أخبار وتقاريردين ودنيامقالاتومضات

طوبى لها من منزلة

ليلى غليون

مرضى النفوس يبحثون عن المنزلة والمكانة من خلال الألقاب وتبوُّء الصدارة والمراكز العالية، ولكن الصدارة والمكانة في احتلال القلوب بالمعاملة الراقية والدفع بالتي هي أحسن، وأولى بذلك الداعية إلى الله تعالى والذي بسيره في طريق الدعوة يصنع الحياة، بل ويقودها من خلال ما تدفق فيه القلب من إيمان، وثار فيه العزم وتصاعدت الهمة، وتفجرت الغيرة والحمية للذود عن حمى هذا الدين، فامتلأت النفس بهذا الوقود الرباني الذي يقف المستحيل أمامه ذليلا. فماذا عسى الألقاب أن تضيف لصاحب هذه النفس العملاقة؟ وما عسى المراكز أن تعلي من شأنه وهو عالي الشأن أصلا بدونها، وقد امتلك من الرصيد النفسي والتعبئة الذاتية ما يجعله في غنى عن كل هذه الإضافات؟ هكذا هو صانع الحياة، كما قال الأستاذ محمد أحمد الراشد رحمه الله: “صانع الحياة يدوس الألقاب برجله ويحطمها، ويمضي يصنع الحياة من موطن التخصص والفن والإبداع، هو مليء النفس ولا يحتاج إلى أحد لملئها. فالذي يطالب بالمسؤوليات والألقاب الدعوية والنقابة والإمارة على المؤمنين إنما هو العاجز الذي لا يحسن علمًا ولا تخصصًا ولا فنًا، فيطلب التعويض بإنعام الألقاب عليه، ويعارك ويختلف، ويناضل دون مكتسباته السابقة ويملأ الكواليس همسًا وسعيًا، وأما المقتدر فيتقدم تقدم الواثق”.

فلنتقدم تقدم الواثق مليء النفس، فليست المراكز هي التي تحركنا ولا الألقاب هي التي تدفعنا، وعندما يكون الأمر كذلك فإن باطن الأرض خير لنا من ظاهرها، وعندما لا يكون حراكنا من باعث فكرة ومبدأ، وعندما لا نفقه دورنا إلا من خلال جلوسنا على كراسي المسؤوليات والمراكز، ولا نعي أن وجودنا مرتبط بمدى ارتباطنا بكلمة المسلمين قولًا وفعلًا وسلوكًا، فإنه حتما الاستبدال الذي قال رب العزة عنه جل في علاه: (وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم).

عديدة هي الطرق لخدمة الإسلام، وإن سبيل العمل في دعوة الله فسيح واسع، وهو أوسع مما نعتقد، وإنه لجرم عظيم في حق الدعوة إلى الله أن ننشط في دعوة الله ويكون لنا صولات وجولات في ميدانها إذا كنا أصحاب مراكز عالية فيها، بينما يخفت هذا النشاط وتفتر العزائم وتتمطى الهمم حين تختفي هذه المراكز، أو تكون في ميزان نفوسنا دون المطلوب، أو عندما نؤمن في قرارة أنفسنا وقد تكبلنا ببعض أحابيل الشيطان -الذي زين لنا الصورة المزيفة- بأننا مغبونون ومظلومون وأننا نستحق أكثر وأكثر وأننا نستأهل المزيد، حينها تكون الطامة الكبرى لتضطرب سفينة العمل بل تزمجر رياح هلاكها.

وفي هذا المقام تحضرني قصة الأستاذ صالح عشماوي رحمه الله، وهو من رجال الرعيل الأول من الدعاة، يقول عنه الأستاذ محمد الراشد رحمه الله: “لقد لبث الأستاذ العشماوي مع الإمام المؤسس دهرًا كأحسن ما يكون
الداعية، فلما قتل الإمام رحمه الله والمحنة جاثمة اختلطت أوراق وتحركت وساوس فافتتن نفر وجعلوا الأستاذ العشماوي رأسًا عليهم، ثم مرت سنوات فندم على ما كان منه وطلب أبلغ صور التوبة النصوح، وقد زرت دار مجلة الدعوة (والكلام لا يزال للأستاذ الراشد) فوجدت شيخًا وقورًا يجلس بتواضع على كرسي خيزران قديم كأنه بواب، ولكنه مهيب وله طلعة نورانية، فسلمت عليه واستأذنته، فأذن لي فدخلت. فقال لي أخ هناك: هل عرفت هذا الرجل؟ قلت: لا ولكنه استرعى اهتمامي! قال: ذلك الأستاذ العشماوي، يرى أن نفسه استروحت يوم جعله المشاكسون رأسًا ونادوا به أميرًا وعزم أن يرجع جنديًا في آخر الصف، فاختار أن يكون بوابًا. ولو يعلم أن هناك منزلة أدنى من منزلة البواب لسارع إليها”.

نعم؛ هكذا يكون الداعية إلى الله في قمة عطائه وفي أوج نشاطه قائدًا كان أم جنديًا، في أول الصف أم في آخره، بأية رتبة يتقلدها. فرُبّ همة أحيت أمة، ورُبّ نملة أنقذت قرية، ورُبّ هدهد هدى مملكة، ورُبّ عامل في الخفاء هو عند الله من العظماء.

إنها صناعة الحياة وصياغة النجاح التي تجعل من الفرد كبيرًا عند الله عز وجل وكبيرًا في مجتمعه، بل كبيرًا في كل شيء. فليس العظيم عظيم الموقع، وليست المنزلة في المنصب، ولكن المنصب والمنزلة والغاية التي يجب أن
تهفو إليها النفوس وتسعى لتحقيقها هي: (يا جبريل، إني أحب فلانًا فأحبه…)، إن المنزلة “أن تنادي ملائكة السماء أهل الأرض إن الله تعالى يحب فلانًا فأحبوه..”، فهذه هي المنزلة وهي الغاية العظمى التي يجب أن نسعى لها لنحظى بها، وهي أن تغشانا وتسربلنا محبة المولى عز وجل ونكون من أحبابه، نسأل الله أن يبلغنا هذه المنزلة الرفيعة وأن نحظى بمحبة الله تعالى، عندها طوبى لنا من سعداء وطوبى له من منصب، وطوبى لها من منزلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى