من كازينو أريحا إلى مول رام الله: رفاهية زائفة تحت حراب الاحتلال

ساهر غزاوي
بين الدهشة والذهول والاستغراب، يقف العقل عاجزًا عن التصديق، فيما تتوالى أمام الأعين مشاهد أقرب إلى مقتطفات من واقع مقلوب، واقع يتداخل فيه العبث بالسريالية، حتى تغدو الحقيقة كأنها حلم مشوّه يصعب استيعابه أو تصديقه، على أرض ترزح تحت وطأة الاحتلال بقوة السلاح، وشعبها يرزح تحت ويلات العذابات والقهر اليومي.
نعم، يكاد العقل يعجز عن استيعاب ما رأته العين، وما تناقلته وسائل الإعلام بمختلف منصاتها، من مشاهد احتفالية صاخبة ضجت بالموسيقى والأغاني، احتفالًا بافتتاح “أضخم مركز تجاري” (مول) في قلب رام الله، وسط حضور رسمي يتقدمه كبار مسؤولي السلطة الفلسطينية، وعلى رأسهم محافظ رام الله والبيرة، السيدة ليلى غنام.
مشهد يكشف، بلا مواربة، عن حجم الفجوة العميقة بين عالمين متناقضين يتقاسمان الجغرافيا ذاتها دون أن يجتمعا في تفاصيل الواقع، عالم الأضواء والاستعراض والواجهات اللامعة من جهة، وعالم الحصار والقمع والاستيطان المتوحش وحرب الإبادة التي تفتك بأبناء الشعب الفلسطيني من الجهة الأخرى، سواء في قطاع غزة، حيث تجاوز المشهد حدود المحرقة، أو في الضفة الغربية، حيث الحصار والتهويد يتواصلان بلا هوادة.
وفي الوقت الذي كانت فيه الكاميرات توثق لحظات القص، وضحكات المسؤولين، وابتسامات “النجاح” الوهمي، كانت الضفة المحتلة، شمالها وجنوبها، تتشح بالسواد تحت وطأة الاجتياحات العسكرية، وهدير الجرافات، وأصوات البيوت المدمرة، بينما تحولت مشاهد التهجير القسري إلى روتين يومي في جنين وطولكرم ونابلس.
أما غزة – وما أدراكم ما غزة – فكانت تودع شهداءها زُرافات، تحت وابل القصف، حيث لا يعلو فوق الرماد سوى صدى الرعب، ولا يغادر تفاصيل المشهد سوى الموت. خيام النازحين تحولت إلى حقول موت معلقة بين السماء والأرض، تتناثر حولها الذخائر غير المنفجرة، وتحيط بها أكوام الركام من كل اتجاه. وتحت نيران القصف الإسرائيلي، استهدفت خيام الصحفيين قرب مستشفى ناصر في خان يونس، ليُقتل الصحفي الفلسطيني أحمد منصور حرقًا، ويُضاف اسمه إلى قافلة الضحايا التي لا تنتهي.
وفي غزة، حيث أُخرجت عشرات المستشفيات عن الخدمة عمدًا، تعاني أروقتها الصحية شحّ الأدوية وتكدّس الجرحى، بينما يتمدد الأطفال بأجساد نحيلة ينهشها الجوع، وتفضح ملامحهم سياسة التجويع الممنهجة التي فرضها الحصار وإغلاق المعابر. أما الساحات التي ضمت الناجين، فلم تكن سوى فضاءات مفتوحة بانتظار القذيفة التالية، حيث يلهو الأطفال بأراجيح صنعوها من بقايا حديد المباني المدمرة، في مشهد يُلخص قسوة الحياة تحت الاحتلال، واللعب فوق أنقاض الموت.
المشهد ذاته يعيد إلى الأذهان قصة “كازينو أريحا”، الذي افتُتح عام 1998 في ذروة ما سُمي وقتها بـ “مرحلة السلام” التي أعقبت توقيع اتفاقيات أوسلو، المشروع الذي أثار ضجة واسعة في حينه بسبب طبيعته الصادمة لمجتمع يعيش تحت الاحتلال، وقد صُمّم ليكون وِجهة مقامرة فاخرة للإسرائيليين، بينما الاحتلال نفسه لم يغادر الأرض، ولم يتغير الواقع.
لم يكن الكازينو مجرد صالة قمار، بل كان انعكاسًا واضحًا لسياسة اقتصادية هدفت إلى خلق طبقة مستفيدة ومتصالحة مع واقع الاحتلال، تنعم برفاهية مُصطنعة تحت حماية بنادقه، فيما الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب تعيش مرارة القهر اليومي. ومع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، أغلق الكازينو أبوابه وتحول إلى مبنى مهجور، لكنه بقي شاهدًا حيًا على فشل مشروع السلطة في تحقيق كرامة وطنية، وعلى انكشاف أولويات سياسية واقتصادية معزولة عن واقع شعب ينزف تحت وطأة الاحتلال.
واليوم، تتكرر ذات الصورة، حيث تُغرق الضفة الغربية عمدًا بواجهات الرفاهية المصطنعة، مراكز تسوق عملاقة ومطاعم فاخرة ومقاهٍ عصرية، وأبراج شاهقة تتنافس على خداع العين وتجميل صورة واقع يزداد قبحًا ووحشية.
رفاهية استهلاكية تبدو وكأنها جزء من خطة ممنهجة لصرف أنظار الناس عن جوهر المأساة، ولإنتاج حالة من التخدير الجمعي في ظل احتلال يلتهم الأرض والهوية بلا توقف، فيما تتفاقم الأزمات الأخلاقية والاجتماعية، بدءًا من ارتفاع معدلات البطالة، وصولًا إلى تفشي ظاهرة المخدرات التي باتت تشكل تهديدًا صامتًا للمجتمع الفلسطيني، خاصة في مدن وبلدات الضفة المحتلة.
بين مول رام الله وكازينو أريحا، يتكشف واقع الضفة المشوّه، حيث تتقاطع مظاهر البذخ الاصطناعي والرفاهية الزائفة مع قسوة الاحتلال، في معادلة مختلة يستحيل أن تستقيم. كيف يمكن لشعب يرزح تحت احتلال جاثم، وحصار خانق، وأزمات تخنق تفاصيل حياته اليومية، أن يجد مساحة للاحتفال خلف الواجهات اللامعة؟
ولا غرابة أن يتكرر المشهد ذاته، من كازينو الأمس إلى مول اليوم، حيث تتولى طبقة ضيقة استعراض ملامح “حياة طبيعية” تحت حراب الاحتلال، فيما الغالبية تدفع ثمن البقاء يومًا بعد يوم، وسط اجتياحات لا تهدأ، وبيوت تُهدم، وأراضٍ تُسلب، وأطفال يُقتلون، بينما يُوارى الوجع الفلسطيني خلف صمت رسمي ثقيل، وتحت حماية أولئك الذين تحولوا إلى حراس لحدود الاحتلال.
وما بين رفاهية رام الله الزائفة ومآسي جنين وطولكرم ونابلس وغزة الحقيقية، تتعمق الهوة ويتكرس الانفصال التام عن الواقع الوطني، حتى يبدو المشهد وكأن المدينة قد اقتُلعت من جغرافيتها، وغرقت في استعراضات مصطنعة تحت مظلة التنسيق الأمني وبرعاية المحتل.
فالاحتفال هنا لم يكن مجرد مناسبة اقتصادية عابرة، بل كان بمثابة خطاب سياسي بصري، يسعى إلى ترسيخ صورة فلسطين الخاضعة، حيث تتعايش الطبقة الحاكمة مع الاستعمار وتُعيد رسم ملامح وطن مشوّه على مقاس الاحتلال.
وهكذا يتضح أن هذا الانفصال عن الواقع لم يكن زلة أو هفوة، بل خيار واعٍ ومقصود، ووجه آخر للتخلي عن مشروع التحرر، في زمن لا يزال فيه الفلسطينيون، من جنين حتى رفح، يدفعون دماءهم ثمناً لحلم الحرية.