يقيننا أن الله لن يضيّعنا… وأن الله معنا
الشيخ كمال خطيب
رغم الآلام والجراح، رغم الهموم والأحزان، رغم الفتن والبلاء، رغم كيد الأعداء وتكالبهم، وخيانة الزعماء وتخاذلهم. رغم أننا نخرج من بلاء لنقع في بلاء أشد، ورغم أنها الفتن تتوالى كلمّا قيل انقضت تمادت. رغم هذا كله إلا أننا لن نسمح بأن يتسرب اليأس إلى صدورنا ولا الغم إلى قلوبنا، وإنما نحن الذين نثق بوعد الله سبحانه ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم من أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا. إننا على يقين أننا أقرب إلى الفرج والنصر والتمكين بإذن الله سبحانه وتعالى.
وها هي الأمة وفي هذه الأيام بالذات تعيش أفياء اثنين من الذكريات، وكلتاهما تملؤنا يقينًا وثقة بالفرج وانكشاف الغمة، وأننا في عناية ورعاية الله تعالى الذي لن يتركنا لأراذل الزمان، ولا لأشقياء العالم يتمتعون بعذاباتنا. أما الأولى فإنها أفياء الحج عشناها قبل أيام، وأما الثانية فإنها أفياء الهجرة سنعيشها بعد أيام
# إن الله لن يضيّعنا
إنه وحي الله سبحانه لإبراهيم عليه السلام أن يذهب بزوجه هاجر وابنه الرضيع إسماعيل إلى مكة، وقد كانت يومها أرض خلاء لا عمران فيها، في المكان الذي سترفع فيه قواعد البيت الحرام.
أنزل إبراهيم هاجر وطفلها إسماعيل في هذا المكان القفر الذي لا ماء فيه ولا غذاء، وليس معهما إلا جراب تمر وجراب ماء، وأدار إبراهيم ظهره يريد العودة، وإذا بهاجر تناديه ُملتاعة أين تذهب؟ ولمن تتركنا في هذا المكان يا إبراهيم؟! نظر إليها إبراهيم دون جواب إلا دموع العين كانت تجيب، عندها قالت له هاجر: يا إبراهيم آلله أمرك بهذا. قال: نعم. قالت: إذن لن يضيّعنا الله!!
احتضنت هاجر إسماعيل، أما إبراهيم فقد رجع قافلًا يبتهل إلى الله بهذه الكلمات قصّها علينا القران الكريم {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} آية 37 سورة إبراهيم.
امتثلت هاجر لأمر الله وتحلت بالصبر، ومكثت تأكل وتشرب مما معها من زاد هي وابنها حتى نفذ ثم كان الجوع والعطش، وراحت هاجر تنظر إلى اسماعيل يتلوى من العطش والجوع، فراحت تنظر وتجري في كل ناحية علّها تجد ما تروي به ظمأ ابنها.
صعدت مكانًا مرتفعًا يعرف ب “الصفا”، فنظرت لعلّها منه ترى ماء، ثم هبطت وسعت سعي الإنسان المرهق، ثم أتت مكانًا مرتفعًا آخرًا يعرف ب “المروة”، فلم ترى ماء، ثم رجعت إلى الصفا. فعلت ذلك سبع مرات، ولما أشرفت أخيرًا على المروة سمعت صوتًا فالتفتت، فإذا هو ملك عند موضع زمزم يبحث في الأرض حتى ظهر الماء، وقيل أن إسماعيل كان يضرب الأرض بقدميه وهو يبكي ويتلوى عطشًا، فانفجر الماء من تحت قدميه فكان زمزمًا، فشربت هاجر وولدها منه وما يزال يتدفق يشرب منه الحجاج وغير الحجاج إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله تعالى.
وكان خروج الماء سببًا في تجمع الطيور التي عرفت قبيلة جُرهم بالفطرة أن الطير دائمًا يطير حيث الماء، فساروا حيث يطير الطير ليجدوا الماء بل ليجدوا الماء بل ليجدوا هاجر وإسماعيل، وسكنوا هناك بإذن هاجر فلمّا كبر إسماعيل تعلم منهم العربية وبعدها تزوج امرأة جُرهمية. ثم كان حضور إبراهيم خلال ذلك ليتفقد زوجه وابنه، وبدأ بوحي الله له يرفع قواعد البيت الحرام الذي بني هناك من لدن آدم {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل}.
فمن تفاصيل قصة إبراهيم وهاجر وابنهما إسماعيل كانت تفاصيل ركن الحج، الركن الخامس في الإسلام حيث كل مناسكه تؤدى هناك في مكة وما حولها، حيث السعي بين الصفا والمروة أو قصة الذبح والفداء والأضحية ورمي الجمرات وغيرها.
إنها جملة هاجر المؤمنة الواثقة بمعية الله تعالى “أن الله لن يضيّعنا” لقد قالتها رغم أن كل الأسباب الأرضية تقول بأنها حتمًا ستهلك هي وابنها، لكن يغنيها بأن أسباب الأرض بيد مالك الأرض والسماء وجعلها مطمئنة، بأنه لن يضيّعها مادام هو سبحانه قد أمر زوجها إبراهيم بأن يأتي بهما إلى ذلك المكان.
إنه لا أعظم، بل إننا أحوج ما نكون نحن المسلمين في زمن الكرب والبلاء الذي نعيشه، وفي زمن انقطاع أسباب الأرض من نصرتنا بل وخذلاننا في أن نوطد صلتنا بأسباب السماء، بها نعتصم ونجأر ونلوذ ونستقوي بمالك أسباب الأرض وأسباب السماء الله سبحانه، ثم لنكون على يقين لا يتزعزع أنه سبحانه لن يضيّعنا وأنه حتمًا ويقينًا سيجعل لنا من أمرنا مخرجًا وفرجًا كما جعل لهاجر وابنها. فمن بين أحداث وتفاصيل قصة هاجر وإسماعيل والتي أصبحت بعد ذلك مناسك نتعبد لله بها نحن المسلمين، فإننا نتفاءل بالخير بل إننا على يقين بأن الله سبحانه لن يضيّعنا ولن يخذلنا.
# إن الله معنا
وإذا كان وحي السماء لإبراهيم بأن يذهب بزوجته وابنه إلى وادي مكة، فإنه وحي السماء لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن يخرج ويهاجر ومعه أبو بكر من وادي مكة حيث كانت أحداث الهجرة حيث الذكرى الثانية التي ستمر علينا بعد أيام مثلما مرت أحداث ركن الحج قبل أيام.
وإذا كان شعار الذكرى الأولى “أن الله لن يضيّعنا” فإن شعار الذكرى الثانية “إن الله معنا” وكيف سيضيع من كان الله معه؟
وإذا كانت أسباب الأرض قد انقطعت عن هاجر وابنها، فإن أسباب الأرض كذلك قد انقطعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، لا بل كلها كانت تشير إلى حتمية أن تتحقق آمال طواغيت قريش بأن يأتوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حيًا أو ميتًا. لكن صدق الإيمان واستشعار المعية الإلهية جعلت أسباب الأرض تتلاشى أمام أسباب السماء {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} آية 40 سورة التوبة.
إنها قريش وطواغيتها وقد أعدوا عدتهم وحزموا أمرهم على الخلاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} آية 30 سورة الأنفال.
لقد أرسلت قريش بخيرة شبابها ومن كل بطونها من يترصدون لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند بيته ليلًا، ثم ليدخلوا عليه فيضربونه ضربة رجل واحد، لكن الله سبحانه أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم فكان مبيت علي كرم الله وجهه في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كان الخروج إلى غار ثور، ثم كانت الملاحقة والمطاردة بعد أن انكشف لهؤلاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في البيت، وإنما خرج بعناية الله وقد أعمى الله أبصارهم وهم يحاصرونه.
إنها عناية الله وأسباب السماء قد أحاطت برسول الله صلى الله عليه وسلم ترعاه وتحرسه خلال مسيرة الهجرة كلها، وماذا بعد إذ يصلون إلى باب الغار فيقول أبو بكر: “يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موطئ قدمه لرآنا، فيجيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما”.
بل وماذا أكثر من أن يبدو الحزن والقلق على وجه أبي بكر رضي الله عنه، فيحاول الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخفف عنه فيقول أبو بكر: “أما والله لست على نفسي حزينًا ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره. فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا”. وفي هذا المشهد وهذا الحوار بين الحبيب والصديق قال الله تعالى {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} آية 40 سورة التوبة.
“إن الله معنا” كانت شعار رحلة الهجرة فكان الله معه في بيته المحاصر، وكان الله معه في الطريق، وكان الله معهما في الغار، وكان الله معهما خلال مطاردة سراقة بن مالك لهما وقد كاد أن ان يمسك بهما، لكن أنّا له ذلك والله سبحانه هو من أذن له بالهجرة، وهو من تولاه وبعينه كان يحرسه ويرعاه.
وبعد تمام الهجرة كان الوصول إلى يثرب طيبة الطيبة، وكانت فتوحات الدعوة المباركة بين أهلها ومنهم رضي الله عنهم إلى ما حولها بداية مسيرة الإسلام إلى الدنيا كلها. لذلك كان قرار عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يبدأ التقويم للتاريخ الإسلامي بالهجرة المباركة لأهميتها ولمحطتها الفارقة والفاصلة في تاريخ هذا الدين العظيم.
إننا وفي الزمان الذي نعيش وحال الأمة وتآمر وكيد أعدائها لها، وحيث الإسلام يلاحق ويطارد، ويريد أعداء الإسلام أن يأتوا برأسه للخلاص منه. إنهم الذين يصفون الإسلام بالإرهاب، ويصفون كل من يدعو للإسلام ويعتز به بالإرهابي. إنه الزمان الذي فيه تكالب علينا الأعداء ورمونا عن قوس واحدة، تحالف الشرق والغرب علينا، وتخاذل أبناء الملة لا بل إنهم تعاونوا مع الأعداء في حرب الإسلام. لقد أصبح الإسلام غريبًا وطريدًا وملاحقًا، ليس في ديار الكفر بل حتى في بلاد المسلمين أنفسهم.
إننا نراها ونسمع عنها تحالفات مشبوهة بين ملوك ورؤساء مسلمين يتحالفون مع اليهود ويتحالفون مع الروس ومع الأمريكان ضد أبناء المشروع الإسلامي الذين انحازوا لدينهم ورفعوا رايته وهتفوا لرسوله صلى الله عليه وسلم، ويدعون للحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إنه في الزمان الذي يكاد البعض يصل به الحال إلى درجة اليأس والإحباط من خطورة الظرف ومن قوة الأعداء ومن ضعف المسلمين. في ظرف كهذا ما أجدرنا وما أحرانا أن نتذكر أحداث الهجرة المباركة وليكن شعارنا “لا تحزن إن الله معنا”.
نعم إن علينا جميعًا أن تكون ثقتنا بالله سبحانه كبيرة وعميقة وغامرة، مثلما ثقة هاجر لمّا قالت: “إن الله لن يضيّعنا”، وأن تكون ثقتنا بمعية الله ونصره لدينه مثل ثقة ويقين رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: “إن الله معنا”.
الحمد لله إننا كذلك، وأن جيلًا في الأمة قد نشأ وقد نفض يديه من كل الأفكار والمناهج والمشاريع المشبوهة، وانحاز للإسلام ولشريعته. إنه الجيل الذي كفر بأدعياء القومية والوطنية، وكفر بأصحاب الشعارات البراقة وكشف زيفها، وما عاد يؤمن إلا بالإسلام منهاج حياة متكاملاً.
إنه جيل الصحوة المباركة الذي رغم البلاء والحصار، ورغم خيانة الزعماء، ونفاق بعض العلماء وتكالب الأعداء، إلا أنه الجيل الذي يثق بالنصر والفرج، وبأن المستقبل للإسلام، وأن شمسه قد أشرقت وأن الدورة هي له وليست لغيره. إنهم يعملون له ويضحون في سبيله، وشعارهم قول هاجر “إن الله لن يضيعنا”، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن الله معنا” ومن كان الله معه فكيف سيضيع؟!.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون