أخبار وتقاريرمقالاتومضات

في هذه الأجواء، تمَّ اعتقال الأستاذ رجا اغبارية

الشيخ رائد صلاح

تتفهم (الديمقراطية الإسرائيلية) وفق حساباتها، أن يقوم الطيران الحربي الإسرائيلي بقصف قاعة مستشفى المعمداني المجهزة للإستقبال والطوارئ، بعد أن قام بقصف أربعة وثلاثين مستشفى في غزة، وبعد أن قصف عددًا كبيرًا من المساجد والكنائس والمدارس والأحياء السكنية.

وتتفهم (الديمقراطية الإسرائيلية) وفق حساباتها، أن يتعرض للقتل آلاف الأطفال والرضع والنساء بغزة، وأن يُقتل بغزة رجال الإعلام وموظفو الصليب الأحمر والعاملون في هيئة الأمم المتحدة وطواقم الإسعاف والهلال الأحمر.

وتتفهم (الديمقراطية الإسرائيلية) وفق حساباتها أن يطالب وزير إسرائيلي بإلقاء قنبلة ذرية على غزة، وأن تشرعن وزيرة إسرائيلية قتل الأطفال والنساء في غزة، وأن تمارس سياسة الحصار والتجويع والتشريد والعقاب الجماعي على غزة.

بل إن (الديمقراطية الإسرائيلية) وفق حساباتها، تتفهم أن يتهم بوجي يعلون، الذي شغل منصب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي ووزير الدفاع الإسرائيلي، أن يتهم الجيش الإسرائيلي بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة، وأن يصف أحد العاملين الإسرائيليين في الموساد سابقًا نتنياهو أنه خائن، وتتفهم أن يقوم عشرات الآلاف من الإسرائيليين بإغلاق الشوارع ذات الأهمية القصوى في حركة السير، وأن يواصل عدد كبير من الإسرائيليين عبر مواقعهم التحريض عليّ وعلى غيري من أبناء مجتمعنا الفلسطيني إلى الحد الذي يدعو إلى قتلنا.

كل ذلك تتفهمه (الديمقراطية الإسرائيلية) وفق حساباتها لا لسبب إلا لأن هذه التصرفات والأقوال قد صدرت عن إسرائيليين، ويبدو أن ما يجوز لهم لا يجوز لغيرهم، وما يحق لهم لا يحق لغيرهم.

وتتسع (الديمقراطية الإسرائيلية) لتصرفاتهم وأقوالهم وتتفهمها ولا تصادرها ولا تلغيها ولا تحاكمهم عليها، وكأن هناك ديمقراطية خاصة بالإسرائيليين فقط، ولا يجوز لغيرهم أن يدخل في ملعب هذه (الديمقراطية الإسرائيلية) ذات المقاس الذي لا يتلاءم إلا مع كل ما هو إسرائيلي فقط!

وفي المقابل، ها أنا ذا قد تعرضت لاعتقال استمر خمس سنوات، ما بين سجن منزلي وسجن فعلي، لأنني كنت قد تفوهت بكلمة (رباط) وقلت في سياق خطاب لي جملة (في وجه الاحتلال الإسرائيلي) ، وتقدمت بالتعزية لمجموعة بيوت في أم-الفحم، ولأنني كنت قد رددت جملة: “بالروح بالدم نفديك يا أقصى”، ولأنني صرحت في سياق حديثي لمجموعة من طلاب المدارس أنني سأفرح لهم عندما يحصلون على شهاداتهم، ولأنني كنت قد تلفظت بجمل أخرى شبيهة بالجملة السابقة. لكل ذلك، وبسبب كل ذلك، تمت مداهمة بيتي في منتصف الليل، ثم اعتقالي.

ثم تواصلت محاكمتي على هذه الجمل، وجيء بقافلة من رجال ونساء قيل إنهم خبراء وفق حسابات المؤسسة الإسرائيلية. وقاموا بليّ أعناق الجمل التي كنت قد صرحت بها، واستخلصوا من تلك الجمل معانيَ ادّعوا أنها تفوح منها رائحة التحريض وتوابعه. وهكذا تمت مطاردتي، لا لسبب إلا لأنني لست إسرائيليًا.

ولأنني لست إسرائيليًا، فأنا مطرود سلفًا من ملعب الديمقراطية وفق حسابات المؤسسة الإسرائيلية.

ثم ها هي أذرع المؤسسة الإسرائيلية تقوم قبل أسابيع باقتحام بيت الإعلامي سعيد حسنين في منتصف الليل، ثم تم اعتقاله، ثم وُجهت له سلسلة تهم تدور بين التحريض والاتصال بعميل أجنبي، بسبب أنه كان قد أجرى مقابلة مع قناة الأقصى المحظورة إسرائيليًا.

وما بين اعتقالي واعتقال الإعلامي سعيد حسنين، كانت بعض أذرع المؤسسة الإسرائيلية قد قامت قبل سنوات بمداهمة بيت الشيخ كمال خطيب، ثم اعتقاله، ثم تواصل اعتقاله في سجن فعلي، ثم تم تحويله إلى سجن منزلي. وخلال ذلك، وُجهت له حزمة تهم تدور حول التحريض وتوابعه، ولا يزال يُحاكم حتى الآن. وما هي أرضية كل ذلك؟ مجموعة خطابات وتغريدات كانت قد صدرت عن الشيخ كمال خطيب.

ولكن كم أصبح هينًا على المؤسسة الإسرائيلية أن تدس أنفها في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ومفردات اللغة العربية، وأن تدعي أنها تملك قدرة عبقرية خاصة تمكنها من تحديد فهم خاص – وفق حساباتها – لهذه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ومفردات اللغة العربية، لم يسبقها إليه ترجمان القرآن الصحابي عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ولا غيره من مفسري التابعين وأتباع التابعين، ومفسري سائر السلف والخلف، وصولًا إلى المفسرين المعاصرين.

وهكذا، بات كل واحد منا بحاجة إلى مقياس حراري يبين له درجة حرارة خطاباته وكتاباته وفق حسابات هذه الديمقراطية الإسرائيلية، وهل اقترب ما يصدر عنه من التحريض وتوابعه وفق حسابات هذه الديمقراطية الإسرائيلية أم لا. وهكذا، باتت كل كلمة يتفوه بها أحدنا قابلة لأن تتسبب له بالاعتقال، وإن كانت كلمة عادية لا غبار عليها، اعتدنا على تردادها يوميًا.

وهكذا، جرّت الكتابة عن طبخة الشكشوكة إلى مطاردة من كتبت عنها في صفحة تواصلها الخاصة!! فماذا لو كتبت عن طبخة البرغل، والمجدرة، والخبيزة، والعكوب، والعلت، والهليون، واللوف، والقائمة طويلة. وهكذا، أصبح بعضنا – ما بين عامل، وطبيب، وطالب، وجامعي – مطاردًا، لا لسبب إلا لأنه تقدم بتعزية لأحد معارفه عبر صفحته على مواقع التواصل، أو لأنه استشهد بآية قرآنية أو حديث نبوي عبر صفحته. بل تفاقم الحال أكثر، فبتنا نُطارد على نوايا أقوالنا وأعمالنا، وليس على الأقوال ذاتها ولا على الأعمال عينها، وهي أعمال واضحة لا مطعن فيها.

ولكن بعض أذرع المؤسسة الإسرائيلية باتت تقول لنا: “لا غبار على ظاهر الأقوال، ولا اعتراض على ظاهر الأعمال، وإنما التهمة تدور حول نوايا هذه الأقوال والأعمال”، مع أنه لا يعلم النوايا إلا الله تعالى، فهي قيمة غيبية لا نراها ولا نسمعها ولا نحسها. إلا أن هذه الأذرع الإسرائيلية باتت تدّعي القدرة على الكشف عن هذه النوايا، وإن كانت قيمة غيبية، ثم باتت تطاردنا وفق ذلك.

وإلا، لماذا تم حظر لجان إفشاء السلام المنبثقة عن لجنة المتابعة العليا؟ ها هي لجان إفشاء السلام، من خلال أقوالها وأعمالها، سعت قبل حظرها إسرائيليًا إلى ترسيخ قيم السلم الأهلي في مسيرة مجتمعنا، وإلى إخراجه من وحل العنف الأعمى وتوابعه، وإلى إفشاء قيم التغافر والتسامح والتصالح، والسعي الجاد إلى جدولة كل النزاعات القائمة في مجتمعنا، ثم إلى إحلال الصلح بين أطراف النزاع فيها.

ولكن أبت هذه الأذرع الإسرائيلية إلا أن تدعي أن وراء أقوال وأعمال لجان إفشاء السلام نوايا مخفية، يمكن من ورائها أن يسعى القائمون على هذه اللجان إلى إحياء دور الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليًا، علمًا بأن لجان إفشاء السلام تضم في عضويتها كل مكونات مجتمعنا السياسية والدينية. ولكن هكذا هي حسابات الديمقراطية الإسرائيلية، وما أعجبها من حسابات!

وفي هذه الأجواء، تم اقتحام بيت الأستاذ رجا إغبارية في منتصف الليل، ثم اعتقاله، ثم اقتياده إلى أحد عناوين السجون الإسرائيلية – وما أكثرها! – ثم تمت مواصلة تمديد اعتقاله لأكثر من مرة. ولا أحد فينا يعرف ماذا بعد.

ولكن الذي نظنه تحليلًا، بناءً على قواعد الشواهد السابقة، أنه سيتم توجيه حزمة تهم له، وسيتم ابتزاز مبررات مصطنعة لهذه التهم مما يتوفر من أقواله وكتاباته أو مكالماته الهاتفية.

ولتكن ما تكون فصاحة طاقم الدفاع عن الأستاذ رجا إغبارية، وليكن ما يكون تهافت ادعاء النيابة الإسرائيلية في ملف الأستاذ رجا إغبارية، وليكن ما يكون وهم مبررات هذه النيابة، إلا أن أجواء الديمقراطية الإسرائيلية تحمل سلفًا تصديق ادعاءات ومبررات هذه النيابة، وتحمل سلفًا رفض مطاعن طاقم الدفاع في هذا الاعتقال السياسي، وهذه المطاردة السياسية التي تطل علينا وعلى غيرنا وهي ترتدي لباسًا قانونيًا للاقتحام والاعتقال والمحاكمة وفق ادعاءاتها.

وهكذا أصبح حالنا في واحة الديمقراطية الإسرائيلية الوحيدة في الشرق الأوسط! ولكن هذا النهج من التعامل معنا، الذي أسست له الديمقراطية الإسرائيلية وفق حساباتها، والذي استباحت بناءً عليه مواصلة مطاردتنا على الظن، وعلى افتعال الظن إن لم يتوفر الظن، وعلى النوايا إن انعدمت إمكانيات افتعال الظن ضدنا، هذا النهج، ووفق ما هو متوقع، لن يطول الزمان حتى تفرضه المؤسسة الإسرائيلية كأسلوب تعامل مع المجتمع الإسرائيلي نفسه. وقد نبدأ في قادمات الأيام بسماع خبر اعتقال فلان أو فلانة من المجتمع الإسرائيلي وفق هذا النهج الهجين. ويوم أن نقرأ مسيرة هذا النهج الهجين على مدار التاريخ، سنجده إذا بدأ فسيمتد حتى ينال من الجميع دون استثناء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى