زعماء سفهاء وغمضان كغيم

الشيخ كمال خطيب
ساعات قليلة وسيهلّ علينا هلال شهر رمضان المبارك، وسنقول عندما نراه كما كان يقول النبي ﷺ: “اللهم أهلّه علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام هلال رشد وخير ربي وربك الله”.
فما أن تغيب شمس اليوم الجمعة وهو خير الأيام كما قال ﷺ: “خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة”، إلا ويهلّ علينا هلال رمضان وهو سيّد الشهور كما قال النبي ﷺ: “أتاكم رمضان سيد الشهور، فمرحبًا وأهلًا”، وهو القائل كذلك: “قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك كتب الله عليكم صيامه، تُفتح فيه أبواب الجنان وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغلّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم”.
إنه شهر رمضان الذي كان رسول الله ﷺ يحبه ويزداد له حبًا واشتياقًا كلما اقترب، فكان يقول: “اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلّغنا رمضان”.
ومثل رسول الله ﷺ في حبه لرمضان، فإنهم أحباب رسول الله ﷺ قد توارثوا هذا الحب. فقد كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلّغهم رمضان، ثم إذا انقضى فإنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يتقبّل منهم طاعاتهم وقرباتهم فيه.
وقال يحيى بن كثير رحمه الله: “إن الصالحين من أمة محمد ﷺ كانوا يقولون في دعائهم: “اللهم سلّمني إلى رمضان وسلّم رمضان لي وتسلّمه مني متقبلًا”.
أتى رمضان مزرعة العباد لتطهير القلوب من الفساد
فأدّ حقوقه قولًا وفعلًا وزادك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها تأوّه نادمًا يوم الحصاد
رمضان المجد
ها هو ذا رمضان أقبل وكأنه لم يكن بين رمضان السابق واللاحق إلا عشيّة أو ضحاها. إنه قطار الزمن يجري بسرعة غريبة، وإنه بسرعته هذه للذي يجعلنا نفهم ما يحسّ ويشعر به الخلق يوم القيامة يوم يرون الزمان قد اختزل وانكمش {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ*قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ *قَال إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} 112-114 سورة المؤمنون.
وليس أن الزمان قد انكمش، وإنما الذي انكمش وتقلّص هو فهم كثيرين من المسلمين لمعاني رمضان ورسالته وقيمته الروحية والمعنوية في حياة المسلمين، حتى أن الشاعر وصف ذلك بقوله:
لا الصوم صوم ولا الإيمان إيمان أتت على الصوم والإيمان أزمان
المسلمون ولا تغررك جمهرة ما للحجارة لولا الجمع بنيان
ضلّوا السبيل فلا الأخلاق مشرقة ولا الديانة إسلام وإيمان
إنه شهر رمضان الذي كانت رؤية هلاله وبداية صومه كما قال ﷺ: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمّ عليكم فصوموا ثلاثين يومًا”، فكانت رؤية الهلال وبداية الصيام إعلان وحدة الأمة كلها في مشارق الأرض ومغاربها عربها وعجمها، وكأن هذه الوحدة تبعث رسالة إلى الدنيا كلها وإلى أعداء الإسلام خاصة، أن أمة ربها واحد، ورسولها واحد، وكتابها واحد، وقبلتها واحدة، ورمضانها، واحد وهلالها واحد، هذه أمة لا تُغلب ولا تُقهر بإذن الله تعالى.
إنه شهر رمضان الذي كان يظنّ الأعداء أن الأجساد فيه تتعب وتنهك وبالتالي فإنها الفرصة للانقضاض والظفر، ولكنهم الأعداء الذين وجدوا عكس ذلك، فقد كان صيام رمضان يفضي في تلك الأجساد من العزيمة والإصرار والبطولة ما جعل أعظم معارك الإسلام وانتصاراته تقع في رمضان، ففي رمضان وقعت معركة بدر وفتح مكة ومعركة القادسية وعين جالوت وفتح الأندلس ومعركة حطين وفتح قبرص وفتح عمورية ومعركة الزلاقة وغيرها، وقد قال في ذلك الشاعر:
ها قد أتى شهر الصيام الأكرم بدر يطل بوجهه المتوسم
كم جئت يا شهر الهداية سابقًا والنصر يحمل عزة للمسلم
كم جئت يا شهر السماحة حاملًا بشرى تنير الدرب للمتلعثم
فالفتح يشهد للرسول محمد ولصحبه ذاك الشموخ الأعظم
وبعين جالوت تجمّع شملهم بالقرب من بيسان أرض الأنجم
والآن جئت وقد تشتت شملهم حتى تبدّل نهجهم بمجرم
زعماء وسفهاء
إن انحراف بوصلة كثيرين من المسلمين عن الفهم الحقيقي لرسالة رمضان، جعلتهم يتعاملون مع رمضان أنه شهر اتخام البطن والمعدة، والافتخار والتباهي بتشكيلة الولائم الرمضانية، بل ونشرها عبر وسائل التواصل.
وإذا كانت هذه من سلوك السفاهة والسفهاء، فإن آخرين وهم عصاة المسلمين تظهر سفاهتهم باستباق شهر رمضان بالإكثار من الأكل والشرب تحت لافتة “أيام توديع الأكل” بل إن البعض يتجاوز ذلك إلى حد ارتكاب المعاصي والمحرمات كالإكثار من شرب الخمور قبيل رمضان لأنها لن تتاح لهم بعد ذلك، وقد سُمع أحدهم وهو ينشد ويقول:
إذا العشرون من شعبان ولّت فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار فإن الوقت ضاق على الصغار
وقال آخر:
دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ولا صمت شهرًا بعده آخر الدهر
مثل هؤلاء فإنه طه حسين الذي نُقل عنه قوله:
لو أن لي بالناس حكمًا نافذًا ألزمت بالإفطار كل الناس
وإنه ليس سلوك السفهاء من الفهم الأعوج لرسالة رمضان، بل إنه سلوك الزعماء من الملوك والرؤساء والأمراء، من الذين يخصصون الميزانيات الكبيرة ويضخّون الأموال للمؤسسات الإعلامية بها يتم إنتاج عشرات الأفلام والمسلسلات ليتم عرضها في ليالي شهر رمضان، وجلّها إن لم تكن كلها تحمل رسائل سلبية وتعزز انحرافات اجتماعية وتتناقض مع قيم الإسلام ومفاهيمه وإن كانت تحمل اسم “مسلسلات رمضانية”.
وليس أن أداءهم الخائب في هذا الجانب فقط، بل إنهم وهم الذين رضعوا حليب التبعية لأعداء الإسلام شرقهم وغربهم، وإذا بهم يمثّلون رأس الحربة في العداء للإسلام وفق الأجندات التي يضعها أعداء الأمة والمتربصون بها.
وليس أدلّ على خيبتهم مما هم عليه دائمًا وأبدًا في مواقفهم من قضايا الأمة، ولكنه ظهر جليًا واضحًا في مواقفهم من حصار غزة طوال 18 عامًا من 2007-2025، وظهر أكثر خلال الحرب الدموية التي شنّتها إسرائيل على غزة طوال خمسة عشر شهرًا، وقد عاش أهلها رمضان 2024 تحت القصف والدمار والجوع، وها هم يستعدون لقضاء رمضان 2025 تحت الحصار والجوع والخوف والبرد والمرض.
فليس أنهم لم يقوموا بمحاولات لكسر الحصار عن غزة، وإنما هم الذين قاموا بمشاريع عملاقة لكسر الحصار عن إسرائيل من جهة البحر الأحمر وقد أقاموا جسرًا بريًا أصبح شريان حياة لإسرائيل، يبدأ من الإمارات، مرورًا بالسعودية والأردن، وصولًا إلى إسرائيل. وها نحن نستمع إلى مواقفهم الخجولة، بل المشبوهة من مشروع تشريد وتهجير أهل غزة الذي دعا إليه الرئيس ترامب وصل إلى حدّ عدم قدرتهم على تنظيم مؤتمر قمة عربي حيث تأجل موعد انعقاده أكثر من مرة بضغط من ترامب وإدارته، لأن في التأجيل محاولة لتليين مواقف بعض المتحفظين على خطة ترامب، ليصدق في هؤلاء ومواقفهم من القدس ومسجدها الأقصى، ومن غزة وتهجير وقتل أهلها قول الشاعر:
فضّوا بكارتها داسوا كرامتها وهام في مقلتيها البؤس والعدم
جزّوا ضفائرها هدّوا منابرها وفي آذاننا عنها بها صمم
نادت وامعتصماه أدرك عقيلتكم قال الأشاوس نامي مات معتصم
لكن هناك البديل الفذّ في يدنا حتى يسود الحق والعدل والسلم
وإن تمادى العدى فالحل مؤتمر ضخم لنشجب ما عاثوا وما أثموا
أليس هي المهزلة بعينها أن يُعقد المؤتمر للقمة العربية في القاهرة يوم 4 آذار 2025 وهي التي حاصرت غزة وأغلقت المعابر ومنعت إيصال الإغاثات لأهلها وتركت غزة تدمّر لخمسة عشر شهرًا؟!
غمضان كغيم
إنها العبارة التي سمعناها وسنسمعها كثيرًا في هذه الأيام من الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ، ومن رئيس وزرائه نتنياهو، ومن الناطق باسم الجيش أفيخاي أدرعي وهم يبعثون رسائل وبرقيات وتسجيلات صوتية فيها يهنئون القادة والزعماء العرب والمسلمين بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك قائلين لهم: “غمضان كغيم”، المقصود رمضان كريم.
كيف لمن أصدر الأوامر لقتل أكثر من 50 ألف من الشيوخ والرجال والنساء والأطفال من أهلنا هناك، ولمن أعطى الضوء الأخضر لشركائه في الائتلاف الحكومي من أحزاب اليمين باقتحام وتدنيس وانتهاك حرمة المسجد الأقصى المبارك، فكيف له أن يكون وقحًا إلى الحدّ الذي يجعله يظهر بمظهر الحمل الوديع والإنسان اللطيف الذي لا تفوته فرصه التهنئة بحلول شهر رمضان المبارك بالقول “غمضان كغيم”؟ وكيف لمن وقّع بخط يده على قذيفة مدفعية قبيل إطلاقها لقتل النساء والأطفال في غزة، وأقصد هنا الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ، فكيف له أن يهنئ بحلول رمضان عربًا ومسلمين، وهو الذي تباهى بالتوقيع على قذيفة يعلم أنها قتلت إخوة لهم؟ لكنه يعلم أن هؤلاء أموات وأنهم يصدق فيهم قول الشاعر أبو الطيب المتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
ويصدق فيهم كذلك قول الشاعر عمرو بن معد يكرب الزبيدي:
لقد أسمعت لو ناديت حيًا ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نار نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد
فلسنا بحاجة لمن يهنئوننا بحلول رمضان وهم يقتلوننا أمثال نتنياهو وترامب وهرتسوغ وأدرعي، وإنما نحن الذين نهنئ أنفسنا بشهر رمضان بشهر الخير والغفران، شهر الإحسان والقرآن، شهر الأمجاد والمكرمات، إننا نهنئ أنفسنا ونبشّر أمتنا أن رمضان قريب، وأن قادم الأيام حبلى ببشريات الخير.
فاللهم أهلّه علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام والفرج والتمكين والفتح المبين وعزّ الإسلام والمسلمين يا رب العالمين.
نحن إذا الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.