الوثائق الأميركية 1978-1980(3): القادة العرب لا يريدون دولة فلسطينية
في جديد الوثائق التي رفعت وزارة الخارجية الأميركية السرية عنها، الأسبوع الماضي، كشفت برقيات عدة أنّ مصير مدينة القدس المحتلة كان من القضايا التي اهتم بها الجانب المصري خلال مفاوضات اتفاقية “كامب ديفيد” عام 1978 ومعاهدة السلام عام 1979. إلا أنّ الوثائق تكشف كذلك عن عدم اكتراث الجانب الإسرائيلي بالموقف المصري، وصولاً إلى تمرير قانون في الكنيست يعتبر القدس مدينة موحّدة وعاصمة أبدية لإسرائيل في نهاية يوليو/ تموز 1980، وذلك في خضمّ مفاوضات الجانبين، بوساطة أميركية، حول الحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وأشار محضر اجتماع عُقد في البيت الأبيض يوم 17 يناير/ كانون الثاني 1980 بين نائب الرئيس المصري حينذاك، حسني مبارك، والرئيس الأميركي وقتها، جيمي كارتر، بحضور وزير الخارجية سايروس فانس، ومستشار الأمن القومي زبيغنيو بريجنسكي، إلى إثارة مبارك لأهمية قضية القدس، حيث قال “سافرت أخيراً إلى تونس لحضور اجتماع مع مجموعة من الدول الإسلامية، وسافرت أيضاً إلى ماليزيا وعُمان. وخلال زيارة عُمان قابلت في سرية تامة مسؤولين من السعودية والبحرين والإمارات العربية المتحدة. ولم يكن هناك إلا سؤال واحد: ماذا فعلتم بخصوص القدس؟ هذه القضية الأهم. الأمير فهد (بن عبد العزيز آل سعود) والملك خالد (بن عبد العزيز آل سعود) لا يعرفان إلا القدس. ولقد كان الرئيس (أنور) السادات على حق عندما ذكر منذ أشهر قليلة أنّ لا أحد من القادة العرب يريد دولة فلسطينية مستقلة. هم يخشون الفلسطينيين، ويخشون من النفوذ السوفييتي الذي سيتمدد داخل أي دولة فلسطينية”. وأضاف “يرسل ياسر عرفات قبل كل مرة يضطر فيها إلى انتقادنا علناً، رسائل خاصة، يُقرّ فيها باضطراره لانتقادنا من أجل إرضاء (الرئيس السوري الراحل حافظ) الأسد و(العقيد الليبي الراحل معمّر) القذافي، وأنه يأمل أن تتفهّم مصر صعوبة موقفه. ونحن نتفهم موقفه، فهو يسعى للحصول على أموال منهما، إلا أنّه يبقى القائد الفلسطيني الذي إن رأى القطار يتحرّك، فسيسارع إلى الركوب فيه، ولا تنسى أنّه ترك مبعوثه في مصر ولم يسحبه”.
وعلى الرغم مما ذكره مبارك لكارتر، فقد فشلت مصر في تضمين القدس ومستقبلها في نصوص اتفاقيات كامب ديفيد أو معاهدة السلام مع إسرائيل. ومع استبعادها من المفاوضات المصرية الإسرائيلية، اختصر موضوع القدس في رسالتين وجههما كل من السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، مناحيم بيغن، كل على حدة، للرئيس كارتر، وعرض كل واحد فيهما موقفه من القدس. ثمّ كانت مفاجأة تبني الكنيست الإسرائيلي في الثلاثين من يوليو/ تموز 1980 مشروع قانون يجعل من القدس مدينة موحدة وعاصمة أبدية لإسرائيل. وعلى الرغم من الصدمة الأميركية من القرار الإسرائيلي، إلا أنّ واشنطن اختارت ألا تصوّت ضد القرار رقم 478 في مجلس الأمن الدولي، الذي نصّ على أنّ إسرائيل خرقت قانوناً دولياً، وطالب جميع الدول الأعضاء بسحب ما تبقى من سفاراتها من القدس.
وجاء في برقية صدرت من واشنطن إلى السفارة الأميركية في القاهرة يوم 2 أغسطس/ آب 1980 وتتضمّن أمراً للسفير في القاهرة كي يوجّه رسالة للسادات، أنّ “الرئيس كارتر يدرك حجم الضغوط الداخلية والخارجية التي تتعرّض إليها مصر كنتيجة مباشرة للقرار بخصوص ضمّ القدس، وإعلانها عاصمة لإسرائيل”. وأكّد كارتر أنّ “الرئيس السادات يستطيع فقط أن يقدّر حجم الضغوط التي يتعرّض إليها، وإلى أي حدّ يمكنه التعامل معها، لذا فنحن سنحترم أي قرار قد يصدر عنه”. ومنحت الرسالة السفير في القاهرة سلطة تقديرية، بناءً على ردّ فعل السادات في ما يتعلّق بانسحاب مصر من مفاوضات الحكم الذاتي للفلسطينيين، بحيث يطلب منه “أن يكون الانسحاب من المفاوضات لفترة زمنية محددة”.
وفي السياق ذاته، أشار محضر مكالمة هاتفية يوم 3 سبتمبر/ أيلول 1980، إلى اتصال أجراه السفير سول لينوفيتز، المبعوث الأميركي لمفاوضات الحكم الذاتي وقتها، من القاهرة مع الرئيس كارتر ونائب الرئيس ولتر مونديل، عقب لقائه السادات. وجاء في المحضر أن “الأخير أعاد التأكيد على التزامه بالتفاوض المبني على أساس اتفاقيات كامب ديفيد كطريق وحيد للوصول لسلام شامل في الشرق الأوسط”. وأضاف لينوفيتز أنّ “الطرفين، المصري والإسرائيلي، أكدا أنّ التفاوض يجب أن يعتمد على أساس من الثقة والصداقة، وعلى ضرورة العودة لاستئناف مفاوضات الحكم الذاتي للفلسطينيين، وأنهما سيبحثان في ما بينهما الاتفاق على موعد بدء التفاوض ومكانه”. وعبّر كارتر عن سعادته مما حققته الزيارة، وقال إن “هذه النتائج الجيّدة أعطت الرحلة جدواها”. وقال لينوفيتز إنه “يوافق تماماً مع تقدير الرئيس كارتر للزيارة، فقد حقّقت نجاحاً أكثر مما توقّع. والرئيس السادات يريد العودة لطاولة التفاوض في منتصف شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، على أن تعقد قمة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل بعد انتهاء الانتخابات الأميركية”.
وعقب استئناف المفاوضات الثلاثية حول الحكم الذاتي في منتصف أكتوبر 1980، أظهرت برقية من وزارة الخارجية لسفارتي واشنطن في القاهرة وتل أبيب بتاريخ 17 أكتوبر، أنّ “المصريين أعادوا التأكيد على مواقفهم المعروفة من القدس والمستوطنات والحكم الذاتي للفلسطينيين، إلا أنّ الإسرائيليين رددوا بهدوء وثقة مواقفهم من القدس والمستوطنات والتي عدّوها مواقف إيجابية تجاه الفلسطينيين. إلا أنّ أهمّ ما في اللقاءات التي استغرقت يومين كاملين، كانت الموافقة المصرية على تأجيل مناقشة القدس والمستوطنات لحين عقد قمة رئاسية في نهاية يناير/ كانون الثاني 1981. وركّز المصريون على قضيتين ثنائيتين مع الجانب الإسرائيلي، أولاهما تتعلّق بالإفراج عن سجناء مصريين في السجون الإسرائيلية، وثانيتهما تتعلّق بضرورة سيطرة الأقباط المصريين على الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية في القدس، بدلاً من الأقباط الإثيوبيين. وهو ما وعد المندوب الإسرائيلي، يوسف بورغ، بالنظر فيه والعمل على حله”، بحسب البرقية.
لكنّ الرياح لم تأت كما كان يشتهيها الجانب المصري، فقد خسر كارتر الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 1980، وعبّر الدبلوماسي المصري بطرس غالي عن عدم رغبة القاهرة في استئناف المفاوضات التي كانت مقررة في 17 نوفمبر، وتحبيذها الانتظار لقمة نهاية يناير، خصوصاً بعدما تلقّت مصر تأكيدات من فريق الرئيس الجديد وقتها، رونالد ريغان، بتعهده بالاستمرار بكل قوة في درب مفاوضات “كامب ديفيد”.