معركة الوعي (237) هذه من الممنوعات لأنّ هذه من المبشّرات

حامد اغبارية
1)…. مَنْ خَذَلَهُم حَتَّى..
لا تُحبَطَنَّ، ولا تُحبطُنَّ، ولا تيأَسَنَّ ولا تيأسُنَّ، ولا يدخُلَنّ الشكّ إلى قلوبكم مما تروْن وتسمعون، خاصّة ما يتعلّق بما يُقال من تفاصيل حول صفقة هنا واتّفاق هناك، قادمٍ أو غير قادمٍ، عاجلٍ أو آجلٍ، حقيقيّ أو وهميّ، ولا ممّا يتصدّر المشهدَ من تفاصيل دامية، مُرعبة، مُحزنة، مُغضِبة، وممّا يداهمك من شعور بالعجز وقلّة الحيلة، وأنت ترى أبناء الجلدة، أبناء الّلغة والعِرق والدّين، قد خذلوا وصمتوا وتواطؤوا. فهذه كلّها من الممنوعات.
إذ لا يصحّ ولا يليق ولا يجوز أن تُحبط وتيأس وتشكّ وتظنّ بالله الظّنون. هي من الممنوعات، لأنّ حبيبك، حين أخبرك بما هو كائن الآن، وما هو كائن غدًا، إنما أخبرك كي لا تيأس ولا يدخل في رُعوِكَ أنَّ في الأمر شيئا ورِيبة، وحتّى تكون على يقين أن مع هذا الخُذلان فرجًا، وأنّ مع هذا العُسر يُسرًا، بل إنّ الخُذلان هو علامة على ما بعده ومُبشّرٌ به.
وهو مسألة حتميّة كما أنّ ما بعده حتميّ لا شكّ فيه. فهو كائنٌ بقدرٍ من الله، مثلما أنكم تتنّفسون وتأكلون وتشربون وتسمعون وتبصرون.
منذ بدأت الحرب المجنونة على غزة، بدأ الحديث عن واجب المُستعمرات في الوطن العربيّ في نصرة أهل غزة، ووقف هذه الحرب، وما تزال الألسن تردد هذا المطلب/ الواجب، مستهجنة، غاضبة، مستنكرة، راجية أن يتغيّر الحال ويخرج من العلقم حلوٌ ومن الجثّة الهامدة حياة. ذلك دون أن يتنبّه أغلب الناس بأنّ هذا الخذلان هو مرحلة حتميّة في القَدَر لتتحقق المرحلة الّتي تليها، وأنه من المستحيل أن يتغيّر ويتحوّل إلى نُصرةٍ أو شبهِ نُصرة.
فالنّاس من شدّة الألم والوجع الّذي يصدمهم كل صباح وكل مساء يُهرعون إلى تمني الأمنيات، رجاءً بأن تفعل الأنظمة الوظيفيّة في مستعمرات سايكس- بيكو شيئا لوقف النزيف المتفجّر فوق رمال غزة.
إنّه ليس مجرّد خذلان، بل هو خذلانٌ ملطّخ بعار التّواطؤ ووصمة المشاركة. وإلا كيف يُعقل أن ترى ما ترى؟ وكيف لا تستوعب أنه من الغُرف المغلقة والسراديب المظلمة يخرج دخانُ خيانات وتآمر تُزكُم منها الأنوف إلى حدّ التّقيّؤ؟
إنّ الذي أغلق عليك الحدود، وهو يزعم أنّه “أخوك”، ومنع عنك الماء والغذاء والدواء والهواء طوال سنوات مضت، يستحيل أن “ترضى عنه أمّه” فجأة ويصبح “ابن حلال”. بل إنّ له يدًا ملطّخةً بدمك، وفي السعي إلى تحطيم الآمال… وإنْ قال وصرّح، وإن زعم، وإن كان “وسيطا”، لأنّك لو تأمّلت فيه قليلا لوجدت أنّ دورَه ليس أكثر من ساعي بريد عند أسياده…
وإنّ الذي طبّع بأمر الشيطان الأكبر، والذي دفع الإتاوة بأمر بلطجيّ العالم، والذي أمدّ الربيبة بالسلاح والغذاء وكل ما يحتاجه، والذي قمع ويقمع شعبه لأنه خرج إلى الشوارع غاضبا، لا يمكن أن يتخلّى عن هويّته الحقيقيّة ويتنّكر لنسبه الذي يمتدّ إلى جدّه الأكبر؛ أبي رغال. {فلا تبتئس بما كانوا يفعلون}، فإنّ الّذي أُخرِج من البئر أصبح عزيزًا تتّجه إليه القوافلُ ترجو عطاءه.
2) …. أمر الله…
ولقد قيل لك إنّ الخُذلان والعدوان يليهما أمر عظيم لا يفهم معناه ولا يدرك أعماقه إلا أنت ومن هم مثلُك.
فإن شئت فاحزن، فهذا من الفطرة، وابكِ بدموع حارقة، فهذا من طبيعة البشر، ولكن إيّاك أن تحتجّ أو يداخلك شكّ في قُرب الفرج. فقد قال ربك عز وجلّ: {أتى أمر الله}. فإن قال ربُّنا {أتى}، فقد أتى. انتهى! وقال لك: {فلا تستعجلوه}.. فهو آتٍ لا محالة، فوطّن نفسك وكُن حيث أنت، ولا تستعجل، فإن الأمر بيده.
يأتي أمر الله والخُذلانُ في أوجه والعدوانُ والعلوُّ في ذروته، ولمَّا نبلغهما بعدُ، فلا تستعجل، ولكن املأ قلبَك باليقين والحتميّة. ولا تسأل كيف ومتى وأين.
فالكيفيّة لا يعلمها إلا الله، والزمان رهن الغيب، أما المكانُ فقد قيل لك من قبلُ فلا تُكثر السؤال ولا تستحثّ الزمان، فتوقيتُه لا يستجيب لمستعجِل ولا لمُستَحِثّ. فقد فعل ذلك من سبقوك فعاتَبهُم حبيبُك، ولكنّه في ذات المجلس أدخل الطمأنينة إلى قلوبهم.
يأتي أمر الله، لأنه قيل لك: {لا تزال…}، ولأنّها “لا تزال” فهي امتدادٌ لمن سبقوا. وأنت تعرفُ الّذين سبقوا، فهل يغيب عنك الذّين لحقوا؟!! فأولئك وهؤلاء من ذات الجنس. بهذا الفهم فإنّ أمرَ الله كلُّه خير، وأملٌ بعد ألم، ورجاءٌ بعد خوف، وفرَجٌ بعد كرْب.
3) … على ذلك
يحدث هذا كلّه وهم على هذه الحالة من الخذلان والعدوان والمخالفة والمناوأة. فكُن كأبي بكر يوم قال: “لئن قال ذلك، لقد صدق”…