معركة الوعي (234) نحو الفصل الأخير من الصّراع؟!

حامد اغبارية
ما مِن صراع في التاريخ بين معسكرين أو قوّتين أو طرفين إلا وكانت له نهاية، أيًّا كان نوع هذا الصراع ومهما طالت مدّتُه. والصراع على فلسطين بين المشروع الصهيوني – الصليبي وبين الأمة الإسلاميّة ليس استثناء، وليس شاذًّا عن هذه القاعدة.
وهذه القاعدة سُنّة إلهيّة لا تتغيّر ولا تتبدّل منذ خلق الله الدّنيا، وهي ماضية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وهي سُنّة يُحسم فيها الأمر في نهاية المطاف لصالح الحق وأهله، ويُقصم فيها الباطلُ وأهلُه، وبين هذا وذاك الكثير الكثير من الابتلاءات والفتن والشدائد وحالات الضعف والتّراجع التي يلقاها أهل الحق في طريقهم إلى دحر الباطل ورفع الغمة.
هو صراع بين المشروع الصهيوني- الصليبي وبين الأمة الإسلامية، وليس صراعا محصورا بين الصهيونية وبين الشعب الفلسطيني، كما نجح إعلام الباطل والسياسة القذرة في تقزيمه ووضعه في أضيق الدوائر.
وكون الأمة الإسلامية اليوم في حالة من الترهل والتفك والضعف والهزيمة النفسيّة وتبعيّة أنظمتها الحاكمة للغرب وغياب عنوان واحد تلتف الأمة حوله وقيادة واحدة تقودها لا يلغي هذه الحقيقة.
وإن كانت الأمة اليوم في الحالة التي نراها فإنّ هذا لن يدوم إلى الأبد، كما أن الصراع لن يدوم إلى الأبد. ولسوف تأتي على الأمة لحظة فارقة تجمع فيها شتاتها وتلم شعثها وتحزم أمرها؛ سواء شاءت ذلك أم أبت.
إذ ليست هي صاحبة القرار في هذا، بل هو قدر من الله تعالى، يهيئ فيه الله ظروفا، قد تكون أشدّ قسوة مما نتخيّل، حتى يظن اليائس أنه لا خلاص، وأن هذه الأمة قد طُويت صفحتها، وإذا بها تنهض كالمارد الذي يحطم الأغلال التي قُيّد بها قرنًا من الزمان وأكثر، لتسير بخطى حثيثة نحو خلاصها من الذل اللاحق بها ومن تبعاته وتداعياته وآثاره التي نعيشها اليوم.
إننا نعيش اليوم واحدة من أسوأ حُقب تاريخ الأمة، فيها يضحك أهل الباطل ملء شدقيهم، ويفركون أيديهم جذلا بما “حققوه” من إنجازات، وقد استقر في وعيهم أنّهم يسيرون نحو مجدهم الزائف، الذي هو في حقيقته سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد لله عنده، ينتظره قدرُه المحتوم. وعندها لات حين مندم.
نعيش اليوم مشهدًا من مشاهد العلوّ الذي كُتب على مزوّري التاريخ والرواية والجغرافيا. علوّ كُتب عليهم ولم يكتب لهم، لأنّه العلوّ الّذي سيجدون في قمّه هاوية السقوط المريع الذي لا نهوض بعده.
وانظر كيف أن هذا العلوّ قد بلغ حدّا أصبح فيه أصحابُه يضربون يمينا وشمالا، ويفعلون ما يحلو لهم، ومن خلفهم مددٌ أمريكي -أوروبي غير مسبوق، لم تعرف مثله سنوات الصراع، بينما الأمة لا تحرك ساكنا، وكأن الأمر لا يعنيها، وكأنها تعيش في كوكب آخر غير كوكب الأرض؛ أمة بلغ منها الذل والمهانة والضعف والاستخذاء مبلغه، حتى إذا قال قائل وهو ينظر إلى حالنا: لقد بلغ الأمر مداه، وحان الوقت لتتحرك الأمة وتسترد كرامتها، صُدِمَ بحجم الخذلان.
فأصحاب العلوّ عاثوا تخريبا وتدميرا في غزة. فقال القائل: الآن ستتحرك الأمة وتنهض. لكنّها لم تتحرك ولم تنهض. ووجّه أصحاب العلو سهام علوّهم إلى لبنان، فقال القائل: لا بد أنّ هذه هي التي ستوقظ الأمة من سباتها، لكن الأمة علا غطيطُها أكثر فأكثر.
وعاث أصحاب العلوّ فسادا في الضفة الغربيّة، فقال القائل: هنا القول الفصل. فالأمة لا يمكن أن تسكت. لكن الأمة بلعت لسانها، حتى عجزت حتى عن إصدار بيان شجب واستنكار.
ولما رأى أصحاب العلوّ أنّ “الدنيا بخير” وأن الزمان زمانهم والساحة ساحتهم والميدان ميدانهم، تجرأوا أكثر ومدّوا أيديهم إلى ملجأ الأمة في زمن الفتن، إلى سوريا الشام. فاقتطعوا من جسدها ما يحلو لهم، وقد توحّشت شهيتهم وازدادوا شراهة فوق شراهتهم المعهودة، وفي مخيلتهم أن مشروع المملكة الكبرى بات قاب قوسين أو أدنى.
وكيف لا يتخيلون والحال هكذا؟ كيف لا تمد الثعالب عيونها إلى عرين الأسود، إلى بيضة الإسلام، إلى أرض الإيمان في عصر الفتن؟ كيف لا تمتد المخالب القذرة إلى صفوة الله تعالى من بلاده؟ كيف لا يصل الحد بحاكم أحمق مثل ترامب أن يخطط لإخلاء جزء من أرض الشام من أهلها ليقيم فيها منتجعات سياحية يمارس فيها دعارته بكلّ أنواعها؟ كيف لا تصل الأمور بهذا السفيه حدا يقول فيه إن بلدا مثل مصر أو مثل الأردن لا يسعه إلا أن يؤمر فيطيع، ويشار إليه بطرف العين فيؤدّي فروض الطاعة خافض الرأس ذليلا؟ إنه مشهد من مشاهد العلوّ..
ولكن…
هو علوٌّ له تاريخ صلاحية وتاريخ انتهاء. ويقيني أن تاريخ الانتهاء قد بات على مرمى الحجر. فقد أحدثت واقعة السابع من تشرين أول 2023 زلزالا مدوّيًا، ليس فقط على مستوى الصراع الثّنائي، ولا على مستوى المنطقة وحسب، وإنما على مستوى العالم أجمع.
زلزالا تغيّرت فيه مفاهيم، وتحولت فيه مواقف، واختلطت فيه أوراق، وتغيّرت به موازين قوى، وتعطّلت خطط، وأصابت كثيرين بالصدمة، وآخرون فقدوا عقولهم، وأهم ما أحدثه ذلك الزلزال، الذي ما تزال ارتداداته تتفاعل، أنه وجَّه رسالة إلى الدنيا كلها: إنَّ ما كان مستحيلا أصبح ممكنا، وإن الأمة التي عملوا طوال عقود على تدجينها وإبقائها في حالة سبات عميق يمكنها أن تنهض وتعيد كتابة التاريخ من جديد، بل وتصنع التاريخ بشكل مختلف.
إن أصحاب العلوّ يتنعّمون في هذه اللحظات بالأموال والأولاد والنفير الكثير، ولذلك تراهم منتفشين مزهوّين، قد انتفخت صدورهم وامتلأت غرورا وعجرفة وتطاولا، وامتدت أيديهم بالظلم إلى كل الجهات وعلى كل الجبهات، وهم لا يدرون أنهم إنما مدّوا أيديهم إلى عش الدبابير.
ولأنها الشام، ملجأ المؤمنين يوم تطلّ الفتن برأسها، فإنه سيكون لها شأن وأي شأن!
سوريا اليوم، ومصر ما بعد السيسي، وتركيا أمس واليوم وغدًا؛ هذه أسماء ستكون في مركز الحدث الذي أظنّه سيغيّر مجرى الأحداث والتاريخ.
سوريا؟!!!
نعم، سوريا!! فسوريا اليوم هي مركز الحدث غدًا، سواء بمن يقودونها اليوم أم بغيرهم.. وستصل الأمور إلى أطراف دمشق، وعندها لا يغرّنك السكوت على الأذى.
مصر؟!!
نعم، مصر!!
فحتى القوم بدأت ترتعد فرائصهم، وقد كثُر حديثهم في الأيام الأخيرة عن مخاوفهم مما يمكن أن يحدث في مصر، وسيحدث.
تركيا؟!!
نعم، تركيا!!
فشأنها عظيم ودورها كبير… فانتظر..
قد يطول الزمان أو يقصر، فهذا كلّه في عالم الغيب، لكن اليقين الذي لا يتزعزع، أن هذا سيكون، اليوم أو غدًا أو بعد غد. فالمنطقة تغلي كالمرجل، وما تحت الرماد لا يعلم به إلا الله، ولكننا -فيما يبدو لي- نسير نحو الفصل الأخير من الصراع. فالمشاهد الحالية لن تتوقف، ذلك أن أطماع المشروع الصهيوني- الصليبي لن تتوقف، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.