الشيخ رائد صلاح: تعاهدوا المسجد الأقصى بعد رمضان

الشيخ رائد صلاح
أكرمنا الله تعالى وشددتُ الرحال إلى المسجد الأقصى في شهر رمضان المبارك، ولما عبرتُ من بوابة الأسباط نحو ساحاته وبوائكه ومصاطبه، ونحو قبة الصخرة والجامع القبلي والمصلى المرواني -وكلها تدخل في مسمى المسجد الأقصى- ولما وجدتُ نفسي أقف عند منبر برهان الدين، نظرتُ حولي فرأت عيناي سيولًا بشرية من الأهل الكرام من القدس وما حولها، ومن الجليل والمثلث والنقب والمدن الساحلية: عكا وحيفا ويافا واللد والرملة، بل رأيتُ من جاء يسعى من أقصى الأرض إلى المسجد الأقصى.
فهذا شاب فتيّ، عندما صافحته ونظرت إليه وجدته أسود البشرة، أبيض القلب، يصل طوله إلى ما يقارب المترين، ولا يتكلم العربية، ولكنه ابتسم ابتسامة أخوة إيمانية ومضى في طريقه يتجول بين جنان المسجد الأقصى.
وهذا شاب فتيّ آخر صافحته فقال لي – والسرور يشرق من وجهه: “أنا من الهند”.
وهذا شاب فتيّ ثالث صافحته فقال لي: “أنا أسكن في بلجيكا وأنا من أصول تركية”.
وهكذا كان مشهد من شدّوا الرحال إلى المسجد الأقصى أشبه ما يكون بمن شدّوا الرحال إلى المسجد الحرام وإلى المسجد النبوي. فها هي كل مكونات الأمة الإسلامية بألوانها وأنسابها ولغاتها قد اجتمعت في المسجد الأقصى.
ثمَّ اقترب موعد الإفطار الرمضاني، فنظرت من حولي فوجدت موائد الرحمن الرمضانية قد كسَت كل ساحات المسجد الأقصى التي تزيد على المئة والعشرين دونمًا، فما من بقعة من كل الساحات المباركة إلا وقد جلس عليها بعض الأهل -ما بين رجال ونساء وأطفال- وهم يلتفون أسرة واحدة حول مائدة طعامهم الرمضانية استعدادًا لتناول إفطارهم بعد أذان المغرب.
وما أروعها من موائد رمضانية زُيّنت بالأخوة والصفاء والكرم! فهذا يوزع تمرًا على جيرانه، وهذا يحمل صحن علت وخبز طابون ويعرضه على أهل مائدة رمضانية أخرى، وهذا يحمل طنجرة مقلوبة فاحت رائحتها في كل مكان وهو يتقدم بها نحو عنوان المائدة الرمضانية التي هو على موعد معها، وهذا يحمل صحن ورق عنب ويضعه بكل أدب وكرم وسط مائدة رمضانية لا تخصه.
وهكذا كثرت تلك المشاهد وتزاحمت وتداخلت ببعضها في أعظم مشهد ممكن للإنسان أن يراه في المسجد الأقصى.
ثم بعد أن تناول الأهل إفطارهم الرمضاني، هبّ بعضهم يوزع القهوة وهو يحمل بيده إبريق قهوة ذا حجم كبير، ويحمل بيده الأخرى رزمة فناجين قهوة معدة من ورق سميك.
وهبّ بعضهم يوزع الحلويات الشرقية على شتى أصنافها -ما بين كنافة وقطايف وكلّاج- وهبّ بعضهم يوزع الفواكه متمنيًا أن تمتد إليها الأيدي وأن تنفد خلال دقائق معدودة. ثم تدافع الأهل نحو حمامات المسجد الأقصى كي يتوضؤوا استعدادًا لصلاة العشاء والتراويح بعد أن صلّوا صلاة المغرب.
وقد اجتهدتُ أن أبحث لي عن حمام من هذه الحمامات كي أتوضأ فيه، فوجدتها مزدحمة، ووجدت صفوف الأهل الذين كانوا ينتظرون لدخول تلك الحمامات كانت صفوفًا طويلة، وقد يرتفع أذان العشاء في كل لحظة. فبحثت عن أحد كؤوس الوضوء في المسجد الأقصى فتوضأتُ من مائها، ثم وقفتُ في أحد الصفوف التي غطت كل ساحات المسجد الأقصى، ونويت صلاة العشاء خلف إمام المسجد الأقصى، ثم نويت صلاة التراويح خلف ذاك الإمام.
ثم لما هممت بالخروج من المسجد الأقصى والعودة إلى مدينتي أم الفحم، وجدت أن كل أبواب المسجد الأقصى كانت مزدحمة كأنه يوم النشور، ووجدت أن فرق النظام كانت قد مدت حبلًا طويلًا في الهواء للفصل بين الرجال والنساء، فكان للرجال طريقهم عند الخروج، وكان للنساء طريقهن عند الخروج. وهكذا رفعت فرق النظام حرج التدافع والاحتكاك عن الرجال والنساء.
وقد علمتُ فيما بعد أنه كان في تلك الليلة المباركة أكثر من مئة وعشرين ألفًا ممن شدّوا الرحال إلى المسجد الأقصى، وكانت تلك الليلة ما قبل الليالي العشر الأواخر من رمضان، وهذا يعني أن العدد سيتضاعف في هذه الليالي العشر الأواخر، وسيتضاعف أضعافًا مضاعفة في ليلة القدر. وهذا هو مشهد الوفاء المطلوب منا للمسجد الأقصى في شهر رمضان المبارك وقبله وبعده.
وحثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على شدّ الرحال إلى المسجد الأقصى هو حثّ قائم ودائم وأبدي في شهر رمضان المبارك وقبله وبعده، ومضاعفة الصلاة في المسجد الأقصى إلى خمسمئة صلاة -وفي رواية إلى ألف صلاة- هي مضاعفة لكل صلاة في المسجد الأقصى في شهر رمضان المبارك وقبله وبعده.
وأضيف مذكرًا ببعض هذه الفضائل من فضائل المسجد الأقصى:
1ـ اتفق علماء المسلمين على استحباب السفر إلى بيت المقدس للعبادة المشروعة فيه، كالصلاة والدعاء والذكر وقراءة القرآن والاعتكاف. (1).
2- يُستحب لمن زار المسجد الأقصى أن يختم القرآن به. نصّ عليه الزركشي في “إعلام المساجد” (صفحة 288)، واستأنس بما رواه سعيد بن منصور في سننه عن أبي مجلس قال: “كانوا يستحبون لمن أتى المساجد الثلاثة أن يختم بها القرآن قبل أن يخرج: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد بيت المقدس”. وروى أبو المعالي أن سفيان الثوري كان يختم به القرآن. (2).
3- روى النسائي حديثًا نبويًا عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أن سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل خلالًا ثلاثة: سأل الله عز وجل حكمًا يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله عز وجل ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه”. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة”.
وهذا الحديث صحيح، وقد صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وأبو العباس القرطبي، ورواه ابن ماجه، وهو حديث غزير المعاني ومليء بالأسرار.
وعلى عجالة أقول: هذا الحديث يدلنا على أن نبي الله سليمان لم يبنِ هيكلًا، بل بنى مسجدًا، والمقصود بالمسجد هو المسجد الأقصى. وعندما بناه لم يبنه لأول مرة، بل كان بناء المسجد الأقصى قائمًا منذ نبي الله آدم، وهو ما يدل عليه حديث صحيح رواه الشيخان عن أبي ذر رضي الله عنه.
ومنذ نبي الله آدم تحول المسجد الأقصى إلى ميراث نبوي تعاهده الكثير من الأنبياء بالرعاية والعبادة فيه، وكان من ضمنهم نبي الله سليمان عليه السلام، ثم انتهت رعاية هذا المسجد والعبادة فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صلى وسجد في المسجد الأقصى، وأمرنا بتعاهد المسجد الأقصى بالرعاية والعبادة فيه. ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين ولا نبي بعده، ولأن المسجد الأقصى هو ميراث نبوي، انتقلت أمانة رعايته والعبادة فيه من نبي إلى نبي، ولأن أمانة رعايته والعبادة فيه قد انتهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد انتهت أمانة رعاية المسجد الأقصى والعبادة فيه إلى الأمة الإسلامية من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا أصبحت الأمة الإسلامية هي صاحبة السيادة الوحيدة والأبدية على المسجد الأقصى، وهذا فصل الخطاب بإيجاز في موضوع المسجد الأقصى، ويشهد على ذلك آيات قرآنية وأحاديث نبوية.
ثم نلاحظ في ختام هذا الحديث الذي رواه النسائي عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أما اثنتان فقد أعطيهما”، والمقصود بذلك هو نبي الله سليمان عليه السلام عندما سأل الله تعالى الحكم والملك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة”، والمقصود بالثالثة عندما طلب نبي الله سليمان المغفرة لمن أتى المسجد الأقصى “لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه”.
وقد رجا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرجاء حتى يعود بالخير والبركة على الأمة الإسلامية؛ لأنها هي من حملت أمانة شدّ الرحال إلى المسجد الأقصى حتى يوم الدين، ولأنها هي من حملت أمانة الإخلاص لله رب العالمين عندما تدخل المسجد الأقصى حتى يوم الدين، والمطلوب أن يكون حالها مع المسجد الأقصى كما قال نبي الله سليمان عليه السلام: “لا ينهزه إلا الصلاة فيه”.
ولأن الأمة الإسلامية إذا ما تحققت بكل ذلك فستحظى بهذه البشرى: “أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه”. لكل ذلك كان هذا الرجاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة”.
وحول هذه الثالثة قال الشيخ عبد الغني المجدد الدهلوي في حاشيته “إنجاح الحاجة” (صفحة 237، النسخة الهندية): “وأما الدعاء الثالث وهو طلب المغفرة لمن أتى مسجده فاستجابته متوقعة أيضًا؛ لأن الله تعالى لما استجاب دعاءه في أمر الدنيا فكيف لا يستجيب دعاءه في أمر الآخرة”. (3).
وقال الأتيوبي في “ذخيرة العقبى في شرح المجتبى” (8/526) حول الدعاء الثالث: “ولما كان رجاؤه صلى الله عليه وسلم في مثل هذا يفيد التحقيق، استدل به المصنف رحمه الله على فضل المسجد الأقصى والصلاة فيه، وكذا فعل ابن خزيمة رحمه الله في صحيحه”. (4).
وقال ابن تيمية في “فتاويه” (27/285): “ولهذا كان ابن عمر يأتي من الحجاز فيدخل فيصلي فيه ثم يخرج ولا يشرب فيه ماء لتصيبه دعوة سليمان”. وهذا غيض من فيض أسرار هذا الحديث الشريف ومعانيه، وإلا فإن أسراره ومعانيه أكثر من ذلك.
4ـ فيا أهلنا الأحباب – كبارًا وصغارًا ورجالًا ونساء- يا من تنافستم بشدّ الرحال إلى المسجد الأقصى في رمضان، ويا من تنافستم بكفالة حافلات إلى المسجد الأقصى عن أرواح موتاكم في رمضان، ويا من تنافستم بإعداد موائد الإفطار في المسجد الأقصى في رمضان، جزاكم الله خيرًا عن المسجد الأقصى، وأنتم مطالبون أن تتعاهدوا المسجد الأقصى بهذه الهمة العالية والصافية، طامعًا لنفسي ولكم أن نحفظ عهد الوصال الوفي مع المسجد الأقصى في رمضان وقبله وبعده، كيما يخرج الواحد منا من خطيئته كيوم ولدته أمه، وأن يشهد لنا المسجد الأقصى يوم القيامة.
ملاحظة: 1، 2، 3، 4 من كتاب “الأربعين في فضائل المسجد الأقصى” لإسماعيل باتيل.