد الاقتصادية في بلاد الإسلام.
وفي مقابل هذا التكثيف والتركيز الشديدين في دراسات الغربيين وبحوثهم، والأميركان بالطبع في مقدمتهم؛ فإن الدراسات الأمنية “العربية” -أو بالأحرى “السعودية”- ابتعدت تماما عن البحث عن أثر السياسات الأمنية في هذا الذي حدث، مُفضلةً إلقاء الكرة في ملعب الفكر المتطرف فحسب، وكأن الفكر المتطرف قادر وحده على أن يؤدي كل هذه الجزئيات المتعاقبة من حراك واسع وتنظيم عميق.
وفي غياب القدرة على النقد الذاتي؛ فقد استسهل الأمنيون العرب والسعوديون اتهام الدعاة أو الدعاة “المتطرفين!!” بالمسؤولية الكاملة ليُخلوا ذمتهم تماما. وكانت النتيجة كارثية بالطبع؛ فقد بدأ الحديث ينحو منحى حصريا ومتمركزا ومحدودا، كما لم تشهده الفلسفة ولا المنطق في تاريخهما منذ أرسطو وحتى اليوم.
وأصبحت القاعدة المبدئية الحاكمة لكل تصرف أمني وسياسي تقول بكل وضوح (وإن كان التصريح بها مؤجلا) بأن كل مسلم هو مشروع لإخواني (أي مسلم ملتزم)، وكل إخواني (أي مسلم ملتزم) هو مشروع لمتطرف، وكل متطرف هو مشروع لإرهابي.
وفي ضوء هذا اللحن الأساسي الحزين عُزفت ألحان شبيهة بتصويتات متعددة تستدعي العنف عن قصد لتنسبه تاريخيا إلى أية جماعات كانت لها علاقة إيجابية بالإسلام، وبدأ الحديث المغلوط عن خطورة ما سُمي الإسلام السياسي يشكل تجليات متعددة لنمط غريب وخاطئ من التفكير المبتور والعقيم، والذي لا يقود إلى حل وإنما يقود إلى تكرار استحداث مواجهات ظالمة، لا تنجح إلا في أن تزيد من فُقدان الأنظمة الحاكمة لمشروعية وجودها أو لمشروعية بقائها.
ومن العجيب أن هذه الأجهزة الرسمية -سواء في ذلك تلك المرتبطة بالملكيات أو بالأنظمة الجمهورية- لم تنتبه إلى هذا التخريب، الذي تُمارسه هي نفسُها في حق نفسها وبقائها واستمرارها وقُدرتها.
توالت سنوات العقد الأول من القرن العشرين وقد شهدت ازدهارا لدعوات الإصلاح السياسي المُمولة غربيا أو المُبرمجة غربيا، والتي كانت ترسم معالم طرق متعددة للانتقال بالسياسات العربية من حصرية السلطة إلى مشاركات أوسع، ومن انفراد الرأي إلى تعدد الرؤى، ومن غياب المؤسسات السياسية إلى وجودها ثم حضورها، ومن نفي الإعلام إلى استدعائه، ومن إقصاء المجتمع المدني إلى الاستماع له.
بيد أن سيطرة القوى الفكرية التقليدية على مسارات المناقشات في هذه الفعاليات جعلتها تميل إلى تأييد الواقع الذي ابتغت تغييره أو تعديله، وبدا واضحا للأجيال الجديدة أن التغيير لا يُمكن أن يتم مع وجود هذه الشخصيات التقليدية، التي لا تزال مثلا تنظر إلى بعض تجليات المُمارسة الناصرية -والتجارب المُستنسخة منها- على أنها نمط من أنماط ممارسة السياسة، بينما هي أصلا نمط غير إنساني؛ فلا مجال لأن يُناقش النمط في إطار إن كان سياسيا أم لا.
وقد حرصتُ على ضرب هذا المثل الواضح لأنه كفيل بأن يضيء طريق من يريد الولوج الفكري إلى هذه القضايا، باطلاعه على شذوذات فكرية قادمة مما قبل القرن التاسع عشر.
جاء انفجار الربيع العربي ليُمثل مفاجأة قاسية للقوى العربية التقليدية المُتمكنة، على نحو ما كان انفجار 11 سبتمبر/أيلول مفاجأة قاسية للقوى الغربية المُسيطرة والمُتفوقة. وعلى حين بدأ مَنْ استهدفهم 11 سبتمبر/أيلول مباشرة في دراساتهم الجادة وإجراءاتهم الصارمة وتحوُطاتهم واحترازاتهم وانتقاماتهم؛ فإن القوى التي فاجأتها ثورات الربيع العربي اكتفت بمحورين استسهلت المُضي فيهما خطوات واسعة:
– الأول هو محور الانتقام المُمنهج من الإسلام السياسي وجماعاته.
– الثاني هو محور بناء ثورة مُضادة للإسلام السياسي (فقط) والمُتعاطفين معه.
ومما يُؤسف له أن هذين المحورين يُمثلان محورين عقيمين مهما بدا من اهتمام حثيث وتفوق وتكثيف فيهما، بل إن العُقم فيهما يكاد يكون هو السمة الغالبة لا الظاهرة فحسب. ولا أظنني بحاجة إلى تقديم مُبررات وصف هذين المحورين بالعُقم السياسي والاجتماعي، ذلك أن المعرفة السياسية البسيطة كفيلة باكتشاف هذه الحقيقة.
بيد أن المشكلة الكبيرة التي واجهت وواكبت محوريْ الانتقام وبناء الثورة المُضادة كانت مأساوية الطابع إلى أبلغ حدود المأساة، وقد تمثلت هذه المأساة في قبول السعودية لفكرة استدعاء ولي العهد الجديد ليأخذ موقعه المُتقدم خطوة بعد خطوة، باعتباره رجل المرحلة القادر على ممارسة الشراسة اللامتناهية من أجل حماية نظام أصبحت عوامل تداعيه أقوى من عوامل تماسكه.
ومع جاذبية الفكرة القائلة بأن الشراسة قد تكفي لإنقاذ مثل هذا النظام أو لتطويل أمد بقاء سيطرته؛ فإن الشراسة -في حد ذاتها- لم تكتسب نجاحها في الممارسات السياسية المُعاصرة إلا حين كانت فنا محسوبا ومدروسا، على حين أنها عانت الفشل السريع حين اختارت أن تكون اندفاعا نزقا فحسب.
غير أن المفارقة تكررت حين فرضت طبيعة العصر على بطل الشراسة أن يبدأ من حيث انتهى الآخرون في مزايداتهم، وهكذا كانت بداية إطلالاته التلفزيونية كفيلة بالتنبيه إلى مستقبل أسود بدا بوضوح أنه يتوعد به الإسلام والدعوة الإسلامية وما سُمي بالإسلام السياسي.
لكنه -في الوقت ذاته- كان يبدو بوضوح للذين يقرؤون ما وراء الأحداث وكأنه آثر أن يُؤدي دور من قرر المُضي بلا عودة في طريق ظلم النفس وقتل النفس، من أجل سماع صدى الإعجاب ودويّ التصفيق.
وهكذا مرَّ محمد بن سلمان في عام واحد بمسار عبد الناصر في 15 عاما من 1952 وحتى 1967، وبمسار القذافي في أربعين عاما من 1969 وحتى 2008. وأصبح الآن شبيها بعد الناصر في سنواته الثلاث الأخيرة 1967ـ1970، وبالقذافي في سنواته الثلاث الأخيرة بعد أن سلم سلاحه المؤثر ووشي بأسرار إنتاجه واستبقى السلاح القامع. وذلك رغم أن عبد الناصر والقذافي لم يُصرحا يوما ما بعداء الإسلام كما فعل الأمير محمد بن سلمان.