معركة الوعي (231) هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين

حامد اغبارية
لا تتوقف المؤسسة الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية عن تقديم الدليل تلو الدّليل على أنها، للعقد السابع على التوالي، ما تزال تتعامل معنا- نحن فلسطينيي الداخل- من المنظور الأمني، الذي طوّرت لأجله طوال تلك السنين أدوات ووسائل، هي أشبه باستعداد دولة لمواجهة دولة أخرى على جبهة ساخنة. وليس هناك من تفسير آخر يمكن أن يبرر سلوك تلك المؤسسة في ملاحقة أي نشاط أو مشروع إصلاحي يصب في خدمة أبناء مجتمع الداخل الفلسطيني الذين نكصت المؤسسة الرسمية عن منحهم حقوقهم وتوفير حياة آمنة لهم، بل وتسعى طوال الوقت إلى تفكيك نسيجهم الاجتماعي وزرع الفتن بين ظهرانيهم بهدف إشغالهم بأنفسهم وتفتيتهم وإضعافهم بكل وسيلة ممكنة، متذرعة بالدواعي الأمنية تارة ومخالفة القانون تارة أخرى وما يلحق ذلك من قائمة طويلة من أسباب ودوافع ما أنزل الله بها من سلطان.
إن دولة تزعم أنها قوية ومتماسكة، ثمّ تمارس الملاحقات السياسية بهذه الصورة العبثية المضحكة إنما هي دولة ضعيفة هشّة، تعيش داخل فقاعة من الرعب الدائم والتحفز الانقضاضي على كل شيء حولها.
هكذا هي المؤسسة الإسرائيلية التي أصدرت يوم الثلاثاء أمرا بحظر نشاط لجنة إفشاء السلام المنبثقة عن لجنة المتابعة العليا، والتي يقف على رأسها فضيلة الشيخ رائد صلاح، واعتبارها تنظيما إرهابيّا بذرائع ممجوجة، أسخف ذريعة فيها أن قرار الحظر جاء بأمر عسكري من وزير الأمن النتنياهويّ استنادا إلى قانون مكافحة الإرهاب الصادر عام 2016، والذي كنت أسميه دائما “قانون الحركة الإسلامية” لأنه سُنّ تحديدا من أجل ملاحقتها، بعد حظرها وفق أنظمة الطوارئ الموروث عن الاستعمار الإنجليزي للبلاد.
زعم قرار الحظر بأنّ لجنة إفشاء السلام إنما هي استمرار وامتداد لعمل الحركة الإسلامية المحظورة عام 2015، والتي كان يرأسها كذلك الشيخ رائد صلاح. وجاء في قرار الحظر الذي وقّع عليه يسرائيل كاتس: “إنه ضمن صلاحياتي حسب قانون مكافحة الإرهاب لسنة 2016، وبعد أن اقتنعت أن الحظر ضروري لمنع نشاط الحركة الإسلامية -الجناح الشمالي- ولجان إفشاء السلام فإنني آمر بمصادرة ممتلكاتها…..”.
وفي البيان المشترك للناطقين بلسان الشرطة والشاباك ووزارة الأمن، فإنّ لجان إفشاء السلام أقامها الشيخ رائد صلاح سنة 2017، وأن هدفها المعلن هو معالجة قضية العنف في المجتمع العربي، لكنّ المعلومات التي جُمعت في السنوات الأخيرة تدل على أنه رغم الأهداف المعلنة فإن هذه اللجان هي عمليا غطاء لاستمرارية نشاط الحركة الإسلامية …!
كما زعم البيان أنه ضمن نشاطات إفشاء السلام دخلت هذه اللجان، بقيادة رائد صلاح، مؤسسات تربوية (مدارس) رسمية بهدف الترويج لفكر الجناح الشمالي للحركة الإسلامية المحظورة!
والحقيقة التي يعلمها الجميع، بمن فيه تلك الأذرع الأمنية، أن هذه “معلومات” مخالفة للحقيقة بشكل فظّ. فالشيخ رائد صلاح ليس هو الذي أنشأ لجنة إفشاء السلام، بل أنشأتها لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في البلاد، وهي واحدة من عشر لجان أنشأتها المتابعة لمعالجة مختلف القضايا التي يعاني منها مجتمع الداخل الفلسطيني. وقد كلفت اللجنة فضيلة الشيخ رائد صلاح برئاسة تلك اللجنة، كعضو في المتابعة، مثل سائر زملائه فيها، من الذين كُلّفوا برئاسة سائر اللجان، وهم من مختلف الأحزاب والتيارات السياسية المنضوية تحت سقف المتابعة.
وقد أنشئت اللجنة عام 2014 وليس عام 2017، كما يزعم البيان، وقد نشطت اللجنة منذ تأسيسها، إلى أن اعتقل الشيخ رائد صلاح عام 2016 وسجن في محاكمة ظالمة ضمن خطة الملاحقات السياسية التي تعرض لها، خاصة بعد حظر الحركة الإسلامية. ثم تجدد نشاط اللجنة بعد خروج الشيخ من سجنة عام 2017.
ولجنة إفشاء السلام ليس لها علاقة تنظيمية بأي جسم سياسي أو حزبي، لا بالحركة الإسلامية المحظورة ولا بأي تنظيم سياسي آخر، فهي جسم جماهيري شعبي يضم في صفوفه ناشطين من مختلف التيارات والإيديولوجيات والانتماءات الدينية من مسلمين ومسيحيين ودروز.
وقد أعلنت طوال الوقت أنها موجودة لمعالجة قضية العنف والجريمة المنظمة لإنقاذ مجتمع الداخل الفلسطيني من وباء الجريمة الذي لم تفعل السلطات الرسمية شيئا لمواجهته، بل هي متهمة من جانب الأهل في الداخل بالتواطؤ لنشر العنف وتشجيعه. وهناك من القرائن ما يؤكد ذلك. وكان الشيخ رائد صلاح يؤكد في كل نشاط تقريبا على أنّ “إفشاء السلام” ليست تابعة لأي حزب أو حركة أو تيار سياسي بعينه، بل هي جزء لا يتجزأ من لجنة المتابعة العليا وواحدة من لجانها.
أما ما جاء في ذلك البيان المضحك من أن لجنة إفشاء السلام تعمل على نشر أفكار الحركة الإسلامية في المدارس، فليس له أساس من الصحة ولا يقوم عليه دليل ولا حتى قرينة بحجم الذرّة، إذ كان همّها الوحيد هو نشر ثقافة السلم الأهلي ونبذ العنف في أوساط الطلاب الذين سيندمجون غدا في مجتمعهم، الذي يعاني من أزمات كثيرة من ضمنها العنف والجريمة المنظمة، ولذلك فإن لهم دورا في تقوية نسيج هذا المجتمع، الذي تسعى جهات كثيرة إلى تفكيكه وتفتيته.
هذه هي الحقيقة التي يوجد عليها ألف دليل بالصوت والصورة والشهادات الحيّة والكلمة المكتوبة، سواء في المدارس أو في غيرها من نشاطات لا عدَّ لها نظّمت على طول البلاد وعرضها من الجليل إلى النقب، فهل يملك الذين أصدروا قرار الحظر دليلا أو نصف دليل على مزاعمهم؟ وإن كان لديهم دليل، فلينشروا على الملأ “معلوماتهم” التي جمعوها في السنوات الأخيرة كما يفترون!!! وإن كنتُ على يقين أنهم لن يفعلوا، لأنهم يكذبون كما يتنفسون، ولأنه لا توجد معلومات ولا يحزنون، وإنما هي أشبه “بالمعلومات السرية” التي اعتادوا تقديمها للقضاة لتبرير تمديد اعتقال المظلومين، والتي نعلم أنها محض أكاذيب، فلا هي معلومات ولا هي سريّة!
أما الحقيقة الثانية فهي أن المؤسسة الإسرائيلية وأذرعها الأمنية لها أجندة. وهذه الأجندة هي النقيض من مصلحة مجتمع الداخل الفلسطيني.
الحقيقة أن المؤسسة الإسرائيلية تريد تضييق الخناق على فضيلة الشيخ رائد صلاح شخصيا لمنعه من أي نشاط يخدم من خلاله مجتمعه الذي أهملته المؤسسة الإسرائيلية.
الحقيقة أن المؤسسة الإسرائيلية عامة، وحكومة نتنياهو خاصة، ونتنياهو بشكل أخص لهم حساب شخصي مع فضيلة الشيخ رائد صلاح الذي رفض الانخراط في لعبتهم، وفضح مكائد الاحتلال ومخصصاته الشيطانية في القدس والمسجد الأقصى المبارك. وهناك سجلات طويلة عريضة مليئة بالتفاصيل ذات العلاقة بهذه القضية، خاصة منذ 1996.
الحقيقة أن مشروع إفشاء السلام أفشل، إلى حد كبير، مخطط إغراق مجتمع الداخل ببحر من الدماء والعنف والجريمة المنظمة والفساد الأخلاقي.
الحقيقة أن المؤسسة الإسرائيلية مصدومة من النجاحات التي حققتها لجان إفشاء السلام في السنوات الأخيرة، رغم كل الجهود التي تبذلها المؤسسة لنشر ثقافة العنف في أوساط مجتمع الداخل.
الحقيقة أن المؤسسة الإسرائيلية لا تريد لهذا المجتمع أن ينهض ويتقدم ويبني مستقبله بنفسه وبجهود أبنائه، بعد أن أدرك أن السلطة الرسمية لن تقدم له شيئا، وأنها باعته أوهاما طوال الوقت.
الحقيقة أن المؤسسة الإسرائيلية تريد أن تجعل من هذا المجتمع مجرد حطابين وسقاة ماء، يأكلون ويشربون، ويفضَّل ألّا يتناسلوا، ويتقاضون مخصصات المعيشة من التأمين الوطني، ويأخذون القروض من البنوك ومن السوق السوداء، ويفضَّل أن يتسرب أبناؤهم من المدارس وينتشروا كالهوام في الشوارع والطرقات، ومن هناك يتحولون إلى مدمني مخدرات أو إلى “جنود” يخدمون لدى عصابات الإجرام…
الحقيقة أنّ المؤسسة الإسرائيلية ووسائل إعلامها عملت على شيطنة لجنة إفشاء السلام منذ اللحظة التي جددت فيها نشاطها بزخم بعد خروج الشيخ رائد صلاح من ظلمات زنازينها عام 2017، وخرجت بحملة تحريض سوداء على الرجل وعلى المشروع.
الحقيقة أن المؤسسة الإسرائيلية بذلت جهودا كبيرة من أجل منع جهات كثيرة من التعامل مع لجان إفشاء السلام، من بينها رؤساء سلطات محلية عربية، وقسم منهم أكد ذلك على الملأ. ومن بينها مدارس، اعترف بعض ومديريها كذلك أنهم تلقَّوْا تعليمات مباشرة من وزارة التعليم (وجهات أخرى!!) بمنع لجان إفشاء السلام من الدخول إلى المدارس. ومن بينها شخصيات اجتماعية ودينية اعترف بعضها بذلك، ودلّ خروج بعضها من اللجنة فجأة ودون مقدّمات، بعد أن نشطت فيها لفترة طويلة، على ذلك.
قائمة الحقائق طويلة، وهي أطول من أضاليل المؤسسة الإسرائيلية وأذرعها الأمنيّة أضعاف أضعاف.
لقد بات من المسلّم به أن هذه المؤسسة الإسرائيلية لا تريد الخير لمجتمعنا، بل تريد له كلّ شر وخسران. هذا نعلمه نحن منذ عقود، لكننا نذكرّ به مَن كان في قلبه مثقال ذرة من شك، أو مَن كان من الذين يراهنون على أن هذه السلطة يمكن أن تقدم لنا شيئا حقيقيا.
ولكنّ المؤكد أن هذا المجتمع لن يستسلم ولن يُحبَط ولن ييأس، فهو يدرك تماما ما يحاك له في العتمة، ويدرك أن لديه القدرة على تجاوز كل عقبة، فجعبتُه مليئة بالإبداع، ولن يتوقف عن السير إلى الأمام رغم كل محاولات الإجهاض والقرارات الكيدية.