حقيقة البطولة وحقيقة النجاح
الشيخ كمال خطيب
لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن كل بطل هو شخص ناجح وأن كل شخص ناجح هو بطل كذلك، لكن من قال إن البطولة هي قوة العضلات أو ما يحوزه الإنسان من إمكانات الانتصار المادي أو العسكري على خصمه، ومن قال كذلك أن النجاح هو نجاح في مشروع تعليمي أو اقتصادي؟!
فالبطولة والنجاح صفتان عظيمتان يجب أن يتحلى بهما كل إنسان، لا بل أن كل بطل وكل صاحب قصة نجاح يصبحان النموذج والقدوة للآخرين وخاصة جيل الشباب. وأن البطولة والنجاح كذلك ليس لهما هوية دينية ولا قومية ولا وطنية. ففي كل الأديان وكل الأوطان والبلدان هناك قصص نجاح وقصص بطولة، لا بل إن في كل شعب وأمة نماذج وأسماء يعتبرها أبناء تلك الشعوب من العظماء لأن أصحابها قد حققوا قصة نجاح أو قصة بطولة انعكست على مصلحة الشعب أو الوطن أو الدين. فباسم هؤلاء الأبطال والناجحين سميّت جامعات ومطارات ومكتبات وشوارع وغيرها تقديرًا واحترامًا لأولئك الأبطال الناجحين والناجحين الأبطال.
ومع أن البطولة والنجاح ليس لهما كما تقدم هوية دينية ولا قومية ولا وطنية، إلا أن هذا لا يلغي أبدًا أن تكون هناك دوافع ومحفزات تقود الإنسان إلى تحقيق نجاحات، وأن تكون للبطولة كذلك دوافع ومحفزات تقود الإنسان إلى تلك المواقف البطولية. وسواء تفاوتت تلك المحفزات بين أمور مادية دنيوية مثل الشعور بالرضا عن النفس أو تحقيق مكاسب مادية أو حتى ثناء الناس على صاحب قصة النجاح والبطولة، أو قد يتعدى الأمر إلى الرغبة في تحقيق مكاسب أخروية والسعي ليس لرضا الناس بل لرضا رب الناس سبحانه ونيل جنته إذا أخلص صاحب ذلك العمل النية لله تعالى. أليس الله الذي قال {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} آية 111 سورة التوبة.
أليس الله جل جلاله القائل {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} آية 11 سورة الصف. ثم أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الشاهد على ذلك الصحابي الذي لما وزّع النبي صلى الله عليه وسلم غنائم معركة، فقال يا رسول الله ما على هذا تبعناك، ما تبعتك إلا على أن أُرمى بسهم ها هنا وأشار إلى عنقه، وفي نهاية المعركة جيء به وقد أصيب بسهم في المكان الذي أشار إليه فكانت قصة بطولة. وهو صلى الله عليه وسلم الذي كان شاهدًا على الصحابي الجليل الذي سمع قول الله يقول {من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له وله أجر كريم} آية 11 سورة الحديد. فنادى في الناس إني قد تصدقت ببستاني “حائطي” وكان فيه ستمائة نخلة، وقد قال له الرسول صلى الله عليه وسلم ربح البيع أبا الدحداح، فكانت قصة عطاء وبطولة، وما كان ذلك ليكون لولا المحفز الإيماني دفع بهؤلاء وغيرهم رضي الله عنهم لتسطير وتسجيل قصص البطولة والعطاء هذه.
# حقيقة البطولة
قال المرحوم الدكتور مصطفى السباعي “ليست البطولة أن تقاتل وأنت آمن على ظهرك من الرماح، ولكن البطولة أن تقاتل وأنت تنوشك الرماح من كل جانب”.
نعم إن هناك بطولة مزعومة وهناك بطولة حقيقية. أما البطولة المزعومة فهي تلك التي ينسبها لنفسه كثيرون من الناس وخاصة أصحاب الرتب والنياشين والقادة العسكريين أو السياسيين، بينما هم لم يسجل عليهم أنهم خاضوا ولو معركة واحدة في تاريخهم من الذين صدق فيهم قول الشاعر:
وعلى صدورهم نياشين القتال ولا قتال
هذا العقيد وذا العميد وذا الفريق المارشال
رتب وتيجان لمن خاضوا المعارك في الخيال
لكن الأنكى من ذلك أن هؤلاء وهذا ما ينطبق على حال القادة العرب والمسلمين في زماننا أن المعارك الوحيدة التي خاضوها وفيها تم اكتشاف واثبات قدراتهم العسكرية وخبراتهم القتالية، إنما كانت ضد شعوبهم لأنها فقط طالبت بالحرية. إنهم لم يتركوا نوع سلاح إلا وجربوه واستخدموه ضد شعوبهم، بينما بقيت تلك الأسلحة في المخازن يأكلها الصدأ رغم استمرار احتلال اسرائيل لأراضيهم وإهانتهم وتمريغ كرامتهم في التراب مرة تلو المرة كما في حال بشار الأسد والسيسي وغيرهم.
فليست البطولة أن تقاتل شعبك، ولكن البطولة الحقيقية أن تقاتل عدو شعبك وأرضك وأمتك.
وليست البطولة أن تقاتل وأنت آمن على ظهرك، ولا أن تقاتل عندما تملك أسباب القوة وعندها سيدّعي البطولة كل من يملكها كما قال أبو مسلم الخولاني “كل قوم عند إقبال دولتهم شجعان”. فقوة الدولة وإمكاناتها تجعل شعبها وأبناءها ينتفخون ويتعالون بادعاء الشجاعة، وإن كان الواحد منهم جبانًا في ذاته لكن قوة دولته تجعله يظهر بعكس حقيقته، وكما قيل في المثل “نفس الرجال بحيي الرجال”.
وإنما البطولة الحقيقية أن تقاتل وأنت تنوشك الرماح من كل جانب، عندها فأنت تقاتل وتدافع إيمانًا وعقيدة ووفاء ورجولة لا تحسب للموت حسابًا، وهذا ما ينطبق على دعاة الإسلام الذين يجاهدون بالكلمة وبالموقف الذي يرضي الله ورسوله وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ففي هذا الزمان الذي فيه أصبحت سهام الألسن الصدئة والمسمومة تصوب إلى صدر ووجه كل من يقول كلمة الحق وكل من ينتصر للإسلام وأحكامه وتشريعاته وحتى أخلاقه. إنها ليست السهام يصوبها الأعداء، بل إنها سهام ذوي القربى وخناجرهم التي تنوشك من كل جانب.
ها نحن نرى بأم أعيننا كيف أنه ولمجرد أن يقف صاحب علم شرعي يأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أي قضية من القضايا، وإذا براجمات السهام والبذاءات والتطاول ينهال من كل صاحب فكر علماني وليبرالي ومتحلل، ولكن هذه السهام كلها مجتمعة لن تؤذيك بقدر ما ينالك من الأذى من أخ كنت تتوقع أن ينتصر لك لأنه في الظاهر يحمل نفس فكرك ويدعو للدعوة التي أنت تدعو لها، فتكون خيبتك كبيرة لمّا تجده يقف في الصف الآخر أو حتى يقف على الحياد طامعًا وراجيًا أن لا تناله سهامهم أو حتى لا يُرمى بالتشدد، بل يكون رمزًا للعقلانية والانفتاح.
فلا عليك يا صاحب رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا عليك يا وارث دعوة محمد صلى الله عليه وسلم أن تظل على موقفك وثباتك في هذا الزمان الذي فيه يتكالب الأعداء ويتطاول السفهاء ويخذلك فيه الأخوة الأقرباء. فتقدم أيها البطل واحمل الراية، فهذا الزمان زمانك وأنت رجل المرحلة وعنوانها.
# حقيقة النجاح
ومثل البطولة فإنه النجاح، فيمكن لأي من الناس أن ينسبه إلى نفسه خاصة في الحيز العام، وحيث وجود الشركاء الكثيرين وكما قيل فإن الفشل لا أب له، بينما للنجاح آباء كثر. وأن الهزيمة لا أب لها ولا أحد ينسبها لنفسه، بينما النصر فما أكثر آباءه وما أكثر من يزعم أنه هو من يقف خلفه، أو حتى أنه الجندي المجهول الذي كان يحرك كل شيء من الخلف، ولولاه ما كان ذلك النصر.
إن من الطبيعي جدًا لمن يدرس للامتحان ويسهر الليالي الطوال استعدادًا للامتحان الجامعي أن ينجح فيه ويحرز نتائج باهرة فمن درس نجح ومن جد وجد.
ومن الطبيعي لمن أعدّ الخطط والدراسات واستشار الخبراء، وأعدّ رأس المال اللازم ثم يتوكل على الله بعد ذلك، فلا بد لمشروعه الاقتصادي أن ينجح وأن يدرّ عليه النفع والأرباح لأنه قام بالمطلوب، ومن الطبيعي للقائد العسكري الذي درس العلوم العسكرية بمهارة وقام بإعداد جيشه الإعداد اللازم وأمده بأسباب القوة والتسليح المطلوب، وأتعب جيشه بالتدريب المتواصل ثم بثّ فيه الروح المعنوية والثقة بالنفس وزرع فيه عقيدة القتال، لأنه صاحب حق ويريد الدفاع عن الوطن والمقدسات، وأنه ليس جيش بغي ولا احتلال ولا اعتداء على حرمات الآخرين فيقينًا أن هذا الجيش سينتصر ويحرز النتائج المرجوة، فهذه كلها أمثله النجاح الحتمي والطبيعي.
لكن حقيقة النجاح أو النجاح الحقيقي ذي الطعم الخاص والنكهة المميزة، بل والإبداع غير العادي هو أن تنجح أو أن تنتصر في معركة يكاد يجمع من حولك أنك ستخسرها أو يبدو للمشاهد أنك لم تعد لها العدة، وإذا بك تفاجئ العدو والصديق بما لم يكن متوقعًا، بل وفي الوقت الذي ينتظر فيه عدوك أن ترفع الراية البيضاء وتبدأ توصل رسائل الاستسلام واليأس والخنوع، وإذا بك تظهر في موقع من مواقع المعركة شامخًا منتصبًا قويًا، بل وتتقدم نحو عدوك لتجعل المفاجأة تقتله، وليصبح هو في موقف المدافع عن نفسه يعيش بين ذهول حضورك وانتكاسة أحلامه بأنه قد انتصر عليك، وأنه سيجعلك من الماضي وإذا بك توجه له ضربات العز وصفعات التأديب، ولعلها الضربة القاضية بها تخرجه من التاريخ وليس فقط من حلبة النزال.
لم يترك أعداء الإسلام وسيلة من وسائل كيدهم وحقدهم ومكرهم إلا واستخدموها في حربهم ضد الإسلام {وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} آية 46 سورة إبراهيم.
إنها الحرب المفتوحة على الإسلام وأبنائه ثقافيًا واقتصاديًا ومعنويًا وسياسيًا وليست الحرب العسكرية إلا شكلًا من أشكال هذه الحرب المفتوحة.
لم يكتفوا باحتلال بلادنا واستعمارها وسلب خيراتها وتجهيل أبنائها، وإنما وقبيل رحيلهم فقد نصبوا علينا عملاء لهم من بني جلدتنا، رؤساء وملوك هم أشد علينا من أعدائنا.
لم يترك هؤلاء الطواغيت وسيلة إلا واستخدموها في محاولات تثبيت أنفسهم وتحويل الشعوب إلى طوابير تهتف لهم وتحويل الأوطان إلى مزارع خاصة لكل واحد منهم. مسخوا الهوية الثقافية والأخلاقية والدينية للشعوب ظانين بأن هذا سيصرف هذه الشعوب عن فهم جريمتهم وعدم معاقبتهم، ارتبطوا بالأجنبي بكل شيء كارتباط حبل السرة.
قربوا منهم كل تافه، وجعلوا في مواقع التأثير كل متملق وجاهل ومنحرف طردوا الشرفاء، حيّدوا العلماء، اعتبروا الدين مظهرًا من مظاهر التخلف، جعلوا الإسلام دين الدولة الرسمي على الورق بينما كل أفعالهم وسياساتهم وممارساتهم تشير إلى أن الإسلام هو العدو الأول لهم. ووفق حساباتهم فإنهم قد انتصروا في هذه المعركة على الإسلام، وأن الإسلام يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأنهم بانتظار تشييعه إلى مثواه الأخير وعندها فإنهم وسادتهم في الغرب والشرق وعتاة المشروع الصهيوني سيفركون أيديهم فرحًا بانتصار معركتهم على الإسلام.
ولكنها المفاجأة والذهول أصابهم وهم يرون هذا الإسلام ينهض من جديد، وهذا المارد يتململ وهذا العملاق ينفض الغبار عنه، ويقول ها أنا ذا لم أمت. إنها الصدمة أصابت أعداء الإسلام أيًا كانوا وهم يرون جيل الشباب الجيل الذين ظنوا أنهم قد دجّنوه ومسخوا هويته، وإذا به هو الجيل الذي يحمل راية الإسلام ويتقدم الصفوف ويعتز بالهوية.
وليس أن هذا الجيل قد تقدم الصفوف للدفاع عن دينه، وإنما هو الذي حمل راية مقارعة ومواجهة هؤلاء الطواغيت وأعوانهم وأسيادهم.
إنه النجاح والنصر الحقيقي للمشروع الإسلامي، والذي وفق كل الحسابات فإنه قد مات وانتهى أمره، ولكنه الإسلام قدر الله الغلاب وإرادته التي لا تقهر ووعده الحق الذي لا يُخلف بأنه سينتصر وأنه سيعود ليحكم الدنيا بعز عزيز وذل ذليل {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} آية 8 من سورة الصف.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون