أخبار وتقاريرمحلياتمقالاتومضات

حظر “إفشاء السلام”: هذا ما تريده السلطات، فما الذي نريده نحن؟

ساهر غزاوي

في ظل الحملة المستمرة التي تستهدف نشطاء الإصلاح في الداخل الفلسطيني، وفي وقت يتصاعد فيه العنف وجرائم القتل بشكل غير مسبوق، تبرز أسئلة محورية تتطلب إجابات عاجلة. من أبرز هذه الأسئلة: ما الذي تسعى السلطات الإسرائيلية لتحقيقه من خلال استهداف المجتمع الفلسطيني في الداخل؟ خاصة بعد حظر أنشطة لجنة “إفشاء السلام” واعتبارها خارجة عن القانون بموافقة وزير الأمن الإسرائيلي.

هذه الأسئلة تعكس واقعًا معقدًا ومؤلمًا يعايشه الفلسطينيون في الداخل، حيث يتعرضون لتصاعد القمع في وقت يشهد فيه المجتمع تفشيًا للعنف. ولا يمكن فهم هذه الإجراءات بمعزل عن السياق السياسي والاجتماعي الذي يعيشه هذا المجتمع. فهي تأتي بالتوازي مع تصعيد جرائم القتل والفوضى الأمنية، ما يجعل من الواضح أن الحملة المستمرة على النشطاء وأي جهة تسعى للتغيير، سواء عبر الأنشطة السلمية أو نشر الوعي، تنبع من رغبة واضحة في منع أي محاولة لتغيير هذا الواقع القاتم.

هذه الإجراءات ليست جديدة، فقد سبقتها حملة تحريضية إسرائيلية مستمرة ضد لجان “إفشاء السلام”، وهي مبادرة إصلاحية نشأت في إطار لجنة متابعة الجماهير العربية في الداخل الفلسطيني، التي تضم ممثلين عن مختلف الشرائح السياسية والفكرية. وتشكل لجان “إفشاء السلام” جزءًا من هذه المبادرة التي تضم قيادات دينية إسلامية ومسيحية ودرزية، بالإضافة إلى شخصيات سياسية وفاعلين مجتمعيين من مختلف الاتجاهات.

وعلى مدار سنوات، استهدفت الحملة التحريضية بشكل خاص الشيخ رائد صلاح، الذي تعرض لحملات تحريضية متواصلة، استمرارًا للحملات السابقة، من مستويات سياسية وأكاديمية وإعلامية إسرائيلية منذ تحرره من السجن نهاية عام 2021. الهدف من هذه الحملات هو تشكيل رأي عام معادٍ للشيخ رائد صلاح، والترويج لفكرة “الخطر الأمني” التي تستخدمها إسرائيل لتبرير الهجوم على أي محاولات إصلاحية أو سلمية.

لا يقتصر هذا التحريض على تصرفات عشوائية، بل هو جزء من خطة ممنهجة تهدف إلى عزل قادة المجتمع الفلسطيني في الداخل، مثل الشيخ رائد صلاح، عبر تجريم التواصل معهم وخلق أجواء من الخوف والتهديد. وبالتالي، يصبح توقيت حظر أنشطة لجنة “إفشاء السلام” والتضييق على نشطاء الإصلاح مرتبطًا بشكل وثيق بالتحولات السياسية في المنطقة، خاصة بعد وقف الحرب في غزة، فضلًا عن تصعيد الأوضاع في الضفة الغربية التي تسعى إسرائيل لتحويلها إلى أنقاض، تمامًا كما حدث في غزة.

هذا التوقيت يثير تساؤلات حول الأهداف السياسية الإسرائيلية، التي يبدو أنها تهدف إلى إرضاء حلفاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من اليمين المتطرف في الائتلاف الحكومي. يأتي ذلك في سياق مشهد عودة نازحي شمال غزة، الذين فاقموا الغضب الإسرائيلي، وخصوصًا لدى اليمينيين الذين خاب أملهم من نتائج “خطة الجنرالات” لتحويل شمال غزة إلى منطقة عسكرية، وهو ما فشل في تحقيقه على أرض الواقع.

من جهة أخرى، يجسد مشهد عودة مئات الآلاف من الفلسطينيين عبر ممر “نتساريم” سيرًا على الأقدام نحو منازلهم المدمرة صورة مؤلمة ولكن مليئة بالعزيمة. وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، دُمرت أكثر من 90% من المنازل في شمال قطاع غزة. هذا المشهد، الذي يعكس معاناة “اليوم التالي” بعد 15 شهرًا من حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، هو شهادة على تمسك أهل القطاع بهويتهم الفلسطينية ورفضهم القاطع لأي تدخلات أو إملاءات خارجية من القوى الإقليمية والدولية. كما يمثل هذا المشهد صفعة قوية لكل محاولات الهيمنة على القرار الفلسطيني من الأنظمة العربية والفلسطينية التابعة، مبرزًا تصميم الشعب الفلسطيني على الحفاظ على استقلاليته وقراره الوطني.

عمليًا، لا تقتصر التحركات الإسرائيلية على التضييق على نشطاء الإصلاح الاجتماعي فحسب، بل تشكل جزءًا من سياسة شاملة تهدف إلى إضعاف الجهود الساعية لإيجاد حلول سلمية لمشكلة العنف المستشري. هذه السياسة تعقّد الوضع أكثر وتستدعي ضرورة التصدي لهذه الحملة. وتسعى إسرائيل من خلال هذه الأجندة إلى تهميش المجتمع الفلسطيني في الداخل، وذلك عبر التأثير على وعيه وفصل قضاياه عن قضايا الشعب الفلسطيني الكبرى. هذا التوجه يؤدي إلى تشتيت انتباه المجتمع في همومه اليومية، مثل الجرائم المنظمة، مما يضعف قدرته على التفاعل مع القضايا الأساسية ويحد من تحركاته نحو التغيير المنشود.

يواجه المجتمع الفلسطيني في الداخل تهديدات مباشرة من الجريمة المنظمة التي غالبًا ما تتعاون مع جهاز الأمن الإسرائيلي، مما يزيد من حالة العنف والتهميش في مناطق مثل الجليل والمثلث والنقب والمدن الساحلية.

بالإضافة إلى ذلك، تشير التغيرات الاقتصادية التي شهدها المجتمع العربي خلال العقدين الأخيرين إلى واقع وهمي، حيث يشعر الأفراد بالرفاهية الزائفة نتيجة الاعتماد على الاستهلاك والخدمات، بينما يفتقر المجتمع إلى اقتصاد حقيقي يعتمد على الإنتاج.

هذه السياسات جزء من عملية “هندسة الوعي” التي تمارسها السلطات الإسرائيلية، بهدف تشتيت انتباه الفلسطينيين عن قضاياهم الوطنية الكبرى، وتركزهم في همومهم اليومية. فتغيير الوعي الجماعي وخلق تبعية للواقع القائم يزيد من حالة السلبية واللامبالاة، ويعزل المجتمع عن قضاياه المصيرية.

في الختام، يتضح أن حظر لجان “إفشاء السلام” هو جزء من سياسة إسرائيلية تهدف إلى تعزيز التفريق والهيمنة على المجتمع الفلسطيني، وإضعاف أي جهود إصلاحية تسعى للتغيير السلمي. هذه السياسات تشوش الوعي الوطني وتساهم في نشر الفوضى والرفاهية الزائفة، مما يعزل المجتمع عن قضاياه الحقيقية. وفي ظل هذه الظروف، يظل السؤال الأهم: ما الذي نريده نحن؟ هل نكتفي بتحسين الأوضاع اليومية أم أن الوقت قد حان لتوحيد جهودنا في رؤية استراتيجية شاملة تعزز هويتنا وتحقق التغيير المنشود؟ الإجابة تكمن في قدرتنا على توحيد صفوفنا والعمل معًا لتحقيق أهدافنا في الحفاظ على الإنسان، والأرض، والمقدسات، والهوية. فلا يمكن للفلسطينيين في الداخل أن يقبلوا أن يتحولوا إلى “هنود حمر” في وطنهم وأرضهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى