اجلس… فإنك لا تعرفه
ليلى غليون
للظلم أشكال عدة وصور متنوعة، ومن صوره أن تنصب نفسك قاضيًا وتصدر أحكامك المسبقة على الغير بلا معرفة أو بينة، معتمدًا بذلك إما على هيئتهم أو على كلمة عنهم سمعتها من أحدهم، أو سوء ظن منك، أو نظرة سطحية قاصرة، لتصفهم بصفات سلبية بعيدة عنهم كل البعد، بل ومتناقضة لحقيقتهم وواقعهم فتكون بذلك قد ارتكبت بحقهم جرمًا وظلمًا عظيمًا بحقهم، وحملت على عاتقك من الأوزار ما يعلم بثقلها إلا الله تعالى.
فأغلب الأحكام المسبقة على الناس عادة ما تكون خاطئة وظالمة ومن صنع الخيال، لأنها تفتقر إلى الأدلة القاطعة ومصدرها ليس إلا السطحية وربما العبثية والتسلية بشؤون الغير أو هي أمراض القلوب.
يقول أوسكار وايلد -كاتب وشاعر ايرلندي-: “السطحيون وحدهم من يحكمون على الناس من مظهرهم الخارجي، وربما من أصعب المعارك هي التي تدفعك لتحكم على قرارات لم تعرف ماذا كانت اختياراتهم عند خوضها، لذلك دائما الشخصية المتسرعة في الحكم تقع في حرج، إذ أنها تخطئ في الظن ومن ثم يجب أن تعتذر وتصبح من كثيري الاعتذار للآخرين”.
فالتسرع بإصدار الأحكام يعرض صاحبه للحرج أولًا والإحساس بالذنب ثانيًا والندم ثالثًا، ولات حين مندم، فقد تظلم بريئًا وتبرئ ظالمًا، وترفع من قدر سفيه وتزدري عالمًا، فكما يستحيل استرجاع السهم بعد انطلاقه ،فلا يمكن كذلك استرجاع القرارات بعد صدورها، ولا الكلمات بعد نطقها ولا استرجاع الخطأ بعد حدوثه.
فلا أبالغ لو قلت أن أغلبنا قد وقع في فخ التسرع وإبداء الرأي والحكم على الآخرين من خلال مظهرهم أو بعض سلوكياتهم أو من غير علم، أو من غير تريث ولا تثبت ولا تعمق ولا إحاطة بالظروف والأسباب التي دفعتهم لمثل هذه التصرفات، لتنطلق مسبقًا الأحكام القاسية التي لا تستند إلى دليل، والظنون السيئة المبنية على الأوهام أو الظن السيء، والتي تكون بمثابة اللغم الذي يدمر العلاقات بين الأفراد ويفجر الصلات المجتمعية ويفكك الروابط بين العائلات ويزرع الكراهية والقطيعة بين الناس، خاصة الحكم على أشخاص من أول نظرة تجعلهم في مرمى سوء الظن البعيد عن الحقيقة، خاصة فيما يتعلق بالأعراض.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: “ما اعتمد أحد أمرًا إذا همّ بشيء مثل التثبت فإنه متى عمل بواقعه من غير تأمل للعواقب كان الغالب عليه الندم …”.
فكم من الحماقات ترتكب بسبب التسرع في الحكم، وكم من المشاكل والخلافات اشتعل أوارها بين الأفراد بسبب التهور والعجلة، وكم من بيوت وأسر هدمت وأصبحت خرابًا لذات الأسباب، وكم من شخص حكمتَ عليه اعتمادًا على كلام سمعته من آخرين، وعندما قابلته وجدت حقيقته مغايرة تمامًا لما سمعت عنه واكتشفت بنفسك عمق الخطأ الذي وقعت فيه بحقه، وكم من شخص حكمت عليه غيابيًا أنه متكبر مثلًا، وعندما جالسته وخالطه وجدته غير الذي كنت تعتقد، ووجدت أن الانطباع الأول الذي رسمته في ذهنك عنه ما هو إلا انطباع سطحي وساذج، بل وظالم.
فعن سهل بن سعد الساعدي، قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: مَا تَقُولُونَ في هَذَا؟ قَالُوا: في هذا نقول: هذا من أشرف الناس هذا حَرِيٌّ، إِنْ خَطَبَ، أَنْ يُخطب، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ لقوله ،فسَكَتَ النبي صلى الله عليه وسلم، وَمَرَّ رَجُلٌ آخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا تَقُولُونَ في هَذَا؟ قَالُوا: نقول: والله يا رسول الله هذا من فقراء المسلمين، هذا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ لمَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لقوله، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: لهَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا.
والسؤال الذي يجب أن يُسأل: عندما تصدر حكمك على شخص ما من خلال نظرتك الأولى له، فهل فيك أنت من الخصال والمحاسن ما تتفوق عليه؟ ومن قال أن نظرتك هذه صائبة؟ بل من خولك وأعطاك هذا التفويض لتحكم عليه بما حكمت؟ وهل يعد كافيًا أن تعرف معادن الناس من مجرد النظر إليهم أو من مظهرهم دون الاختلاط بهم ومعاشرتهم؟
سأل عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه عن رجل ما إذا كان أحد الحاضرين يعرفه، فقام رجل وقال: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين، فقال عمر: لعلك جاره، فالجار أعلم النّاس بأخلاق جيرانه؟ فقال الرّجل: لا، فقال عمر: لعلك صاحبته في سفر، فالأسفار مكشفة للطباع؟ فقال الرجل: لا، فقال عمر: لعلك تاجرت معه، فعاملته بالدرهم والدّينارِ، فالدّرهم والدّينار يكشفان معادن الرّجال؟ فقال الرّجل: لا، فقال عمر: لعلّك رأيته في المسجد يهز رأسه قائمًا وقاعدًا؟ فقال الرّجل: أجل، فقال عمر: اجلس فإنك لا تعرفه.
فلا تجعل من المظاهر والشكليات متكأ للحكم على الناس أو تصنيفهم فتظلمهم وتبخسهم حقوقهم، فغالبا ما ترى منهم إلا جزءً من الحقيقة، والنفوس مليئة بالأسرار والخفايا لا يعلمها إلا علام الغيوب وترفض أن يطلع على حقيقتها الغير وهذا حق مشروع لها، وهناك قلوب تتألم ولا تتكلم، وهناك من يعاني ويتذوق العلقم ولا يشعر به أحد، فلا تحكم على شيء قبل أن تعلم، وقبل أن تنصب نفسك قاضيًا وتشرق وتغرب في أحكامك على الناس، تذكر أنك أنت عرضة لأحكام الناس عليك، فما لا تقبله لنفسك، ارفضه لغيرك، وأن السهم الجارح الذي تطلقه من جعبة سوء ظنك قد يرتد إليك وبنفس القسوة أو ربما أعظم منها فالظلم عاقبته وخيمة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث”.