معركة الوعي (235) استدراج على طريق الشّام السّريع…. {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ}

حامد اغبارية
من كان يتخيّل أو يخطر له أنّ أحداث السابع من تشرين الأول 2023 يمكن أن تحدث، وبهذه السرعة، وبالطريقة التي حدثت بها؟ وقد وقعت بسرعة أقرب إلى الخيال العلمي، أو على طريقة الملاحم الإغريقيّة والأساطير اليونانية، وبطريقة تشبه المستحيل، لتسجّل واقعة من أكثر الوقائع التي زلزلت كيانات، وخلطت أوراقًا، وعطّلت خُططًا، وفرضت إعادة حسابات، وأوقفت حبائل ودسائس ومؤامرات، وغيّرت مسارات سياسية، وحوّلت بوصلة التاريخ إلى وُجهة غير التي حدّدها مَن ظنّوا أنهم قد وصلوا إلى ذروة الهيمنة على كلّ شيء، وقلبت موازين، وغيّرت مفاهيم ونظريّات في المدارس العسكريّة على اختلاف أنواعها.
ثم يسأل سائل: كيف يمكن تفسير هذا؟
الجواب لن يكون على طريقة المحللين العسكريين ولا السياسيين الذي يملؤون الشاشات. فهؤلاء يتعاطوْن مع المسألة بأدوات التحليل السياسي أو العسكري المتعارف عليها، وهي في الغالب أدوات من إنتاج الصناعات الغربية المقيَّدة بالفهم الماديّ البحت، وهي تحليلات تدور داخل دائرة الحدث الضيّقة، لا تكاد تتجاوزها.
ومن كان يتخيّل سقوط نظام طواغيت آل الأسد بهذه السرعة الخياليّة، وهو النظام الذي ربض على صدر الشعب السوري أكثر من خمسين سنة، وكان مجرد ذكر اسمه يُدخل الرعب في القلوب، ويذكّر بأجهزة المخابرات الدموية وأقسام الموت السفليّة وسجون السراديب الأرضيّة؟
من كان يخطر في باله أنّ د. جيكل ومستر هايد (يعني بشار الأسد)، يهرب كالفأر بعد 14 سنة من سفكه دماء السوريين، وهتك أعراض حرائر سوريا، وارتكابه كلّ أنواع المجازر وأفظعها وأبشعها وأحطّها وأسفلها وأكثرها وحشيّة، حتى أنك كنت تجد من يقول: لن يقدر عليه أحد!! نعم… كان هذا الشيطان يحسب ألا يقدر عليه أحد… فدارت عليه وعلى عصابته الدوائر على هيئة وصورة وسرعة لا يستوعبها عقل.
ثمّ يسأل سائل: كيف يمكن تفسير هذا؟
من كان يخطر في باله أنّ إيران وأذنابها في المنطقة سيخرجون صاغرين من سوريا فلا يبقى لهم ذِكر ولا أثر، بكلّ هذه السرعة التي بدت للمتفكّر أنها أكبر من سرعة الضوء؟ كلمح بالبصر؟!!
لقد اجتمع شرارُ الأرض ورؤوس الخراب كلّهم على سوريا الحرّة المحرّرة، سوريا التاريخ والمستقبل، ليهدموا بنيانها ويخربوا عمرانها ويمزقوا نسيجها ويحرقوا أخضرَها ويابسها. اجتمعت واشنطن؛ رأس الأفعى، وطهران؛ رأس الفتنة، وتل أبيب مصدر الفساد ومحراك الشّر، ومن خلفهنَّ قوى دولية وأخرى إقليميّة تولّى كبرها وكيلُ الشيطان؛ أبو ظبي…!
فلِمَ كل هذا؟ وماذا يريدون من سوريا؟ ما الذي يزعجهم من التغيرات التي شهدتها خيرةُ الله من بلاده؛ أرضُ الشّام؟ وما الذي يخيفهم؟ لماذا هم مرعوبون؟ لماذا تقضّ الشام مضاجعهم، ويأكلهم القلق وتنتشر الحمّى تحت جلودهم؟ ما السرّ يا شام؟!
لقد حاولت هذه القوى، التي تحيا على الدماء كالعلق، وعلى العيش في مستنقعات الأزمات والحروب والفساد والإفساد، أن تستبق حدثًا آخر يعيش الآن في رحم المستقبل، ويبدو أنه بدأ “يُرافس” ويقرعُ جدران بطن الدنيا ليخرج إليها ويحررها مما علق بها من أوساخ وقاذورات راكمها أولئك طوال عقود. استبقوا الحدث، فمدت تل أبيب- المُثخنة بزلزال غزة- مخالبها إلى الأرض السورية لتقتطع من ذلك الجسد جزءا تظن أنه الحصن الذي سيمنعها من الله، ومن قدرٍ كان في الكتاب مسطورا. وقد سبقتها رأس الأفعى من خلال الدعم العسكري والمالي والسياسي والإعلامي لما يُعرف باسم (قسد/ قوات سوريا الديمقراطية) بحجة حماية الأكراد… ومساعدتهم في مواجهة “إرهاب داعش”!! بينما الحقيقة أن الهدف ليس حماية أحد، وإنما استخدام هذا الـ “أحد” لتحقيق أهداف تنضح خُبثا وتقطر سفالة.
مدت تل أبيب عينيها إلى الأرض السوريّة بأكذب حجة وأكثرها مثارا للسخرية، وهي ذريعة حماية دروز سوريا.
تخيّل!!
تل أبيب تريد أن تحمي دروز سوريا من إخوانهم السوريين، وهي التي تضطهد إخوانهم من دروز هذا الوطن وتهضم حقوقهم وتنهب أرضهم، رغم ما يُعرف بحلف الدم بينها وبينهم. فهل تجد في التاريخ مشهدا أشد سخفا من هذا المشهد؟
إنها ذريعة بائسة، لأن المسألة ليست كذلك، والحقيقة مختلفة تماما. إنها أطماع التوسع التلمودي الذي يسعى إليه المشروع الصهيوني في منطقة الهلال الخصيب ومصر وجزيرة العرب لتحقيق هدفين رئيسيين، ظنّا من أصحاب المشروع أن تحقيق أحدهما سيقود تلقائيا إلى تحقيق الهدف الثاني. أما الأول فهو التوسع واحتلال المزيد من أرض المسلمين لتجهيز أرض المملكة الكبرى التي منها سيحكم مسيخُهم الأرض بقاراتها الخمس، بعد بناء الهيكل الثالث المزعوم. وهكذا يمكنهم منع أو تأخير الحدث الذي تُخبئه الأيام، وهو حدثٌ يعلمون، وليس لديهم أدنى شك، أنه واقع في الشمال على الأرض السورية التي فاجأتهم أحداثها الأخيرة وسبّبت لهم صدمة ارتدادية لصدمة الجنوب الكبرى.
لقد سعى هؤلاء، ويسعون، إلى تفكيك سوريا إلى أجزاء متناثرة وأطراف متناحرة وأقطاب متنافرة وقوات متقارعة وفئات متصارعة حتى يتسنى لهم- في ظنّهم- الهيمنة وتحديد وُجهة الأحداث وحسمها لصالحهم، ومنع وقوع ما أيقن بوقوعه حتمًا آباؤهم وأجدادُهم. لكنهم مع علمهم ومعرفتهم وإدراكهم، وبدلا من أن يلحقوا بركب الحق حاربوه وسعوا إلى محاربته بباطلهم.. {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به…}..
ومن مضحكات القدر أن هؤلاء ومعهم مَن يمدُّهم بكل هذه الجرأة والوقاحة ومدّ مخالبهم إلى ما ليس لهم، فرحون بأفعالهم، يفاخرون بها على الشاشات، ويملأون الفضاء ببُصاق أكاذيبهم وتفتفات دجلهم، وقد صوَّروا عدوانهم المتواصل إنجازات وبطولات سيسطّرها التاريخ، دون أن يفكروا للحظة أنه استدراج لهم من الله.
حاولوا طوال سنوات من خلال فتنة الأكراد في شمال سوريا، وفشلوا، بل أفشلتهم سوريا الجديدة، وحاولوا من خلال فتنة الدروز في جنوب سوريا، فخيّب الله ظنّهم وأفشل مخططهم في بضعة أيام، لكن محاولاتهم لن تتوقف ولن تنتهي، كما أنّ الاستدراج مستمر، ولن يتوقف الزحف حتى يصل أطراف دمشق، التي يبدو أنها تستعد للزلازل والبلابل والأمور العظام، هناك حيث القول الفصل الذي هو ليس بالهزل.
إرهاصات..
إنها إرهاصات ومقدمات ومبشرات لما هو آت.
بدأت من غزة… حيث تبدد الحلم الصهيوني…
وكانت غزة وما وقع فيها وما أحدثته في الوعي العالمي قد نقلت الرأي العام الغربي من مربع الاستسلام التام للرواية الصهيونية والتي بُنيت على الكذب ونُسجت على التضليل طوال عقود، إلى مناصرة الشعب الفلسطيني وقضيته في مشاهد شعبية لم يسبق لها مثيل.
ثم فجأة حدث ما حدث في سوريا، على الصورة التي رأينا وبالسرعة التي رأينا، وكأن الأحداث تركب قطار الشرق السريع تريد الوصول إلى المحطة الأخيرة قبل المغيب..
ثم انظر إلى ما يجري في أمريكا، رأس الأفعى. إنها تتفكك داخليا وتتآكل خارجيا، وينخر في اقتصادها سوس الرأسمالية وعنجهية الدولار، تحت رئيس جديد ينتهج سياسةً يبدو بوضوح أنها بدأت تدمّر الحلف الأمني التاريخي مع أوروبا العجوز، وكأن القدر يخبئ لنا أمرًا ذا شأن لا يُقاس بمقاييس أهل الدنيا، أمرًا سيلعب دورا كبيرا في الأحداث الجارية في شرقنا وفي شامنا.
ثم انظر كيف أن الاحتلال الإسرائيلي بدأ يغوص رويدا رويدا في متاهات سوريا الشام، وقد نفخ عضلاته ونفش ريشه الطاووسيّ مزهوًّا متفاخرًا ومنتفشًا، دون أن يشعر بحرارة الاستدراج تحت قدميه…
كيف يمكن تفسير هذا كله؟ وما تفسير هذا كله؟ وبأي مفهوم نتعاطى معه؟ وبأي عقل ندرك أبعاده؟ وبأي قلب نستوعبه، إن لم يكن هو هو الذي نعرفه.