إسرائيل والخوازيق السبعين
الشيخ كمال خطيب
يوم أمس 19/4 احتفلت المؤسسة الإسرائيلية وفق التقويم العبري في ذكرى تأسيسها السبعين والذي تُعّرفه بعيد الاستقلال السبعين، حتى لكأن قادة المؤسسة الإسرائيلية ينسجون حكاية قيام دولتهم من العدم، وكأنه لم يكن في هذه الأرض شعب ولم تكن فلسطين لهذا الشعب، وكأنه لم يتم تهجير قريبًا من مليون فلسطيني وهدم قريبًا من 540 قرية ومدينة. لقد صدّقوا كذبتهم يوم قالوا إن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
إن سبعين سنة هي سبعة عقود ليست كافية أبدًا لجعل غريب ودخيل يفرح ويرقص، وكأنه قد أخذ العهد والميثاق من أهل الأرض ومن أهل السماء بأن وجوده قد أصبح وجودًا أبديًا أزليًا، بينما هو يعلم أن طفلًا فلسطينيًا قد هجّر من الوطن وهو ابن عشر سنين أو أكثر، هو نفسه اليوم ابن ثمانين سنة أو يزيد، وليس أنه ما يزال يحلم بالعودة بل إنه الذي يرسم صورة بيته والحاكورة وطريق المسجد والمدرسة، وأنها محفورة في ذهنه لن تمحوها الأيام والسنون، وأنه هو قد أخذ العهد على أحفاده ألا ينسوا فلسطين، وأن يعملوا لتحقيق العودة إليها مهما طال الزمان، وما أحداث وشهداء مسيرات العودة في غزه عنا ببعيد.
إن صخب الاحتفالات والكرنفالات، وإن بريق منصات الغناء في الذكرى السبعين والتي تنظمها الوزيرة ميري ريغف تطغى على كل تفكير عقلاني ومنطقي وتجعل اللسان يتلعثم في الإجابة على سؤال هل القوم في يوم فرح حقيقي يا ترى أم لا، وهل هي رقصة الديك المذبوح أم لا، وهل هذه هي حقيقية أم مزيفة، وهل هي دائمة أم أنها فرحة قصيرة وقصيرة جدًا، وسرعان ما سيقال “ويا فرحه ما تمت”؟
حينما يكون صاحب العرس منهمكًا في عرس ابنه، حيث الأفراح والليالي الملاح وحيث صوت المدّاحين وبريق المفرقعات ودوي مكبرات الصوت تنبعث منها الموسيقى، وحيث وفود المهنئين تتوالى فإن صاحب العرس يكون غارقاً في أجواء العرس ولكنها لن تمض سوى أيام قليلة ولعلها ساعات ويستيقظ صاحب العرس على حقيقة الدين الثقيل الذي وقع عليه والهمّ الكبير الذي يلاحقه، كيف ومن أين سيسدد دين مصروفات العرس، وليتحول الفرح الكبير إلى خازوق أكبر، وليظل من ذلك الكرنفال كابوس مرعب ينام ويستيقظ عليه، وليدرك أنه قد أخطأ في تقديراته وحساباته ويتمنى أن لو لم يكن ذلك الفرح وبالطريقة التي أحيا فيها عرسه.
وكذلك يكون حال من يحتفل بعيد ميلاده السبعين، فيشتري لذلك كعكة كبيرة وشموعًا براقة، ويدعو الأهل والأصحاب، ويشتري لذلك اليوم بدلة زاهية ويصبغ شعره بالسواد عند مصفف الشعر، ويتعطر بأثمن العطور وكأنه ابن ثلاثين، ولا تمضي سوى أسابيع أو أقل من ذلك وبعد إذ يعود الشعر إلى بياض، وكل شيء إلى أصله وطبيعته ليكتشف صاحبنا أن كل ذلك الاحتفال والبريق لن يغير من حقيقة أنه شيخ كبير، وأنه يوشك أن يعتمد على عكازه، بل ولعل أمراضًا كثيرة ستغزو جسده، وأن العطار لن يصلح ما أفسده الدهر كما قال الشاعر:
عجوز تمنت أن تكون صبية وقد نحل الجنبان واحدودب الظهر
فراحت إلى العطار تبغي شبابها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
وإنما ينطبق على صاحب العرس وعلى المحتفل بعيد ميلاده السبعين، فإنه ينطبق على المؤسسة الإسرائيلية التي تحتفل هذه الأيام بالذكرى السبعين لإقامتها وميلادها، وذلك على حساب نكبة شعبنا. إنها تعيش في الاحتفالات واستعراض قدراتها العسكرية والتقنية وبريق قوتها، وتكاد تطير فرحًا على وقع هدية ترامب لها بنقل سفارة أمريكا إلى القدس، بل وإعلانها عاصمة أبدية وموحدة، وفوق ذلك كله ومما يزيد بهجتها ونشوتها، برقيات ولقاءات المطبعين العرب معها سرًا وعلنًا، وإعلان ابن سلمان اعترافه بحق الشعب الاسرائيلي بأن يكون له دولة على أرض الآباء والأجداد وغير ذلك كثير من بريق وصخب احتفالات الذكرى السبعين.
لن يطول الزمان بل ما أقربه يوم تصحو إسرائيل كصحوة صاحب العرس المثقل بالديون، ويوم تزول صبغة السواد للمحتفل بعيد ميلاده السبعين. إنها ستستيقظ على حقيقة الهاوية التي تقف عليها، وأنها فعلًا تعيش في ساعات الظلام التي تسبق الكارثة كما وصفها “افرايم هليفي” رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي الأسبق، وأن هذه الفرحة وهذه الاحتفالات الكبيرة ستتحول إلى الخازوق الكبير والكابوس الأكبر.
وإذا كان نتنياهو بلحمه وعظمه وقبل ستة أشهر فقط، وفي احتفالات عيد العرش اليهودي 2017/ 10 وكان يعد أن يعمل لبقاء إسرائيل قوية لتحتفل بعيد ميلادها المائة، إلا أنه استدرك قائلًا بأن التاريخ يقول إنه لم يكتب يومًا لدولة للشعب اليهودي أن تعيش أكثر من ثمانين سنة وهي دولة المكابيين.
فهل احتفالات الذكرى السبعين هي احتفالات حقيقية أم أنها مثل نشوة السكران، ومثل خيالات صاحب العرس، ومثل تزييف صابغ شعره بالسواد، وهو العجوز الطاعن في السن. فهل هي احتفالات حقيقية أم أنها خوازيق مؤلمة وكوابيس مرعبة، وهل عما قريب سيعيش المجتمع الإسرائيلي خوازيق ما تبقى من عمر افتراضي وضعه نتنياهو وتحدث عنه العقلاء من كبار المفكرين والعسكريين ورجال الموساد الذين تحدثوا وعبروا عن التشاؤم الكبير من مستقبل إسرائيل ورسموا صورة سوداوية لهذا المستقبل، لكن يبدو أن نتنياهو يتعامل مع هذا الواقع والمستقبل مثلما يتعامل مع صبغة شعره التي نراها تتغير وتتجدد، بينما هي لا تغير حقيقة نتنياهو.
ألم يقل يوفال ديسكين رئيس جهاز الشاباك السابق في صحيفة يديعوت يوم 30/10/2017 يصف حال المجتمع الاسرائيلي (نحن لم نعد محمضين، نحن أصبحنا مخمجين ومتعفنين). ألم يقل الصحفي المخضرم يارون لندن في مذكراته (لنا يوجد دولة، لكن لأحفادنا لن تكون دولة). وبعد هذا فهل هي احتفالات إسرائيل بالذكرى السبعين والشمعات السبعين، أم أنها الخوازيق السبعين؟
#إسرائيل ذيل الثعلب
في محاولة منه لإلقاء الضوء على الواقع الإسرائيلي وقراءة مستقبله في ظل الذكرى السبعين لإقامة إسرائيل، فقد قام صحفي إسرائيلي بإجراء ثلاث مقابلات مع ثلاثة من القادة العسكريين الإسرائيليين المتقاعدين وممن كانت لهم بصمات مشهودة في خدمة الدولة العبرية، لكن اللافت في تلك الصورة السوداوية والقاتمة لمستقبل إسرائيل التي يراها هؤلاء الثلاثة وهم “يتسحاك نير” و “أريك تشيريناك” وكلاهما من ضباط سلاح الجو الإسرائيلي، وأما الثالث فهو “ميشكا بن دافيد” وهو من كبار رجال الموساد الاسرائيلي وهو الذي أشرف على عملية محاولة اغتيال خالد مشعل في عمان عام 1997.
قال الضابط في سلاح الجو يتسحاك نير (إن إسرائيل ليس لديها وجود فيزيائي على الأرض ولا تقوى على البقاء دون دعم عالمي ودولي واضح، ونحن يمكن وضعها بذنب الأسد وربما نتحول قريبًا إلى ذنب الثعلب). إنها الإشارة الواضحة إلى معنى قول الله تعالى {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس} 112 سورة آل عمران
إنها المؤسسة الإسرائيلية المرتبطة بالقوى العظمى وخاصة أمريكا كحبل السرة بالنسبة للجنين واعتماده على أمه، فإذا انقطع هذا الحبل فإنه حتمًا سيموت.
إنه يقول بصراحة إن بقاء إسرائيل مرهون بالدعم المالي والعسكري الدولي، حيث أن هذا الدعم يجعل إسرائيل مثل ذنب الأسد، أي أنها ممسكة ومتواصلة بالأسد ملك الغابة وتحتمي به والمقصود بذلك امريكا، لكنها خشية الكاتب من تغير الأحوال وتبدلها وانقطاع هذا الدعم وتأثره بظروف كثيرة، عندها ستتحول إسرائيل من ذيل الأسد إلى ذيل الثعلب في إشارة ورمزية لسوء الحال الذي ينتظر المؤسسة الإسرائيلية.
وأما الضابط الآخر في سلاح الجو أريك تشيريناك، فقد قال في بيان تشاؤمه ورعبه من مستقبل إسرائيل في ذكرى ميلادها السبعين: (في حال عاد الإخوان المسلمون إلى الحكم في مصر وكان قرارهم بدخول الجيش المصري إلى سيناء، عندها ستتغير صورة المشهد العسكري). وقال: (إن إسرائيل يتهددها خطر وجودي).
إن لسان حال الضابط أريك تشيريناك متخوفًا مما تخوف منه شمعون بيرس الرئيس الإسرائيلي السابق والذي طالما كان يبدي تخوفه من تحول الصراع بين إسرائيل وبين العرب إلى صراع ديني أو عقائدي، لأن إسرائيل عندها ستكون هي الطرف الخاسر حتمًا، وإشارة ذلك بالنسبة له عودة الإخوان المسلمين لحكم مصر وفشل انقلاب السيسي الذي اعتبره الإسرائيليون هدية السماء إليهم بإبعاده خطر وجود إسلاميين وخاصة جماعة الإخوان المسلمين في مركز القرار السياسي والعسكري في مصر.
وإن مما يعرفه هذا الكاتب ويصرح عنه أن استمرار قادة المؤسسة الإسرائيلية باستهداف المسجد الأقصى المبارك مما يساهم في إذكاء الحالة الدينية عند الفلسطينيين خاصة وعند العرب والمسلمين عامة، وإن حكومة نتنياهو بتركيبتها الدينية والقومية الغارقة بالكراهية ومشاريعها السوداء بحق القدس والأقصى، فإنها تجعل ردة الفعل من الطرف العربي والإسلامي موازية لها في الهوية والقوة ومعاكسة لها في الاتجاه.
نعم إن المؤسسة الإسرائيلية ولغباوة قادتها وهي التي تستهدف الرموز الإسلامية كالمسجد الأقصى، فإنها لا تستعدي الفلسطينيين وحدهم وإنما كل العرب وكل المسلمين، وعليه فإن هذه الأصوات المنبعثة من أصحاب خبرات سياسية وأمنية إسرائيلية، يبدو أنها تنفخ في قربة مثقوبة، وأن صخب ودوي القوة والترسانة العسكرية الإسرائيلية تحول بينها وبين سماع صوت المنطق والعقل الذي يناديها بأن دوام الحال من المحال، وأن إمكانية حدوث تغييرات في السياسة العالمية والموازين الإقليمية تجعل إسرائيل تتحول من ممسكة بذيل أسد إلى ممسكة بذيل ثعلب ولعله ذيل كلب.
وإذا كان العقلاء في المجتمع الإسرائيلي غارقون في اليأس والتشاؤم، فإننا والحمد لله غارقون ومفعمون بالأمل والثقة واليقين بالمستقبل الواعد والفرج القريب والفتح المبين. هكذا نقرأ التاريخ وهكذا نقرأ الواقع، وهكذا نقرأ القرآن كتاب الله الذي كلما ضعفنا فإنه يذكرنا بوعد الله الذي لا يخلف، بأن يظهر الإسلام على الدين كله ولو كره الكافرون {وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون} وإن غدًا لناظره قريب.
رحم الله قارئا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون