دين ودنيامحلياتمقالات

فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ

د. عبد الله ادريس- عضو حركة الدعوة والإصلاح

نعيش وإياكم هذه الأيام عبادة غريبة منكورة في ظل عالم الحضارة المادية التي تؤمن بالجسد لا بالرّوح، وبالحياة العاجلة لا بالآجلة، فلا يفهم أرباب المادية عبادة تقيّد الشهوات ثلاثين يومًا، إنّه رمضان الصيام، مدرسة الروح والجسد والنفس لثلاثين يوما، ممتنعين عن شهوات أنفسنا وملازمين لتراويحنا وكتاب ربنا، عسى أن ننال ما قاله الله تعالى (لعلكم تتقون). ومن يسبر أغوار الصيام يرى حقيقة أن الصيام حماية ورفعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الصيام جنة وحصن حصين من النار”.

وكلما مرّ علينا شهر رمضان نرى من حكمه ما يجدّد لنا روح الحياة، وكأنه يخاطب واقعنا وحياتنا ونفوسنا، فكان من الواجب بيان بعض المعاني التي تلامس الواقع. وصدق من قال:

وإن أتى رمضان واصطُفيت له
فاخلعْ ثياب الهوى وقُمْ على قدم
هذا زمانك مقبل ومبتسم
بكل خير تلقه بمبتسم
وصنه عن كل ما يرديه من حرم
ولتعكس النفس عكس الخيل باللجم

المعنى الأول: ارتقاء إلى مصاف الملائكة

حينما نُعمل الفكر في حِكَمِ الصيام نفهم أنه ليس مجرد امتناع عن الشهوات فحسب، بل إن الله جل وعلا يريد للصائم أن يرتقي إلى مصافِّ الملائكة، فترك الشهوات صفة ملائكة الرحمن، فلا يريد الله جل جلاله أن يكون فكرنا وحياتنا للدنيا فحسب، بل لننظر إلى الأعلى فنسْموَ في عالم ملائكة الرحمن الذين خلقهم الله من نور ساطع، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

ولئن تتبعنا لرأينا ملائكة الرحمن مشغولة بالصائمين في رمضان، فقد جاء في حديث أبي هريرة في مسند أحمد أن الملائكة تستغفر للصائمين حتى يفطروا، فقال: “وتستغفر لهم حتى يفطروا”، ولئن تسحّرنا لوجدناهم يستغفرون للمتسحرين، ففي الحديث الصحيح: “إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين”.

ولئن لازمنا كتاب الله تعالى وسعينا في حفظ بعض آياته فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة”.

فليس مكانك الدنيا يا ابن آدم، وليس مكانك أن ترعى في الحضيض، فلا تجعل فكرك وعقلك منطويا على دنيا لا بقاء لها، وانظر إلى عالم السماوات لترتقي إلى درجات ملائكة الرحمن؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحثنا على الاقتداء بالملائكة فقال: “ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها” قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها يا رسول الله؟ فقال: “يتمون الصفوف، ويتراصّون في الصف”. فالمسلم مكانه القمم وليس اللمم.

قد هيّأوك لأمر لو فطنتَ له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَملِ
وأنت في غفلة عما خُلقتَ له
وأنت في ثقة من وثبة الأجلِ
فزكِّ نفسك مما قد يدنّسها
واختر لها ما ترى من خالص العملِ
أأنت في سكرة أم أنت منتبها
أمْ غرَّكَ الأمنُ أمْ أُلهيتَ بالأملِ

المعنى الثاني: الاتقاء من عالم الحيوان

ذكر ربنا جل جلاله في معاني الصيام فقال: (لعلكم تتقون)، وفي آخر آية من آيات الصيام قال جل جلاله: (كذلك يبيّن الله آياته للناس لعلهم يتقون).

ذهب المفكر الإسلامي مصطفى صادق الرافعي، رحمه الله تعالى، إلى أن التقوى ليست فقط كما فسَّرها العلماء، بل إنها مأخوذة من الاتِّقاء، فبالصوم يتقي المرء أن يكون كالحيوان الذي شريعته معدته، فلا يكون إنسانٌ مع إنسان كحمار مع إنسان، فالحمار يبيع الإنسان قوته مقابل قليل من العلف. فالمسلم يمتنع عن الشهوات لأجل جنة عرضها الأرض والسماوات، وليس هو ممن يبيع دينه مقابل شهواته، فكم من إنسان أبى إلا أن يكون كالحمار الذي يعطي قوته مقابل العلف.

– كم من رجل يبيع عائلته وزوجه وأولاده مقابل خليلة وشهوة عابرة.

– كم من رجل يبيع أبناءه مقابل سهرات الشيشة واللهو مع أصحابه.

– كم من امرئ يبيع دينه ومبادئه مقابل الراتب الشهري، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل”.

– كم من امرئ ينافق لأجل قليل من المال.

– كم من امرئ يتآمر على أبناء شعبه ودينه لأجل إرضاء أسياده المتآمرين علينا وعلى أمتنا وشعبنا ويستبيحون دماءنا. والمشكلة أن هؤلاء يُحترمون ويُعظَّمون بيننا، ليصدق فيهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع”.

– كم من عالم يتلاعب بالفتوى لإرضاء اللصوص، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما ازداد عبد من السلطان قُربا إلا ازداد من الله بعدا”. حالهم كحال وزير الخليفة العباس المتوكل الذي رمى عصفورا فلم يصبه، فقال وزيره: أحسنت، فرد الخليفة: أتهزأ بي؟ فقال الوزير: “لقد أحسنت إلى العصفور حينما تركت له فرصة للحياة”.

ليت هؤلاء يفهمون ما فعله مالك بن دينار حينما مر في السوق يوما، فرأى بائع تين، فاشتاقت نفسه إلى التين، ولم يكن يملك ثمنه، فطلب من البائع أن يؤخره (يدفع في وقت آخر)، فرفض البائع ذلك، فعرض مالك على البائع أن يرهن عنده حذاءه مقابل هذا التين، فرفض ثانية. انصرف مالك وأقبل الناس على البائع وأخبروه عن هوية المشتري، فلمّا علم البائع أنه مالك بن دينار أرسل البائع مع غلامه بعربة التين كلها لمالك بن دينار، وقال البائع لغلامه: “إن قبلها منك فأنت حر لوجه الله”، ذهب الغلام إلى مالك ووضع في باله أن يبذل قصارى جهده من أجل إقناع مالك أن يأخذ عربة التين كلها حتى ينال حريته، فإذا بمالك يقول له: “اذهب إلى سيدك وقل له: إنّ مالك بن دينار لا يأكل التين بالدين، وإنّ مالك بن دينار حرم على نفسه أكل التين إلى يوم الدين!. قال الغلام: يا سيدي خذها فإنّ فيها عتقي، فقال مالك: “إن كان فيها عتقك فإنّ فيها رِقِّي (أي عبوديتي).

ما أحكمه من موقف وهو يأبى أن يكون دينه سببا يداهنه الناس فيه وهو يعلم أن هذا التين لم يكن مجرد صدقة من البائع؛ بل كان نفاقا ومداهنة من البائع للإمام، فخشي على نفسه أن يصير شبهَ عبدٍ لذلك الشخص الذي أنعمَ عليهِ. من هنا تفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: “غير الدجال أخوف على أمتي من الدجال؛ الأئمة المضلون”.

المسلم حاله كحال صهيب الرومي الذي لما هاجر إلى المدينة تبعه نفر من المشركين، فنثل كنانته وقال لهم: يا معشر قريش، تعلمون أنّي من أرماكم، ووالله لا تصلون إليّ حتى أرميكم بكل سهم معي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فإنْ كنتم تريدون مالي دللتكم عليه، قالوا: فدلّنا على مالك، ونخلي عنك، فتعاهدوا على ذلك، ولحق برسول الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “ربح البيع أبا يحيى”. فلا مال ولا شهوة أهم من دينه وعقيدته؛ وما كان الصيام إلا ليقيك من أن تكون كالحيوان، فترتقي إلى عالم الإنسان الذي كرمه الله تعالى.

المعنى الثالث: انضباط ونظام

تشير أحكام الصيام الفقهية إلى رسالة تربوية عظيمة من الله جل جلاله. ومن ذلك: من كان في بلد فإنه يوافقهم في وقت صيامهم وإفطارهم وقتا وزمنا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الصوم يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس”.

ومن أفطر بعذر شرعي حرُمَ عليه المجاهرة بالإفطار، وشدد النبي على من يجاهر بذلك. وأيضا، حرَّمَ الإسلام الطعام والشراب إذا أذن المؤذنُ الفجرَ، بل إذا كان في الفمِ لقمة وجب بصقها. ومثله عند الإفطار إذ يحرم تناول شيء قبل غروب الشمس ولو بلحظات. وعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته”.

وللإسلام في هذه التشريعات حكمٌ عديدة، كان من أهمها تربية الأمة أن تكون منضبطة وفق نظام دقيق تعيش فيه بلا فوضى، فنجده في صلاة التراويح يعلمنا النظام، بأن لا نفارق الإمام في الوتر، وإنما ننهي معه كما بدأنا معه، ففي الحديث الشريف: “من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة”. وفي انتظام صفوف الصلاة يقول عليه السلام: “لتسوّنّ صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين قلوبكم”، ونهى بشدة عن مسابقة الإمام في الصلاة فقال: “أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحوّل الله رأسه رأس حمار”.

وفي أشد حالات الخوف في الحروب لم يقبل اللهُ حياة الفوضى؛ بل أمر بتنظيم الصفوف والتخطيط والترتيب فقال تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص).

هكذا يعلمنا رمضان أنّ من التزم بمواعيد الإمساك والإفطار التزاما دقيقا بات قادرا على أن يلتزم بالنظام العام منضبطا في حياته. وإذا كانت رسالة شهر رمضان المحافظة على النظام العام والانضباط في شؤون الحياة، فلماذا حياة الفوضى التي نعيشها؟!!

– لماذا تقطع الإشارة الحمراء، وتتجاوز السرعات القانونية بجنون؟

– لماذا يدخن المرءُ في الأماكن التي يمنع فيها التدخين؟

– لماذا لا تُحترم مواعيد الناس في تسليم البضائع والأثمان في البيع والشراء؟

– لماذا لا يَحترم الحِرفيُّ مواعيد إنهاء الأعمال والأشغال وفق الاتفاقيات؟!

– لماذا لا تُحترم مواعيدُ قبض رواتبِ العمال، بل ويُؤكَلُ بعضها ظلما؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إنه لا قُدّست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع”.

– لماذا توقف السيارات على الأرصفة، أو تُرمى القمامة من السيارة على الطرقات؟

– لماذا لا تُحترم مواعيد صرف الشيكات كما تُقدّسُ مواعيد الإفطار؟!

لم يذمَّ الله تعالى الأعراب في القرآن إلا لعدم انضباطهم تحت قانون ونظام، قال تعالى: (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر، عليهم دائرة السوء، والله سميع عليم). فهؤلاء فئة لا يهمهم سوى مصالح أنفسهم أو عوائلهم الضيقة، ويقدمون مصالح القبيلة على مصالح الدولة والنظام العام، ويغلب عليهم الجهل.

فكم من أعرابي كأمثال هؤلاء يعيش بيننا الآن بمظاهر مدنية لا يهمه إلا نفسه، ولو على حساب النظام العام والقوانين؟!

ونختم بموقف من قائد الفرس “رستم” الذي قاد معركة ضد المسلمين وقُتل في القادسية عام 15ه، حينما رأى المسلمين يصطفون للصلاة بنظام وانضباط نطق غيظا فقال: “أكل عمر كبدي، يعلم الكلاب الآداب”، فلا تجعلوا حياة أمة الأذان والصيام أبعد ما تكون عن الانضباط والنظام.

لكن من يتولانا.. برحمته
لم يترك الحال فوضى سعيها شعب
وإنما الله بالإسلام نظمه
شريعة همها الإصلاح لا السلب
إن العروبة بالإسلام عزته
فإن تولّت فلا عزّ ولا عرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى