الفخ الذي وقعنا فيه!
الفخ الذي وقعنا فيه:
هكذا كان يمكن أن يكون عددنا اليوم 3 ملايين فلسطيني في الداخل!
حامد إغبارية
خلال السبعين سنة التي مرت على نكبة شعبنا الفلسطيني (عام 1948) تتأمل حالنا من تلك اللحظة الموجعة إلى هذه اللحظة الأكثر وجعا، فتكتشف أننا وقعنا (جميعا ودون استثناء) في فخ يختلف عن كل الأفخاخ التي نُصبت لشعبنا على جميع الصعد والمستويات.
ذلك الفخ هو الفخ الديمغرافي، الذي لا تزال المؤسسة الإسرائيلية (ومن خلفها جيوش كثيرة تعمل في خدمة المشروع الصهيوني؛ ومنها عربية) تدندن عليه، كل إشراقة شمس ومع كل غروب.
نعم، من العنوان أعلاه يمكنك أنت تفهم أنه كان في إمكاننا أن يكون عددنا اليوم (سنة 2018) ما بين مليونين ونصف المليون، وثلاثة ملايين فلسطيني، في الداخل فقط؛ أي في حدود أراضي 1948، لولا أننا وقعنا في ذلك الفخ الذي نُصب لنا، بإرادتنا، أو بغير إرادتنا، كَرها، أو رضًا.
كيف ذلك؟؟
لقد عملت الماكنة الغربية، وفي مقدمتها الصهيونية طوال الوقت، على إدخال مفاهيم جديدة للأسرة العصرية، ولدور الفرد في المجتمع، وأهمية العدد السكاني في تأكيد الحقوق، وتثبيتها، وتحقيقها.
وقد تركزت تلك المفاهيم الدخيلة على تسويق فكرة أنه كلما كان عدد أفراد الأسرة (الخلية البيتية) أقل، هكذا يكون وضعها الاقتصادي أفضل، ويكون وضع أفرادها الثقافي التعليمي أحسن، وتكون فرص تطوير الذات اقتصاديا واجتماعيا وتعليميا متوفرة بشكل أكبر.
فهل هذا صحيح؟ إطلاقا لا!
هل تحقق منه شيء؟ “لا” كبيرة!
فما الذي تحقق إذًا؟!
إن الشيء الوحيد الذي تحقق هو أننا دفعنا الثمن الأكبر عندما قبلنا واستجبنا لإغراءات زائفة غير حقيقية، ورضينا أن تمر علينا سبعون سنة، دون أن يصل عددنا إلى ثلاثة ملايين. وهذا مطمح المشروع الصهيوني، أساسا، والذي لما وجد أنه لا يمكنه الخلاص منا بالجملة (من خلال تهجير وتشريد من تبقوا في الداخل بعد عام النكبة الكبرى)، عمد إلى خطة الحصار الديمغرافي الذاتي، والذي تمثل في تسويق تلك الثقافة الدخيلة على المجتمع الإسلامي – العربي، ألا وهي ثقافة “أقل عدد من الأفراد في الأسرة الواحدة”. وقد نجحت الخطة، ووقعنا في الفخ.
قد يقول قائل من المتفلسفين (وهم كُثر في فضائنا الفلسطيني): وماذا تريد من وراء هذا؟ أتريدنا أن ننجب عشرة أولاد، ونرميهم في الشارع؟؟ أتريدنا أن نعود فقراء؟ إلى الوراء؟؟ أي تخلّف هذا؟!!
سيقولون مثل هذا وأكثر!!
وأقول: إن كان والداك، لما أنجبا سبعة أولاد وثمانية وتسعة وعشرة وأثني عشر، قد ألقوا بكم في الشارع، فستفعل أنت أيضا. كان آباؤنا فقراء، فهل نحن اليوم أغنياء، “نعاني” من التخمة؟ وكم عدد خريجي الثانوية والجامعات؟ وماذا يفعل غالبيتهم اليوم؟
هذه خدعة انطلت علينا، يوم أقنعونا أن عدد أفراد الأسرة الكبير يسبب الفقر والبطالة والجهل. هذا حتى علميا وواقعيا غير صحيح، لأن أسباب الفقر والبطالة والجهل سياسية وليست ديمغرافية. وكلنا يعرف هذا، وكلنا يتحدث عنه.
نعم، كان هناك فقر وجهل وبطالة في تلك الأيام التي كان فيها عدد أفراد الأسرة كبير، لكن السبب لم يكن مرتبطا بعدد الأفراد. والدليل أن أفراد الأسرة اليوم أقل بكثير، ومع ذلك لا يزال الفقر والجهل والبطالة ضيوفا دائمين في صالونات بيوتنا.
ولعلك تجد صورة معاكسة تماما لما نتخيله في عقولنا، عن تلك الحالة التي كانت. فجميع أو غالبية أفراد الأسرة (من الأولاد والبنات) كانوا يتعلمون في المدارس، وقلة منهم تسربوا بسبب الضائقة الاقتصادية (ولأسباب أخرى)، ومنهم من حقق نجاحات تعليمية وعلمية واقتصادية وتجارية ومهنية كبيرة، وكثير منهم بيننا أحياء يرزقون. فهل حالَ عدد أفراد الأسرة الكبير دون تحقيق النجاح في مجالات الحياة المختلفة؟ وهل حقق تقليل عدد أفراد الأسرة إنجازات أكثر؟ الجواب نجده في واقع الحال.
ما الذي أصابنا إذًا؟
لقد جلدنا أنفسنا يوم أقنعوا المرأة (الزوجة) بأن الإنجاب الكثير يشوّه لها قوامها الجميل، ويعيق مسيرتها الاجتماعية في مجال العمل والتعليم. وهذه من أكبر الأكاذيب التي صدقناها. علما أن قوام المرأة وتشكيلته الفيسيولوجية تتغير مع أول حمل وأول إنجاب، وهذا طبيعي، سواء أنجبت واحدا أو أنجبت عشرة.
ثم أقنعوا الرجل بأن الوضع الاقتصادي الصعب يلزمه أن تخرج الزوجة للعمل (في كل الظروف) كي تعينه على حمل الأعباء الاقتصادية. ولكي يتحقق هذا، لا بد من أن يكون عدد الأولاد قليلا أكثر ما يمكن، وأن يباعدا بين فترات الحمل (مرة كل سنتين أو ثلاث أو أربع سنوات). فأكلنا الطعم سعداء مسرورين. (بالمناسبة؛ لست ضد عمل المرأة من حيث المبدأ… وهذا موضوع آخر قد نتطرق إليه في مقال آخر). ثم أقنعونا برفع سن الزواج (للشاب والفتاة)، ثم أدخلوا علينا نظام الحياة الغربية، فلم نعد نستطيع التنازل عن حياة “الرفاهية الكاذبة” الجديدة التي أسقِطت فوق رؤوسنا في غفلة منا، وجهل.
ورويدا رويدا أصبح هذا النموذج جزءا من سلوكنا، دون أن ندرك أن في إمكاننا تغييره، دون أن نخشى فقرا أو جهلا أو بطالة، ودون الرجوع إلى أحد؟
في مؤتمر عقدته جمعية الجليل الطبية قبل أشهر (عشية الذكرى السبعين للنكبة)، وكان تحت عنوان “مجتمعنا تحت المجهر” عُرض مسح سكاني لفلسطينيي الداخل، تبين منه أن عددنا تضاعف عشرات المرات منذ النكبة. ورغم أن الرقم مثير، إلا أن الأمور تقاس بالنتيجة، فعددنا عام النكبة كان نحو 170 ألفا (بعد تهجير غالبية أبناء شعبنا) وعددنا اليوم أقل من 1.5 مليون، ذلك أن معدل عدد أفراد الأسرة تناقص عبر السنوات السبعين الماضية، من 8 أنفار (عام 1949)، إلى 5 أنفار (عام 2017، حسب جمعية الجليل).
في سنة 1949 ارتفع التزايد السكاني في مجتمعنا الفلسطيني إلى 27 ولادة لكل ألف شخص، وكان متوسط العائلة يومها 7 – 8 أنفار. لكن هذه الزيادة جاءت بعد تناقص سبقها في السنتين السابقتين، إذ كانت النسبة عام 1946 بمعدل 50 ولادة لكل ألف. ثم جاءت خطة تنظيم الأسرة الجهنمية التي انطلت علينا (ليس علينا فقط، بل على كل العالم العربي والإسلامي)، بينما عمد غيرنا إلى زيادة عدده بوسائل شتى، ليست الهجرة الطارئة إلى بلادنا هي الوحيدة بينها. وقد سرت خطة تنظيم النسل في أوساط “المثقفين”!! العرب كما تسري النار في الهشيم، وبدا كأن هؤلاء هم الذين سيقررون مستقبل هذا الشعب وطريقة حياته، وعدد أفراده، ومستوى معيشته. فكان ما وصلنا إليه اليوم.
وتمعن معي ما يلي: في سنة 1947 كانت نسبة الفلسطينيين في فلسطين الداخل 55% (45% يهود)، ثم تراجعت النسبة عام 1949 إلى 14% (وهذا تراجع هائل مرعب، وقع جراء النكبة بداية، ثم تتابع جراء خطة تنظيم الأسرة!!)، وفي عام 1951 تناقصت النسبة إلى 11%، ثم ارتفعت عام 1978 إلى 17.5%، وهذا نتيجة الزيادة الطبيعية عندنا، لكنها كانت زيادة نسبتها قليلة جدا (2.9%)، أي أقل من ثلاثة أولاد لكل مائة فرد، وكذلك نتيجة توقف الهجرة اليهودية في تلك السنوات. وكان متوسط عدد أفراد الأسرة الفلسطينية يومها نحو 5 أفراد. فهل عبثا حصرت نسبتنا بهذه الأرقام؟ بالتأكيد لا… بل هذا نتيجة سياسة ممنهجة، ساهمت فيها أيضا أنظمة عربية من حولنا، ربما غفلنا عنها، أو لم ننتبه إلى خطورتها، في خضم أحداث فرضت علينا عبر السنوات.
هل تمعنت جيدا معي تلك المعطيات أعلاه؟
تعال الآن نحسبها من جديد، لو أن متوسط أفراد الأسرة بقي كما هو (7-8 أنفار).
كم كان سيكون عددنا اليوم؟
إن ثلاثة ملايين تقريبا، ليس مثل مليون نصف المليون. وتأثيرها على مجريات الأمور، ليس كتأثير مليون ونصف الميلون، وإنجازاتها، ليست كإنجازات عددنا اليوم.
وتفكّر معي جيدا في تبعات قانون القومية الذي أقر في الكنيست الصهيوني أول من أمس. اقرأ القانون، وابحث في ثناياه، فهناك ستجد جوابا على كل تساؤلاتك حول هذا المقال.
نحن في حالة يرثى لها، ونحن سبب ذلك يوم وقعنا في الفخ راضين مطمئنين، شاكرين…. وللحديث بقية.