أخبار وتقاريرمحلياتمقالاتومضات

الحركة الإسلاميّة كتيّار فاعل ومؤثّر في النقب

ساهر غزاوي

تطرّقت أدبيّات كثيرة إلى المجتمع الفلسطينيّ البدويّ في النقب، باعتباره جزءًا بنيويًّا من المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل. وتُبيِّن الأدبيّات في الحقل الأكاديميّ أنّ بدو النقب هم من بين السكّان الأكثر دراسة في إسرائيل، كونهم مجتمعًا عشائريًّا له منظومة أعراف وقوانين محافِظة لا يُستهان بها. ورغم وجود دراسات كثيرة حول الحركة الإسلاميّة في البلاد والمجتمع البدويّ في النقب، فإنّ النشاط والحضور المكثَّف للحركة الإسلاميّة في النقب -ولا سيّما في العقود الأخيرة- لم يحظَ بالاهتمام الأكاديميّ المناسب، على الرغم من مكانة الحركة كتيّار فاعل ومؤثّر ومتصدّر في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة في النقب منذ بداية ثمانينيّات القرن المنصرم.

يمكن القول إنّ مناقشة تأثير نشاط الحركة الإسلاميّة السياسيّ والاجتماعيّ والدينيّ على المجتمع البدويّ في النقب تُعتبر موضوعًا جديدًا لم تجرِ دراسته من قَبْل على نحوٍ موسّع في الاتّجاهات والديناميكيّات المتغيّرة في المجتمع النقباويّ، ولا سيّما أنّ هذا المجتمع لم يفلت من عمليّات التحديث المتسارعة والتحوُّلات والتغيُّرات الجذريّة والسريعة التي أجبرته على تغيير نمط حياة اعتاد عليها لفترات طويلة، وهذا ما شكّل مُثار اهتمام لدى الباحثين في مجالات علوم المعرفة المتنوّعة حول المجتمع البدويّ في النقب، بالإضافة إلى كونه مجتمعًا ارتبطت ديناميكيّته وتطوُّره السياسيّ في المجتمع الفلسطينيّ بصورة كبيرة بديناميكيّة وتطوُّر الحركة الإسلاميّة في البلاد في العقود الأخيرة.

شهدت أواخر سبعينيات القرن المنصرم تخرُّج عدد من أبناء وبنات الحركة الإسلاميّة من كلّيّات ومعاهد أكاديميّة من المناطق التي انتشرت فيها، ويُعتبر هذا تطوُّرًا مهمًّا في تاريخ الحركة الإسلاميّة في العَقْد الأوّل من نشأتها، ولا سيّما أنّ معظم خرّيجي الحركة عملوا في مهنة التدريس في منطقة صحراء النقب. وتذكر أدبيّات الحركة الإسلاميّة أنّه بالرغم من أنّ تعيين المعلّمين في النقب كان يُعتبر بمثابة قصاص لهم، بسبب البعد الجغرافيّ وصعوبة المواصلات وظروف العيش غير المعتادة لهم في النقب، فقد حوّلوا هذه المِحنة إلى مِنْحة، إذ إنّ وصول عدد كبير من معلّمي الحركة الإسلاميّة إلى النقب في ذلك الوقت هيّأ الظروف لتفعيل قويّ للصحوة الإسلاميّة في هذه المنطقة، في وقت كانت فيه الثقافة والمعرفة الدينيّة بين سكّان النقب ضعيفة جدًّا.

أخذت الحركة الإسلاميّة على عاتقها إحياء الدين ونشر تعاليم الإسلام والدعوة إليه في جميع أنحاء البلاد على أنّها وظيفتها الرئيسيّة التي قامت عليها. وفي ما يتعلّق بمنطقة النقب، فإنّ رؤية الحركة الإسلاميّة ترتكز على الارتباط الجغرافيّ والوطنيّ والدينيّ، إضافة إلى الارتباط التاريخيّ الإسلاميّ، إذ ترى الحركة الإسلاميّة أنّ منطقة النقب في الجنوب كانت البوّابة التي دخل من خلالها الإسلام في القرن الميلاديّ السابع، وأنّه كان للقبائل البدويّة التي جاءت من شبه الجزيرة العربيّة الفضل الكبير في نشر الإسلام والحفاظ عليه. على ضوء ذلك، بالإمكان فهم جانب مهمّ من عمل ونشاط الحركة الإسلاميّة والحركة الديناميكيّة الكبيرة التي صنعتها في النقب على المستوى الدينيّ والاجتماعيّ والسياسيّ.

كان ظهور الحركة الإسلاميّة في بداياته دينيًّا محضًا، وجاءت الحركة متوافقة مع شخصّية المجتمع العربيّ المسلم في النقب مع ما أضافته من توعية لقيمة الصلوات وإعمار المساجد والتثقيف الدينيّ، وهو ما أسهم في تقبُّل المجتمع الفلسطينيّ في النقب للدَّوْر الذي تقوم به الحركة الإسلاميّة، وهو ما أسهم كذلك في تقبُّل المجتمع النقباويّ لطروحات الحركة الإسلاميّة. وقد أسهمت التطوُّرات في الحياة المدنيّة الحديثة وتخطيط المدن والقرى في أن تكون المساجد وتخطيطها وإعمارها أمورًا طبيعيّة، وهذا يقودنا إلى الارتفاع الكبير في عدد بناء المساجد في النقب. فوَفقًا للدراسة التي أعدّها كاتب هذه السطور، لم يكن في النقب حتّى عام 1973 إلّا مسجد واحد مفتوح للصلاة في بلدة رهط، وفي عام 2023 وصل العدد إلى 180 مسجدًا في أنحاء منطقة النقب كافّة. وأسهمت هذه التطوُّرات في تعليم الأبناء والبنات في المدارس والجامعات كذلك، ممّا جعل وجود الصحوة الدينيّة وما يصاحبها من آثار اجتماعيّة أمرًا طبيعيًّا مقبولًا، بل محمودًا.

لقد كان خلق ثقافة دينيّة في المجتمع البدويّ في النقب آليّة مركزيّة لدى الحركة الإسلاميّة ممّا أحدث تغييرات جذريّة في ثقافة ووعي سكّان المجتمع البدويّ في النقب من الناحية الدينيّة والسياسيّة، وخاصّة في علاقاتهم مع الدولة، ولا سيّما أنّ أصواتًا إسرائيليّة رسميّة وجّهت أصابع الاتّهام بصورة مباشرة إلى الحركة الإسلاميّة، وعلى وجه التحديد الشَّقّ غير البرلمانيّ (الشماليّة)، بالوقوف خلف التقليل من ظاهرة التحاق شباب النقب بالجيش الإسرائيليّ، وبأنّها السبب في شبه اختفاء لمظاهر الاحتفاء في “عيد الاستقلال” في قرى ومضارب النقب البدويّة، وهو ما أَفْضى إلى عواقب سياسيّة دفع ثمنَها هذا الشَّقُّ من الحركة الإسلاميّة، ولاحقًا أخرجته إسرائيل عن القانون وحظرت جميع مؤسَّساته الخدماتيّة والأهليّة، علمًا أنّ شَقّ الحركة الإسلاميّة غير البرلمانيّ هذا كان أكثر تنظُّمًا وفاعليّة مِن سِواه وركّز جهود نشاطه الدينيّ والسياسيّ والاجتماعيّ في الميادين والعمل الجماهيريّ والشعبيّ، بخلاف الشَّقّ البرلمانيّ (الجنوبيّة) الذي ركّز جهود نشاطه في العمل السياسيّ المتمثّل بالمشاركة في الكنيست والسلطات المحلّيّة، وبالطبع هذا لا ينفي قطعًا بصمات الشَّقّ الجنوبيّ في ميادين العمل الاجتماعيّ والدينيّ في النقب.

أدركت الحركة الإسلاميّة باكرًا أنّ سرّ نجاحها في النقب يكمن في قدرتها على إحسان التواصل مع النظام العشائريّ والإصرار على ترشيد هذا النظام العشائريّ واستثمار مخزون طاقاته لإسناد امتداد الحركة الإسلاميّة في النقب. وقد احتضن هذا المجتمع الحركة الإسلاميّة على نحوٍ لافت أكثر من سائر التيّارات الأخرى، سواء أكانت هذه سياسيّة أَمْ فكريّة أَمِ اجتماعيّة، على اعتبار أنّها امتداد له وتتوافق مع الكثير من عاداته، وتُلامِس عواطفه ومشاعره، وتزوّده بالمفاهيم والمبادئ الإسلاميّة، وتدعوه إلى نبذ العصبيّة العشائريّة العمياء، وإلى التمسُّك بأخوّة الإسلام. بَيْدَ أنّ ذلك الأمر لم يكن بالهيّن، ولم تُحرز الحركة الإسلاميّة النجاح الدائم في كلّ خطواتها، خاصّة بعد أن خاضت هذه الحركة في النقب انتخابات السلطات المحلّيّة، وبعد أن خاض جناح منها انتخابات الكنيست. ولو ظلّت الحركة الإسلاميّة في النقب تعمل في حدود المشاريع الدينيّة والاجتماعيّة والإصلاحيّة فقط، لنجحت في أن تحتضن كلّ أهل النقب كعنوان جامع لهم، وَفْق ما أزعم؛ وذلك أنّ التنافس الانتخابيّ أدّى إلى تشنُّج بعض العشائر، ومنها من اتّخذ مواقف عدائيّة تجاه الحركة الإسلاميّة.

على صعيد آخر، ترك وقوع الانقسام عام 1996، الذي يُعتبر محطّة فارقة في تاريخ الحركة الإسلاميّة، بصماتٍ سلبيّةً على كلّ المواقع؛ والنقب في هذا شأنُهُ كشأن أيّ موقع آخر. فقد برزت ارتدادات في مساجد النقب وفي
جمعيّات ومؤسَّسات ونشاطات ومنابر إعلام الحركة الإسلاميّة في النقب أثّرت سلبًا على مشروع الحركة الإسلاميّة. فضلًا عن هذا، حظْر الحركة الإسلاميّة غير البرلمانيّة ومؤسَّساتها عام 2015 أثّر سلبًا على كلّ النشاطات الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، ولا سيّما أنّ أهل النقب كان لهم الدَّوْر البارز في كلّ مؤسَّسات ومشاريع الحركة الإسلاميّة -مثل مؤسَّسة النقب للأرض والإنسان التي كانت تنفّذ مشروع الحركة الإسلاميّة السنويّ الضخم (معسكر التواصل مع النقب).

خلاصة القول إنّ الحركة الإسلاميّة قـامت بسـدّ فجـوة عميقـة في المجتمع البدويّ في النقب الذي يعاني من سياسة الإهمال والإقصاء التي اتّبعتها الدولة منذ قيامها تجاه المجتمع الفلسطينيّ في النقب الذي يتّسم بوضع اجتماعيّ واقتصاديّ متدنٍّ جدًّا، ومستوى متدنٍّ من التنمية، ونقص كبير في البنى التحتيّة الأساسيّة والخدمات، إلى جانب الفقر ونسبة البطالة المرتفعة، علاوة على أنّ التكيُّف مع عمليّة التحديث المتسارعة لم يجرِ تطويرها في النقب على نحوٍ كافٍ وملائم للقرن الحادي والعشرين. وبعد عقود طويلة من التهميش والغطرسة والإهمال، منحت الحركة الإسلاميّة سكّان المجتمع البدويّ في النقب حضورًا وتأطيرًا سياسيًّا في المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل، واستغلّت المساحة التي خلقتها في منطقة النقب وشَرَعت تعمل فيها في مجالات مختلفة، ولا سيّما أنّه قبل دخول الحركة الإسلاميّة النقب لم يكن للمواطنين العرب في النقب أيّ إطار اجتماعيّ أو دينيّ أو سياسيّ يجمعهم، إلّا بعض المعامَلات المدنيّة الهامشيّة التي تقدّمها الدولة عبْر شيوخ القبائل المعتمَدين لديها من موروث فترة الحكم العسكريّ.

(هذا المقال نُشر حديثًا في العدد 42 من مجلة “جدل”، الصادرة عن مدى الكرمل – المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية، وذلك ضمن مقالات الرأي التي كتبها طلاب سمينار الدراسات العليا للعام الأكاديمي 2024).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى