الخليل مدينة عربية ووقف إسلامي لا يجوز التفريط فيها
الكاتب: د. تيسير رجب التميمي
في الثاني من هذا الشهر، وفي غمرة احتفالات الأمة الإسلامية بعيد الأضحى المبارك وأداء شعائر فريضة الحج أصدر وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي ليبرمان قراراً يمنح المستوطنين في البلدة القديمة بالخليل سلطة إدارة شؤونهم بتشكيل مجلس يوفر الخدمات البلدية لهم في كل المجالات.
القرار تعزيز لاستيلاء المستوطنين على قلب المدينة
يعتبر القرار تعزيزاً لاستيلاء المستوطنين على قلب مدينة الخليل التراث والحضارة والهوية، وتحوّلاً خطيراً في سياسة سلطات الاحتلال الإسرائيلية من مرحلة دعمهم السري والتستر على جرائمهم المتواصلة إلى مرحلة الدعم العلني المباشر، ومنحهم الضوء الأخضر لارتكاب مزيد من الجرائم بحق أبناء شعبنا من أهل الخليل، وهذا جوهر السياسة الإسرائيلية القائمة على تسريع الاستيطان وشرعنته، وهو مثال آخر على سياسة مكافأة المستوطنين المتطرفين على أعمالهم الإجرامية؛ حيث تعهد لهم ليبرمان بأن يفعل المزيد من أجلهم بقوله [إن تقوية المجتمع اليهودي في الخليل بالنسبة لي غاية في الأهمية وأنا مصمم على مواصلة تطوير الاستيطان حتى ينمو ويزدهر] إذن فالهدف أن ينعم بضع مئات من المستوطنين باستيلائهم على كل مقدرات قلب مدينة الخليل بقوة السلاح تمهيداً لتحويلها على مدينة يهودية على حساب مئات الآلاف من سكانها الفلسطينيين.
إن هذا القرار تحد صارخ لمنظمة اليونسكو وقراراتها ومسؤولياتها، فمدينة الخليل والحرم الإبراهيمي الشريف مسجلان على قائمة التراث العالمي بأنهما معلمان عربيان إسلاميان يخصان أهل الخليل وحدهم ومهددان بأخطار الاحتلال الإسرائيلي، وهو أيضاً قرار باطل بكل آثاره وتداعياته ومآلاته، فهو يترجم أطماع المستوطنين وإسرائيل في الاستيلاء على قلب مدينة الخليل بما يشمل الحرم الإبراهيمي الشريف والبيوت التي استولى عليها المستوطنون، وسائر الممتلكات الفلسطينية التي سرقوها وأغلقوها بأوامر عسكرية وفرضوا السيادة الإسرائيلية عليها.
خرق للقانون الدولي الإنساني
وهو القرار الأخطر منذ احتلال عام 1967، لأنه خرق للقانون الدولي الإنساني وكافة المواثيق والتشريعات والقرارات الدولية الخاصة بالأراضي الفلسطينية المحتلة، وانتهاك لها وبالأخص قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334 الذي يطالب إسرائيل بوقف الاستيطان، ولأنه أيضاً يرسّخ مخطط تهويد البلدة القديمة برمتها وفصلها عن مدينة الخليل. ويعتدي على صلاحيات بلدية الخليل وينقلها إلى المستوطنين مما يكرس تقسيم مدينة الخليل العربية الإسلامية، بما في ذلك منح التراخيص والبناء والخدمات التحتية، وتغيير معالم المدينة القديمة، واستباحة السكان مما سيوقع مزيداً من الظلم والمعاناة على أهلها الشرعيين الفلسطينيين. وهو أيضاً تنفيذ فعلي لمشروع إسرائيل الكبرى وضم للمناطق الفلسطينية إليها من خلال الترسيم الفعلي للمستوطنات ومنحها الشرعية والاعتراف بها، ومنحها السيادة على الأرضي المحتلة، مما سيؤدي إلى حالة إرباك وفوضى ومساس بالنظام العام والاستقرار في مدينة الخليل بل في كافة مدننا الفلسطينية المحتلة.
التمهيد للقرار بسلسلة إجراءات عسكرية بالمدينة
مهدت سلطات الاحتلال لهذا القرار بسلسلة إجراءات عسكرية في المدينة منذ عقود عديدة، وخصوصاً بعد أحداث الحرم الإبراهيمي الشريف وجريمة تمزيق المصاحف من قبل المستوطنين عام 1976، ومجزرة عام 1994 التي استشهد وجرح فيها المئات من المصلين وهم سجود بين يدي الله ومنع الأذان من على مآذن الحرم وتقسيمه بجريمة غير مسبوقة والاستيلاء على أبوابه وإقامة إنشاءات حوله وإغلاقه بعد هاتين الجريمتين لأيام طويلة، فعملت على عزل السكان بشتى الطرق كإغلاق المحال التجارية ونصب الحواجز العسكرية على مداخلها، ووضع كاميرات المراقبة وإغلاق مداخل بيوت المواطنين ونوافذها وعدم السماح لهم الوصول إلا بتصاريح خاصة من الاحتلال، وفرض سياسة التفتيش المذلة في محيط الحرم وأزقة البلدة القديمة، وغرس البؤر الاستيطانية وإغلاق شوارعها ومنع المواطنين المرور منها، وارتكاب أفظع الانتهاكات لحقوق الإنسان بقتل الأنفس وإزهاق الأرواح البريئة، وفرض حظر التجول على أهلها لفترات طويلة، ومواصلة الحصار الاقتصادي الذي شلّ الحركة التجارية في أسواقها، والاعتداء على ممتلكات أهلها بهدم المباني الأثرية والتاريخية في أبشع مذبحة حضارية تستهدف طمس معالمها وتغيير هويتها العربية والإسلامية، وفتح طريق استيطاني يربط بين مستوطنة قريات أربع والحرم الإبراهيمي الشريف وجميع البؤر الاستيطانية فيها، وتهجير أهلها قسراً بالتضييق عليهم لتسهيل تهويدها، وإطلاق مسميات عبرية على شوارعها. جرى ذلك وأكثر على مرأى ومسمع من العالم، لكن منظماته لم تتخذ قراراً جدياً أو موقفاً فعلياً لمحاسبة الجناة من ساسة إسرائيل ومجرمي الحرب فيها.
إن حكومة نتانياهو وجيش الاحتلال الإسرائيلي ما كانا ليجرؤا على اتخاذ هذا القرار وأمثاله لولا تلقّيهما الدعم والتأييد المطلقين من الإدارة الأميركية برئاسة ترامب وكل من سبقوه من الرؤساء، فحتى هذه اللحظة لم نسمع من إدارة ترامب كما لم نسمع من غيره من الزعماء إدانة واحدة لأيٍّ من الإجراءات الاستيطانية المخالفة لقرارات المجتمع الدولي والموجبة لمساءلة إسرائيل ومحاسبتها ومعاقبتها بملاحقتها قانونياً وفرض العقوبات المقررة عليها.
المجتمع الدولي ملزم بالتحرك
فالمجتمع الدولي اليوم ملزم بالتحرك الفوري لمنع الإجراءات الإسرائيلية العنصرية المدمرة والمنافية للقوانين والاتفاقيات الدولية، وباتخاذ إجراءات ملموسة تلزم إسرائيل إلغاء قرارها هذا وكل القرارات الاحتلالية التي اتخذتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعليه كذلك كبح تنفيذ هذه القرارات الباطلة وحماية القرارات الدولية وآخرها قرار اليونسكو الأممي بخصوص مدينتي القدس والخليل.
أما المستويات الرسمية والشعبية والقانونية والدبلوماسية الفلسطينية كافة فلزامُ عليها التحرك الفوري والعاجل لوقف هذا الإجراء الخطير، فهو ينذر بكارثة حقيقية لمدينة الخليل وسكانها وتاريخها وموروثها الحضاري والثقافي والديني والاجتماعي، فعلى الرغم من النصر العظيم الذي حققته دولة فلسطين بحصولها على عضوية الأمم المتحدة بصفة مراقب، وعلى الرغم من توقيعها كافة الاتفاقيات والمواثيق الدولية والانضمام إلى منظماتها وهيئاتها بموجب ذلك، وعلى الرغم من تراكم كثير من الملفات التي توجب على القيادة الفلسطينية التوجه إلى هذه المنظمات وبالأخص محكمة الجنايات الدولية لمقاضاة إسرائيل على انتهاكاتها المتواصلة لحقوق الشعب الفلسطيني إلا أنها لم تفعل شيئاً من ذلك لغاية الآن، وإن صدور هذا القرار يوجب على القيادة التحرك على وجه السرعة والتوجه إلى المنظمات المختصة في المجتمع الدولي ولجم سلطات الاحتلال الإسرائيلية التي ما زالت تحاول بكل السبل تنفيذ مخططها تهويد البلدة القديمة بالخليل وفصلها عن المدينة، فما عاد السكوت على ذلك مقبولاً ولا مبرراً؛ وبالأخص أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة في اجتماعها المزمع عقده بعد فترة قصيرة، واستصدار قرار دولي بإلغاء هذه الجريمة الاستيطانية الجديدة من قبل المجتمع الدولي.
الحرم الإبراهيمي الشريف هو مسجد إسلامي خالص
وإنني أؤكد مجدداً أن الحرم الإبراهيمي الشريف بكل أجزائه ومكوناته من ساحات وأروقة وأبواب ومحاريب هو مسجد إسلامي خالص ولا علاقة لغير المسلمين به من قريب أو بعيد، وأن هيمنة الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين عليه هي هيمنة غصب بقوة السلاح الغاشمة والتي ستزول بزوال الاحتلال بإذن الله، قال تعالى {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } آل عمران 68
وأؤكد أيضاً أن الخليل مدينة محتلة كسائر المدن الفلسطينية التي وقعت في براثن الاحتلال عام 67، وهي مدينة آبائنا وأجدادنا؛ مسقط رأسنا ومرقد أنبياء الله والصالحين الأخيار من أسلافنا، وأن كل أراضيها وقف إسلامي إما وقف خليل الرحمن عليه السلام، وإما وقف الرسول محمد صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل تميم بن أوس الداري رضي الله عنه وذريته إلى يوم الدين، فهي أرض إسلامية لا يجوز التفريط فيها أو التنازل عنها أو التقاعس عن حمايتها أو إقرار الاحتلال على ممارساته الاستيطانية فيها، وإنني أخشى وأتخوف من تمليك أي أجزاء منها للكنيسة الروسية تمهيداً لتسريبها للمستوطنين لإقامة مستوطنة عليها كما حصل من قبل الكنيسة السويدية في بيت البركة بالعروب وما يحصل من قبل بطرك الروم الأرثوذوكس في القدس ببيع أجزاء غالية من القدس وفلسطين للمستوطنين، فالمؤامرة على أرض فلسطين ومقدساتها كبيرة وتشارك فيها أطراف عديدة.
الخلاصة
لذا وجب على أبناء مدينة الخليل ان يعبروا عن غضبهم ورفضهم لهذا القرار، وأن يتمثلوا أهالي القدس بوقفتهم السلمية وإرادتهم القوية الرافضة لإجراءات الاحتلال وضع البوابات الإلكترونية والكاميرات الذكية على أبواب المسجد الأقصى المبارك، والتي أجبرت قوات الاحتلال على التراجع بتفكيكها وإزالة كل الإجراءات الاحتلالية فيه، لذا فإنني أناشد أبناء هذه المدينة الصابرة أن يواظبوا على إعمار الحرم الإبراهيمي الشريف والحضور الدائم بأداء جميع الصلوات فيه، وأن يعملوا على إحياء البلدة القديمة بالسكنى في بيوتها وافتتاح مزيد من المؤسسات الحكومية فيها، وتنمية اقتصادها بالتسوق من أسواقها والاستثمار فيها وفتح حوانيتها لإفشال مخططات الاحتلال الرامية إلى تفريغها من أهلها والهيمنة عليها وتهويدها.