أخبار وتقاريرمقالاتومضات

معركة الوعي (236)

حامد اغبارية

أزعر الحارة…
يُروى أن أصغرَ حيّ في المدينة الكبيرة كان أهلُه يعيشون بأمان وسخاء ورخاء وتكافل ووُدّ وتراحُم. كان النّاس في الحيّ يملكون من القدرات والطاقات ما جعلهم يهتمون بأرضهم ويزرعونها ويأكلون من ثمارها ويشربون من ينابيعها وغدرانها، ويملكون من حب العلم والارتقاء ما جعلهم يهتمون بتعليم أبنائهم، حتى أن سائر أحياء المدينة الكبيرة كانت تغبطهم على ذلك.

اعتاد صبيان الحي وأطفاله اللعب كل يوم في شوارع الحي وساحاته وبساتينه. وذات يوم فوجئوا بصبيّ غريب يلبس لباسا غريبا، متضخم الجثة، عابس الوجه، يتطاير الشرر من عينيه، يقتحم الأماكن التي يلعبون فيها، ويصيح بلغة عربية ركيكة بلكنة عرف الصغار أنها لكنة أقوام تعيش وراء البحار: من هذه اللحظة هذه الأماكن كلها لي، ولن يستطيع أحدكم اللعب إلا بإذني.

اقترب منه أحد صبيان الحي وسأله: ومن أنت حتى تمنعنا؟ هذه ملاعبنا ورثناها أبا عن جدّ! فما كان من الصبيّ الغريب إلا أن عاجل الصبي بصفعة مجلجلة جعلته يفقد توازنه ويكاد يغمى عليه. صُدم الصبي، وصُدم أترابه، وتسرب الخوف إلى قلوبهم.

ثمّ قرروا الاستعانة بصبيان الأحياء المجاورة لمواجهة الصبي الغريب الذي اقتحم عليهم ملاعبهم وأحلامهم.

جاءت أعداد كثيرة من صبيان الأحياء المجاورة، ففرح صبيان الحيّ واستقر في نفوسهم أن الصبيّ الغريب سيهرب لينجوَ بجلده، لكنّهم فوجئوا بكبير صبيان الأحياء المجاورة يقول: أيها الصبيان… لقد تحدثت مع الصبي الغريب، وعرفت أنه من عائلة مسحوقة، كان يعيش في أحد أحياء العاصمة، فطرده صبيان ذلك البلد لأنه لا يتحدث بلغتهم ولا يلبس مثل ملابسهم، وكانوا يتهمونه بأنه يثير المشاكل، فقرر القدوم إلى هنا لأنه سمع أن حيّكم أهله طيبون ويكرمون الغرباء. أصيب صبيان الحي بالدهشة مما يقوله كبير صبيان الأحياء، وقالوا: إنه يكذب.

لقد اعتدى علينا وقال إن ملاعبنا ملك له من اليوم وإنه لن يسمح لنا باللعب إلا بإذن منه. فقال كبير صبيان الأحياء الأخرى: يا إخواني، لقد سألته عن ذلك فنفى وأقسم أغلظ الأيمان أنه لم يفعل، بل أبلغني أنكم أنتم الذين رفضتم أن يلعب معكم، وقد ذرف أمامي الدموع وهو يقول: إن هؤلاء الصبيان يكرهونني لأنني أتكلم بلغة غير لغتهم وألبس لباسا غير لباسهم. صاح الصبيان: كذاب. إنه يكذب.

لا تصدقه! قال كبير صبيان الأحياء: يا أصدقائي، أمهلوني يومين حتى أذهب إلى العاصمة وأستشير من هُم أعرفُ مني بمثل هذه المسائل. ولكن حتى أرجع أطلب منكم ألا تعترضوا الصبي وألا تخرجوا إلى ملاعبكم.

عاد كبير الصبيان بعد يومين مطأطئ الرأس، فسأله صبيان الحي عن حاله تلك، فقال: لقد أبلغوني أن من حقّ الصبي الغريب أن يلعب في ملاعبكم، وأروْني مخطوطات قديمة فيها أن للصبي حقا قديما في ملاعبكم، وقد أشاروا إلى اسمه في تلك المخطوطات وقرأته بأم عينيّ. صاح صبيان الحي: لقد وثقنا بك، لكنّك عُدت إلينا بهذا الخبر الكاذب.

لقد تعلمنا أن هذه الملاعب ملك آبائنا وأجدادنا منذ زمن سحيق. فمن أين أتت هذه المخطوطات التي تتحدث عنها؟ فقال كبير الصبيان: يا أصدقاء، الرأي الصواب أن ننتظر، فأنتم تعلمون أننا لا يمكننا أن نخالف ما تقوله العاصمة.

فلننتظر حتى نرى ما نفعله في قادم الأيام. وإلى ذلك الحين علينا ألا نعترض الصبي الغريب حتى لا تغضب العاصمة. سوف نرى ما نفعله. اطمئنوا، فنحن صبيان الأحياء في المدينة لن نترككم وحدكم.

إذا اعتدى عليكم الصبي -كما تقولون- فما عليكم سوى إبلاغنا، ونحن سنلقنه درسا لن ينساه.

في صباح اليوم التالي فوجيء صبيان الحي الصغير بالصبي الغريب يصل إلى ملاعبهم ومعه صبيان كثيرون يسندونه. كانوا يلبسون مثل لباسه الغريب، لكن جثثهم أضخم من جثته، ووجوههم أكثر عبوسا من وجهه، والشرر في عيونهم يتناثر يمنة ويسرة كأنه قذائف تتساقط من الأجرام السماوية.

شعر صبيان الحي بالخطر الشديد، وأدركوا أنهم خسروا المعركة وخسروا ملاعبهم، ورغم علمهم بأن الملاعب ملاعبهم وأن الصبي الغريب يكذب، إلا أن الخوف تمكن من قلوبهم، فتراجعوا وانكمشوا.

وبعد تشاور بينهم قرروا عدم الخروج إلى الملاعب، إذ أن كبيرهم أقنعهم بأنه من الضروري الحفاظ على حياتهم وعدم تعريض أنفسهم للخطر، خاصة وأن أجسادهم رقيقة نحيلة، وليست بمثل ضخامة جثة الصبي الصغير وضخامة جثث سائر الصبيان العمالقة الذين جاءوا معه. وأبلغهم كبيرهم أنه سيتشاور كل يوم مع كبير صبيان الأحياء الأخرى للتوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف.

مرت الأيام ثقيلة كئيبة، وأصبح الصبي الغريب هو المسيطر على الملاعب، ثم بعد فترة امتدت يده إلى الحقول والبساتين، يأكل من ثمارهما ويشرب من ينابيعها دون أن يجرؤ أحد أن يكلمه أو يعترض عليه.

ثم كان الصبي الغريب كلّما التقى صبيا من صبيان الحي في الطريق يصفعه أو يركله، دون أن يجرؤ على الرد. وكثرت الشكاوى من فعائل الصبي الغريب: يضرب يمينا ويسارا، ويركل هنا ويرفس هناك، ويأخذ من الأطفال والصبيان ما معهم من حلوى أو طعام ويلتهمه بشراهة غريبة وهو يضحك مستهزئا، دون أن يحرك أحد ساكنا.

ثم ازدادت شهية الصبي الغريب فمد يده إلى أحياء المدينة الأخرى، وراح يضرب هذا ويصفع ذاك ويركل من يلقاه في الطريق، حتى أنه ذات يوم التقى كبير صبيان الأحياء فنزل على يافوخه بضربة قوية أسقطته أرضًا ووضع قدمه على رقبته وهو يقول: كل شيء هنا لي وأنا الذي أقرر من يلعب ومن لا يلعب. كل هذا دون أن يحرك أحد ساكنا.

بل بلغ الأمر مداه يوم أن التقى الصبي -وبرفقته كبير صبيان العاصمة الذي حمل بيده عصا غليظة- شيخ الجامع في الحيّ الصغير، فاقترب منه ومد يده إلى عمامته وهو يصيح: عمامة قبيحة، عليك من اليوم فصاعدا أن تلبس القبعة، فهي أجمل. أمسك الشيخ عمامته بكلتي يديه وصاح في وجهه: بل خسئت. هذه العمامة ستبقى فوق رأسي حتى قيام الساعة، ولن يأتي اليوم الذي ألبس فيه تلك القبعة البغيضة.

دفع الصبي الغريب الشيخ في صدره بقبضتيه، فترنّح الشيخ لكنه تماسك وهو يصيح: أيها الوقح… إن كنتُ قد هرمتُ وشِختُ ولا أستطيع أن أرد إليك الصاع صاعين، وإن كان صبيان الأحياء المجاورة قد غدروا بحيّنا الصّغير، وإن كانت العاصمة قد أرسلت معك الكثير من شرار الصبيان، فغدًا يخرج من نسلي من يفعلها. قهقه الصبي الغريب ملء شدقيه وقال: أنت تحلم. سوف ألبسك القبعة يوما ما رغم أنفك.

كان صبيان الحيّ يقفون قريبا من المكان، فقال بعضهم: لقد زاد الأمر عن حدّه. عمامة الشيخ يُعتدى عليها ونحن نتفرّج؟! فقال آخر: نعم، علينا أن نحمي عمامة الشيخ، فهي رمز الحيّ، بل رمز المدينة الكبيرة. فقال كبير الصبيان: يا أصدقائي، انتظروا لنرى ما يكون في النهاية، وغدًا أذهب إلى العاصمة وأبلغهم بالأمر.

فصاح أحد الصبيان: وإلى متى سنبقى ننتظر العاصمة التي تكذب علينا في كل مرة؟ وانقسم الصبيان قسمين: قسم قليل العدد يريد أن يتحرك فورا ليمنع الصبي الغريب من مد يده إلى عمامة الشيخ، والقسم الأكثر عددا مع رأي كبير الصبيان.، فغلبوهم إلى حين، واستقر الرأي أن يتوجه كبير الصبيان مع كبار صبيان الأحياء الأخرى إلى العاصمة لحسم الأمر. لكنهم عادوا في اليوم التالي -كعادتهم- بخفي حنين..

مرت الأيام والشهور وقد سيطر الصبي الغريب على كل الملاعب في الحيّ الصغير وفي سائر أحياء المدينة الكبيرة، ولم يعد في إمكان أحد أن يقف في وجهه. وكان صبيان الأحياء يذهبون كل يوم إلى العاصمة يبثونها شكاواهم، حتى أن قسما منهم عرضوا على العاصمة أن توفّر لهم ملعبا واحدا صغيرا يلعبون فيه.

أعلنت العاصمة على الملأ أنها ستبذل ما يمكنها لتوفير ملعب صغير لهم، واختارت من بينهم كبير الصبيان ليكون هو وكيلهم أمام العاصمة يتحدث باسمهم. لكن شيئا من تلك الوعود لم يتحقق، وفي كل مرة يرجع صبيان الحي من العاصمة بخفي حنين. أعرب صبيان الحي عن غضبهم ورفضهم لتعامل العاصمة معهم.

فما كان من العاصمة إلا أن قالت: نحن نقف خلف وعودنا، لكن الأمر يحتاج إلى مزيد من الوقت. نريد أن نبحث لكم عن مكان مناسب للملعب الذي ستلعبون فيه. وإلى ذلك الحين خذوا هذه القروش واشتروا بها من الحلوى ما تشتهي أنفسكم.

ومرت شهور أخرى وأخرى وأخرى، والصبيان ينتظرون وقد انتفخت بطونهم من الحلوى التي اشتروْها بقروش العاصمة، حتى ثقُلت أجسامهم وضعفت همتهم، ولم يعد لديهم رغبة حتى في ملعب يلعبون فيه…..

وجاء يومٌ انشغلت فيه الأحياء الأخرى في المدينة الكبيرة بمشاكلها، وأصبح الحيّ الصغير وحيدا يواجه مصيره أمام شهيّة الصبي الغريب التي ازدادت يوما بعد يوم، وأصبح صبيان الحي وصبيان الأحياء الأخرى هدفا لصفعات وركلات ورفسات الصبي الغريب المتضخم، الذي ازداد مع مرور الأيام ضخامة وانتفاخا، وكثرت شكاوى الصبيان إلى العاصمة، ومع مرور الزمن ازدادوا انكماشا، حتى أن أحدهم كان يطلب الإذن من الصبي الغريب ليشتري من دكان الحي من قروش العاصمة.

وكثيرا ما كان الصبي الغريب يمنع الصبيان من الوصول إلى الدكان، وفي بعض الأحيان كان يأخذ منهم القروش ويمنعهم من المرور، حتى ضاقت عليهم معيشتهم، ولكنهم -بعد تشاور بينهم- قرروا مواصلة انتظار الجواب من العاصمة.

وفي يوم وقف الصبي الغريب أمام جامع الحي، وقد أمسك بيده عصا غليظة، وبرفقته صبيان من العاصمة يحملون العصيّ كذلك، وصاح: يا شيخ الجامع، اخرج إليّ.

تجمّع صبيان الحيّ لدى سماعهم الصوت، ووقفوا بعيدا يراقبون ما سيحدث..

خرج شيخ الجامع، ولما رأى الصبي استعاذ بالله من شياطين الإنس والجن وقال: أعوذ بالله من شرّك! ما الذي جاء بك إلى هذه البقعة الطاهرة؟ وماذا تريد؟

قهقه الصبي طويلا وقال ساخرا: بقعة طاهرة؟! حسنا…! لقد أرسلت إلى أصدقائي ليرسلوا إليّ القبعة التي وعدتك بها.

قال الشيخ بهدوء: أيها الأحمق! أما قلت لك في المرة السابقة إن هذه العمامة ستبقى فوق رأسي على يوم القيامة؟!

ثم رفع الشيخ صوته مناديا، وهو يلتفت إلى باب الجامع: يا عمر…!

ومرت هنيهة، وإذ بصبي صغير يعتمر طاقية بيضاء يخرج من داخل الجامع، وهو يقول: نعم يا شيخي…

أشار الشيخ بإصبعه إلى الصبي الغريب والذين معه دون أن يقول شيئا.

نزل الصبي عمر الدرجات الثلاث التي تؤدي إلى باب الجامع واقترب من الصبي الغريب ووقف أمامه، ثم رفع رأسه ونظر في عينيه وقال: أما سمعت الشيخ؟ ارحل من أمام المسجد فورا.

ضحك الصبي الغريب ضحكة هستيرية ونظر إلى رفقائه وقال: أتسمعون؟ هذا الصغير النحيل، الذي لا يملك حتى عصا صغيرة يتحداني؟ ثم نظر إلى عمر وقال: اذهب إلى أمك، فإنها تبحث عنك، وربما جهزت لك الحليب كي ترضع.

ابتسم عمر وقال بهدوء: ليتك تعرف أمي حقا! إنها ليس كسائر الأمهات، لكنني لن أضيع وقتي لأشرح لك عن أمي لأنّك لن تفهم. ارحل يا هذا من أمام جامعنا. أما عمامة الشيخ فإني أحذّرك أن تمد يدك إليها.
قال الصبي الغريب: أنت تهددني!! انظر كيف سأنتزع العمامة، وسنرى ما ستفعله!

اقترب الصبي الغريب من الشيخ ومد يده إلى العمامة، فما كان من عمر إلا أن قفز كالشبل ووجه إلى الصبي الغريب صفعة قوية أسقطته أرضا وقد نزفت الدماء من أنفه وهو يتلوى ويصيح من شدة الألم، ثم نظر إلى رفقائه من صبيان العاصمة وصاح في وجوههم: ارحلوا أنتم أيضا. فلولا أنكم وقفتم خلفه لما تمادى هذا المتعجرف المنفوخ. يصرخ بأعلى صوته: سوف تندمون. ستدفعون الثمن غاليا.

تراجع صبيان العاصمة وسحبوا معهم الصبي الغريب، وقد علت وجوههم الصدمة: أكلُّ هذا يصدر عن هذا الصبي النحيل، الذي لم يخف من عِصِيّنا، ولا من ضخامة أجسامنا؟! إنه لأمر عجيب! لا بد أن لديه سرًّا، فلنحذر، ولننتظر إلى حين..

صاح عمر: لن تقتربوا بعد اليوم من الجامع ومن عمامة الشيخ…

ثم نظر عمر إلى صبيان الحي وقال: لو أنّ أحدكم ملك الجرأة ليرد الصفعة لهذا الصبي الغريب يوم وصل إلى الحي من أول يوم… لما كُنّا اليوم هنا؟ أمّ العاصمة التي تنتظرون منها خيرًا فإنها لن تنفعكم حتى لو سجدتم في محرابها.

وللحكاية تتمة…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى