أخبار وتقاريرمقالاتومضات

المطلوب عالميا بعد وقف إطلاق النار بغزة

الشيخ رائد صلاح

إنَّ من المؤكد أنَّ البيت الأبيض أقرّ في داخله أن وقف إطلاق النار بغزة كان هزيمة منكرة له، فهو الذي فتح الباب على مصراعيه لمواصلة دعم المؤسسة الإسرائيلية، عسكريا وماليًا وإعلاميًا، وسياسيا ودبلوماسيا، خلال تلك الحرب المستعرة على غزة، وکم كان (بايدن) يطمع وهو يأكل البوظة الأمريكية ذات الحجم الكبير قرب موقدة النار التي لا تنطفئ في البيت الأبيض، كم كان يطمع أن يأتيه خبر السيطرة على غزة في كل لحظة!! وخبر رحيل أهلها بالكامل عنها!! وخبر استسلام غزة، ورفعها الراية البيضاء!! وكم كان يطمع، بناءً على ذلك، فرض البديل الأمريكي في اليوم التالي على غزة!!

ولكن كل ذلك لم يحدث، وذابت البوظة الأمريكية ذات الحجم الكبير، وسالت بين أصابع بايدن، ثمَّ سالت على كف يده وهو ينتظر من أن يأتيه في كل لحظة بأقل خبر ولو كان هامشيًا عن غزة يمكن أن يتكئ عليه، كي يقول في مؤتمر صحفي في البيت الأبيض وهو يضع قدمه اليسرى على قدمه اليمنى: لقد انتصرت الإرادة الأمريكية بغزة، ولكن كل ذلك لم يحدث!! ثم بدأ بايدن يجمع أمتعته بما في ذلك ملابسه وجواربه وأحذيته استعدادا لإخلاء البيت الأبيض لترامب، وظلّ بايدن في حسرته، بل ظلت الحسرة تزداد في داخله حتى لفظه البيت الأبيض كما لفظ غيره من طواغيت أمريكا من قبل، وها هو بايدن يستعد لاختيار ملجأ العجزة الذي سيبقى فيه، انتظارًا لسُنّة الموت الربانية التي ستنزل عليه، وسبحان من قهر عباده بالموت!!

لكل ذلك، فقد أصبح البيت الأبيض بعد وقف إطلاق النار بغزة يلوك حسراته، ويجتر خيباته، ويزفر غضبًا عاصفًا، ويزمجر بدافع الثأر لهيبته التي سوّتها غزة بالتراب، ويتوعد مهددًا غزة بخاصة، وكل أهل الأرض بعامة الذين هبت بعض ضمائرهم من غفلتها ودفعتهم لإسناد غزة وهي تغرق في كربها، ولو بمظاهرة أو اعتصام أو مؤتمر صحفي أو تحرك إغاثي أو تنشيط لهيئة الأمم المتحدة وما انبثق عنها من هيئات، أو توجه لمحكمة الجنايات الدولية، مطالبين بمقاضاة المؤسسة الإسرائيلية، متهمين إياها بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية!! وكأني بالبيت الأبيض قد وجد ضالته في ترامب، وأنه أنسب كاوبوي أمريكي سيعلن عن بدء يوم الحساب الأمريكي لغزة بخاصة، ولأهل الأرض بعامة على صعيد الحكام والشعوب والهيئات ذات الأدوار المختلفة!!

وكأني بترامب قد بدأ يؤدي دور الدجال الصغير المنذر باقتراب ظهور الدجال الكبير المشهور باسم المسيخ الدجال!! فها هو الدّجال الصغير ترامب، يتوعد بترحيل بعض أهل غزة إلى مصر! والبعض الآخر إلى الأردن! وها هو يرقص برأسه الصبياني أمام مئات الكاميرات الإعلامية ويتلو عليهم بدايات بطولاته الدون كيشوتية، حيث سيعرض بالقوة على من يشاء من حكام العرب أن يستقبلوا شتاتًا جديدًا لشعبنا الفلسطيني بعد أن يطردهم من غزة بكلمة يخرجها من حنكه الأعوج الواسع. وها هو يصرح أمام هذه الأعداد الهائلة من الكاميرات وهو ينظر إلى الأعلى، وكأن الناس لا يستحقون أن ينظر إليهم، ها هو يصرّح أنه سيجعل من غزة بعد ذلك جنة على الأرض!! وما أشبه أقواله هذه الصبيانية بأقوال المسيخ الدجال الذي يبدو أنه بدأ يستعد للظهور، لأنه سيظهر لغضبة يغضبها!!

وإلى جانب ذلك، ها هو ترامب قد وقّع على مجموعة (فرمانات أمريكية) أمام الكاميرات، يعلن فيها أن أمريكا ستقاطع مجموعة هيئات دولية، وفي مقدمة ذلك، فك الارتباط الأمريكي مع الأونروا!! ثمَّ ها هو ترامب يعلن عن فرض عقوبات على العاملين في محكمة الجنايات الدولية وعلى أقاربهم من الدرجة الأولى!! وها هو يهز عصا غطرسته في وجه كندا والمكسيك وبنما!! وها هو يريد أن يمد يده من البيت الأبيض ليلوي بها أذن الصين وروسيا وإلا!!

وكل هذه الأقوال والمواقف التي صدرت عن ترامب هي إرهاصات تبين لكل حر عاقل وحرة عاقلة في الأرض أن ترامب يريد أن يعود بالبشرية إلى مرحلة الرق والإقطاع، ولن ينجو من ذلك حتى أوروبا الشرقية والغربية!! وكأني به يريد أن يكشف لهذه البشرية التائهة التي أنهكها الجور الأمريكي والظلم الأمريكي، أن حقيقة الحلم الأمريكي الذي كثيرا ما تحدث عنه الرؤساء الأمريكيون، وأفلام هوليود الأمريكية، وذباب الإعلام الأمريكي، ومنظرو العنصرية الأمريكية، ورجال الدين البروتستانت الصهيونيون المألهون في البيت الأبيض، وكأني بترامب يريد أن يكشف على المكشوف لهذه البشرية المعذبة أن حقيقة الحلم الأمريكي هي ركوع البشرية العبيد أمام السيد الأمريكي الذي بات له الحق أن يفعل ما يشاء!! وأن يحيي من يشاء وأن يميت من يشاء وأن يطعم من يشاء وأن يجيع من يشاء!! وأن يفرض العقوبات على من يشاء، وأن يعفو عمن يشاء!! وأن يعز من يشاء وأن يذل من يشاء!! وأن يرفع من يشاء وأن يخفض من يشاء!! وهكذا تقمص ترامب مقولة فرعون: (أنا ربكم الأعلى).

وهكذا بدأ ترامب يصرح ويتصرف كأنه إلٰه من دون الله جل جلاله!! وهكذا أسكرت نشوة الغرور الأمريكي نفس ترامب الأمّارة بالسوء، وكأني به يقول كما قالت الأفاكة عاد من قبل (من أشد منا قوة)!!

وهكذا اجتمعت فيه كل عيوب طواغيت الأرض السابقين بداية بقابيل، ومرورا بذي نواس وأبرهة الحبشي وأبي جهل وأبي لهب والنمرود وهولاكو وأرناط وهتلر وموسليني، وسائر أترابهم الذين باتوا ترابًا تدوسهم البشرية بأقدامها!! ولذلك يبدو لي -والله أعلم- أن ترامب هو من آخر الطواغيت الذين يسبقون ظهور المسيخ الدجال، وذلك يعني الشيء الكثير لمن لهم ولو علمًا يسيرًا بفقه الملاحم والفتن!!

وهكذا يملي على هذه البشرية المكبة على وجهها اليوم أن تدرك أنها تكاد أن تفقد حريتها، وأن تتحول إلى مليارات الأرقاء المطوقين حول أعناقهم بطوق حديدي كتب عليه (صنع في أمريكا)، وما عادت هذه البشرية المسكينة مطالبة اليوم أن تسأل فقط ماذا عن غزة بعد وقف إطلاق النار بغزة!؟

بل هي مطالبة الآن أن تسأل كذلك ماذا عني أنا البشرية بعد وقف إطلاق النار بغزة؟! ماذا عني وعن إنسانيتي بعد أن فرض عليّ البيت الأبيض بداية من بايدن ووصولا إلى ترامب أن ألوذ بالخرس على مشهد غزة على مدار خمسة عشر شهرًا وهي تغرق بويلات السلاح الأمريكي والبريطاني والفرنسي والألماني!؟

ثم ماذا عني أنا البشرية وعن إنسانيتي إذا تكرر مشهد الكرب والويل والكارثة وخيّم على غزة من جديد بذات هذه الأسلحة الملعونة، هل سأبقى ألوذ بالصمت المخزي الذي أفقدني كرامتي على أعتاب غزة!! لا سيما وأن ترامب منذ اللحظات الأولى التي جلس فيها على كرسي البيت الأبيض الذي لفظ عشرات الطواغيت الأمريكان من قبله وسيلفظه في الأجل الذي يعلمه الله تعالى، ها هو هذا الطاغوت ترامب يتوعد بفرض التطهير العرقي على غزة مأساة العصر؟! فماذا عساكِ أيتها البشرية ستفعلين!؟ وهل تعلمين أنك ملزمة بإعادة إعمار غزة المفجوعة لأن صمتك كان السلاح الثاني بعد أسلحة طواغيت أمريكا وأوروبا الذي شارك في هدم غزة وباتت في مشهد هدم لم تشهده الحرب العالمية الأولى ولا الثانية!!

وهل تعلمين أيتها البشرية المرعوبة أن صمتك كان سيفًا طويلًا وحادًا تسلط على رقاب الرضع والأطفال والرجال والنساء والشيوخ والعجائز بغزة على مدار الخمسة عشر شهرًا الماضية، فهي دماء غزة التي ساهم سيف صمتك بإراقتها، وهي دماء غزة التي فاضت ودخلت على مخادع كل رؤساء وملوك وأمراء هذه البشرية المضبوعة، سواء كانوا عربًا أو غير عرب، وسواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، وهذا يعني أن أهل غزة المشردين اليوم عن بكرة أبيهم أنت أيتها البشرية ملزمة بكفالتهم وإيوائهم ومعالجتهم وسد جوعهم وستر عورتهم لعل ذلك يخفف من حدة العار الذي تمرغت فيه بعد أن وقفتِ موقف المتفرج على أهل غزة وهم يستصرخونك، إلا أنك تصاممت وكأنك وضعتِ أصابعك في آذانك كي لا يعكر مزاجك صراخ رضع غزة وبكاء أطفالها، وإلا فإن رضيتِ لنفسك أيتها البشرية الجامحة أن تظلين اليوم وغدا وبعد غد كما كنت عليه بالأمس وأمس الأمس، فاعلمي أنك ستضيعين حريتك على أبواب غزة، وأنك ستغوصين في وحل عبودية ذليلة ومهانة ومستحقرة، فهبي أيتها البشرية أنك لن تقومي بواجبك اتجاه غزة، فماذا عن واجبك اتجاه نفسك؟! هل ستظلين مطاردة بكرباج البيت الأبيض والعم سام ترامب؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى