كانت الآلات تقطع أيديهم وتسحبهم داخلها.. قصة مزارع قصب السكر الأميركية التي كانت تذبح عُمالها
برنت ستابلز، كاتب صحفي
التاريخ الملطخ بالدم الذي أعطى مدينة شوغرلاند في ولاية تكساس الأميركية اسمها ظهر جلياً في وقتٍ سابق من هذا العام، عندما اكتشف عُمّال بناء مدرسة رُفات 95 أميركياً من أصلٍ إفريقي يعود تاريخ قبورهم التي بلا شواهد إلى أكثر من قرن. هؤلاء الأموات، الذين قد يكون بعضهم وُلدوا عبيداً، هم ضحايا نظام تأجير السجناء المشين الذي ظهر بعد إعلان تحرير العبيد. إذ سعى الجنوبيون لإيجاد بديلٍ لنظام السخرة عن طريق إلقاء الأميركيين من أصلٍ إفريقي في السجن بتهمٍ ملفقة، وإرسالهم، من بين أمورٍ أخرى، إلى مزارع قصب السكر في المنطقة، التي عُرفت يوماً باسم وعاء سكر تكساس. أُثير نقاشٌ مرير في شوغرلاند، وهي ضاحية تنمو بوتيرة متسارعة تقع جنوب غرب هيوستن. إذ نشب خلاف بين المسؤولين في المدينة، الذين يريدون نقل رُفات الموتى إلى مقبرةٍ قريبة، وأعضاء فرقة العمل التي عينتها المدينة، الذين أصابوا بقولهم إنَّه لابد من إحياء ذكرى اكتشاف تاريخي بهذا الحجم في المكان الذي اكتُشف فيه. وفي الوقت نفسه، كُشفت حقيقة الطبيعة القاتلة للعمل في زراعة السكر على يد علماء الآثار، الذين يعملون على بناء صورة أكثر تفصيلاً عن الإصابات والأمراض التي عانى منها هؤلاء السجناء. اكتسبت صناعة زراعة السكر سمعتها كمسلخٍ للعبيد الذين ُيتاجر بهم عبر المحيط الأطلسي بتسببها في مقتلٍ عدد أكبر من الناس، وعلى نحوٍ أسرع من أي نوع آخر من أنواع الزراعة.
الموت على قيد الحياة
يُقدِّر المؤرخ ديفيد إلتيس، المحرر المشارك في قاعدة بيانات تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، أنَّ 70% على الأقل من الأسرى الذين بلغ عددهم 12 مليوناً أو نحو ذلك، والذين غادروا إفريقيا إلى الأميركيتين على متن سفن العبيد، كانوا يُوجَّهون إلى مستعمرات قصب السكر. كان معظم قصب السكر يُزرع في منطقة الكاريبي وأميركا الجنوبية، لكنَّ المستعمرات الجنوبية في أميركا البريطانية والولايات التابعة لها مثل فلوريدا وتكساس ولويزيانا، وهي الولايات التي نالت النصيب الأكبر من سُوء السمعة فيما يتعلق بزراعة قصب السكر، انضمت إلى مراهنات المحاصيل النقدية الوحشية كذلك. ويُقدِّم الصورة الأشهر عن ولاية لويزيانا التي اشتهرت بزراعة قصب السكر سولومون نورثوب، وهو زنجي حر من نيويورك تعرَّض لحادثة خطف شهيرة انتهت باسترقاقه عام 1841، وكان سيده يؤجره للعمل في المزارع، إذ يروي نورثوب في مذكراته «Twelve Years a Slave» المشهد المحموم والهمجي الذي ظهر خلال موسم الحصاد، عندما أُجبر المستعبدون على العمل دون توقف لجمع ومعالجة قصب السكر المعرض للتلف أكثر من غيره قبل أن يفسد. يذكر نورثوب في كتابه: «لا يُسمح للعاملين بالجلوس لفترةٍ طويلة بما يكفي لتناول وجبات العشاء الخاصة بهم. تُساق العربات المليئة بكعكات الذرة المطبوخة في المطبخ في الحقل عند الظهر. ويوزع السائقون الكعكات على العاملين الذين ينبغي عليهم تناولها في أقل وقت ممكن». عمل المشتغلون بالحصاد دون كلل تحت الحرارة اللافحة، وكانوا يقطعون أعواد قصب السكر التي يبلغ طولها 305 سم باستخدام سكاكين تشبه المنجل، وينقلونها إلى مصنع المزرعة لمعالجتها، حتى يغيبوا عن الوعي جرَّاء ما بدا أنَّه إصابة بضربة شمس. ثم يُجرُّون إلى الظل حسب نورثوب، وتُصَّب عليهم دلاءٌ مملوءة بالماء، ثم يؤمرون بالعودة إلى عملهم في جمع المحصول. عاش العبيد في عالم قصب السكر في لويزيانا «حياةً هي أشبه بالموت «، حسبما وصف فريدريك دوغلاس، الذي كان عبداً في الماضي ثم أصبح ناشطاً في مجال الحقوق المدنية. وقيل إنَّ متوسط العمر الافتراضي للعامل هو 7 سنوات فقط، وهي معلومة انتشرت على نطاق واسع بين المسترقين الذين خافوا من أن يُباعوا ويعملوا كعبيد في حقول السكر. وكتب جاكوب ستروير، كاتب المذكرات الذي كان عبداً أيضاً، في القرن التاسع عشر أنَّ المستعبَدين كانوا ينظرون إلى لويزيانا على أنَّها «مكانٌ للذبح». فعندما ينطلق القطار من محطة في ولاية كارولينا الجنوبية حاملاً عبيداً إلى لويزيانا، كما كتب ستروير: «كان أصحاب البشرة الملونة يصرخون في آنٍ واحد كما لو أنَّ السماء والأرض قد انطبقتا، ومن المثير للشفقة أنَّ هؤلاء الرجال البيض القساة الذين اعتادوا قيادة العبيد طوال حياتهم كانوا يذرفون الدموع كالأطفال». وكما يوضح المؤرخ ريتشارد فوليت في كتابه «The Sugar Masters«، كان المزارعون في صدارة التحول إلى استخدام الميكنة، فكانوا يستخدمون بكرات تعمل بالطاقة البخارية لسحق قصب السكر وتحويله إلى العصير، الذي كان يُغلي ثم يُحوَّل إلى سكر. عملت الآلات على تسريع وتيرة العمل في المزرعة، ما جعل من الصعب على العبيد الذين يقطعون قصب السكر بأيديهم مجاراة متطلبات المصنع. وأدت عوامل التعجُّل والإرهاق وإطالة ساعات العمل مجتمعةً إلى زيادة خطر وقوع الحوادث المنتشرة بالفعل في المزارع. وعلى عكس عمال مصانع قصب السكر اليوم، الذين يرتدون ملابس واقية ثقيلة، كان العمال المستعبَدين عرضةً للإصابة بالجروح الغائرة والسطحية التي تسببها أوراق النبات الحادة. وصف الكاتب آدم هوتشيلد المرجل الملتهب الذي تُجرَى فيه عملية الغليان، حيث يتحول قصب السكر إلى عصير ومن ثم يُسّخن ويتبلور إلى السكر المرغوب، بأنَّه «حلقة شيطانية». إذ وجد الرجال والنساء الذين أصيبوا بجروحٍ حارقة أنفسهم غير قادرين على التخلص من المادة اللزجة الحارقة التي تلتصق بجلودهم. وكان العبيد المنهكون حتى النخاع، الذين يتولون مهمة وضع أعواد قصب السكر في البكرات الميكانيكية التي تحولها إلى عصير، يفقدون أيديهم أو ينزلقون إلى البكرات وتُمزَّق أجسادهم إرباً. كانت هذه الحوادث شائعة بما فيه الكفاية لدرجة أنَّ واحداً من العبيد كان يقف متأهباً في مكانٍ قريب بالسيف لقطع ذراع العاملة التي تقف على الآلة قبل أن تسحبها البكرات إلى حتفها. وقد تضاعفت معدلات الوفيات في هذه المزارع بسبب سوء التغذية والأمراض، وكانت مرتفعةً لدرجة تثير الاشمئزاز، إذ كانت أماكن العبيد بحاجة إلى من يشغلها باستمرار. يُشبِّه هوتشيلد الأنقاض الصدأة لآلات صناعة السكر التي زارها في منطقة الكاريبي بأنقاض معتقلات سيبيريا الروسية، حيث قُتل الملايين من الأشخاص المجهولين أثناء فترة حكم ستالين. وعندما وقف على أطلال مرجل السكر في جامايكا، سأل نفسه: «كم من العبيد عملوا حتى الموت وهم يقفون أمام هذا المرجل؟ كم منهم فقدوا أذرعتهم في بكرات الطاحونة التي كانت تجاورها بالضرورة؟».
أنظمة بديلة
كانت مزارع السكر في ولاية تكساس مربحةً لأنَّها تعتمد على العمل بالسخرة. وقد دمر إلغاء تجارة الرقيق هذه الصناعة، لكن نظام إيجار السجناء أعاد إحياءها في شكلٍ يمكن أن يُنظر إليه من منظور شرعي على أنَّه أسوأ من العبودية: إذ كان لسادة العبيد فائدة اسمية على الأقل في الحفاظ على حياة الأشخاص الذين تملكوهم، والذين كانوا يستفيدون منهم اقتصادياً. لكن على النقيض من ذلك، عندما يموت سجين مُستَأجر في الحقول، يمكن للمديرين الذين تعاقدوا مع هيئة السجن على عددٍ محدد من الأشخاص أن يطلبوا بديلاً. وفضلاً عن ذلك، كما كتب مايكل هاردي العام الماضي في مجلة Texas Monthly، فإنَّ ظروف العمل في المزارع بمقاطعة فورت بيند، حيث اكتُشف ضحايا شوغرلاند، «كانت بنفس درجة السوء أو أسوأ مما كانت عليه في مزارع العبيد. فقد أدت الأوبئة التي يحملها البعوض، والتعرُّض للضرب المتكرر، ونقص الرعاية الطبية إلى معدل وفيات سنوي بلغ 3%». وكان لدى هؤلاء الأموات الكثير ليقولونه عن القسوة وعدم الاكتراث للحياة البشرية، التي من خلالها تمكّن زعماء صناعة السكر من بناء ثرواتهم. وكانت هناك جنازة شهيرة لرجلٍ قضى نحبه بعد بتر ساقه، وهو أثر جانبي محتمل لارتداء الأصفاد التي تنغرس عميقاً في الجلد، ما تسبب في ما يُطلق عليه السجناء «سم الأصفاد«. تُظهر سجلات السجون شباباً صغاراً نسبياً أُصيبوا بالاستسقاء والنوبات القلبية، والأعراض التي تشير لإصابتهم بضربات الشمس والجفاف الشديد، وقد وثَّق سولومون نورثوب تلك الحالات في مذكراته في لويزيانا أيضاً. وفضلاً عن ذلك، كشف الباحثون عن إصاباتٍ في العظام وكسور ملتئمة وعظام ملتوية بسبب الأعمال الشاقة، وتمزق العضلات بالكامل. عندما يفرغ الطب الشرعي من إعداد تقريره، سيكون لدى سكان تكساس رؤية أوضح حول طريقة إكتساب زعماء صناعة السكر لثرواتهم بتسخيرهم الناس للعمل حتى الموت. تحتاج مدينة شوغرلاند، التي تتجنب عمداً هذا التاريخ، إلى توفير مساحة للحديث عنه في الرواية المبهجة التي تستخدمها للترويج لنفسها. – هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The New York Times الأميركية.