بين “حماية الوطن” وحماية أمن المستوطنين
ساهر غزاوي
يبدو أنَّ السلطة الفلسطينية، برئاسة محمود عباس وحاشيته في رام الله، لم تستفد من تجارب الماضي أو الحاضر، بل استمرت في نهجها الحالي دون مراجعة حقيقية. ففي وقت تتنصل فيه الحكومات الإسرائيلية من التزاماتها باتفاق أوسلو وتعمل على قتل ما تبقى من “عملية السلام”، تواصل السلطة تمسكها بتلك الالتزامات، بما في ذلك التعاون الأمني (التنسيق المقدس) مع الاحتلال. هذا التعاون، الذي أصبح عبئًا ثقيلًا على الفلسطينيين، يعكس رهانات وأوهامًا مستمرة بالتمسك بتسوية سياسية لم تعد موجودة على أرض الواقع.
في هذا السياق، تواصل السلطة الفلسطينية تنفيذ “العملية الأمنية” في جنين، التي بدأت في مطلع كانون الأول الجاري تحت شعار “حماية وطن”. ورغم المناشدات الشعبية والمبادرات التي دعت إلى وقف هذه الحملة الدموية، إلا أن السلطة ماضية في تنفيذها، ما يثير العديد من التساؤلات حول دوافعها الحقيقية. ففي وقت تتنصل فيه إسرائيل من التزاماتها بأوسلو وتواصل حرب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، تسعى السلطة لفرض هيمنتها على الضفة الغربية. هذه الحملة تأتي أيضًا في وقت حساس يتزامن مع تولي دونالد ترامب الرئاسة الأمريكية مجددًا، ما يدفع القيادة الفلسطينية إلى الرهان على التكيف مع السياسة الأمريكية الجديدة على أمل الحفاظ على وجود السلطة في الضفة أو استعادتها في غزة، رغم جميع التجارب السابقة التي أثبتت فشل هذا النهج.
لا شك أن هذه الحملة الأمنية، التي استهدفت مخيم جنين، أثارت جدلًا واسعًا حول أهدافها وتداعياتها. فقد وجهت إسرائيل تحذيرًا للرئيس محمود عباس بشأن قرب انتهاء المهلة الممنوحة لإنهاء العملية، مشيرة إلى أن “لديك مهلة قصيرة لإنهاء العملية في جنين، وبعدها سنستأنف العمل في شمال الضفة الغربية”. هذا التحذير لا يعكس فقط الضغوط الإسرائيلية، بل يسلط الضوء على التنسيق الأمني الواضح بين الجانبين، ويبرز تبادل الأدوار في استهداف المقاومين الفلسطينيين تحت شعار “فرض الأمن وإنهاء الفلتان الأمني”.
إضافة إلى ذلك، يتزامن توقيت الحملة مع التصعيد الإسرائيلي في قطاع غزة، حيث تلوح بوادر صفقة سياسية قد تمهد لتنفيذ مخططات “اليوم التالي”، التي قد تكون السلطة الفلسطينية جزءًا منها. وبما أن الحملة تأتي في سياق إقليمي ودولي حساس، فإنها تعكس الضغط الكبير على القيادة الفلسطينية، ما يفسر شدة الحملة وأسلوبها العنيف. فالتصريحات الرسمية الفلسطينية وأداء الأجهزة الأمنية تعكس أسلوبًا قاسيًا في التعامل مع المدنيين، حيث تم استهداف المواطنين بخطاب عنيف، ووصف المقاومين بأنهم “خارجون عن القانون”، بل وصل الأمر إلى اقتحام منازل عائلات الشهداء وضربهم وطردهم منها.
في ظل هذه المعطيات، تبدو الحملة الأمنية التي تنفذها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية أكثر من مجرد استجابة لاعتبارات أمنية. فهي تعكس، بشكل أو بآخر، ضغوطًا دولية وإسرائيلية متزايدة تهدف إلى ضبط الأوضاع في المنطقة قبل تغييرات سياسية دولية مرتقبة، مثل تسلّم الرئيس الأمريكي الجديد مهامه. لكن يبقى التساؤل الجوهري: هل تسعى “حماية الوطن” فعليًا إلى الدفاع عن الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال ومستوطنيه الذين يواصلون اعتداءاتهم اليومية؟ أم أنها تستهدف حماية السلطة نفسها من تهديدات داخلية وخارجية؟
هذا التساؤل يصبح أكثر إلحاحًا في ظل الحرب الإسرائيلية على جنين ومخيمها في يوليو 2023، التي خلّفت مئات الشهداء والجرحى وأجبرت مئات العائلات على النزوح تحت وطأة القصف. والمفارقة أن الحملة الأمنية الفلسطينية، التي تحمل شعار “حماية الوطن”، تعتمد أساليب تتقاطع بشكل صارخ مع ممارسات الاحتلال، مثل الحصار المشدد، وقطع الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء، ومنع دخول الإمدادات الغذائية، فضلًا عن تهديد السكان، مما يثير تساؤلات عميقة حول طبيعة هذا النهج وأهدافه الحقيقية.
وفي الوقت الذي تستمر فيه إسرائيل في تنفيذ خططها الاستيطانية تحت شعار “حماية أمن المستوطنين”، تتصاعد وتيرة التصعيد العسكري، خصوصًا بعد السابع من أكتوبر 2023، في مناطق مثل جنين ونابلس وطولكرم. وقد اتخذت سلطات الاحتلال إجراءات انتقامية مثل إغلاق الطرق وفرض حصار خانق على بلدات فلسطينية، مما زاد من معاناة السكان. وعلى الجانب الآخر، تبدو السلطة الفلسطينية وكأنها تعيد إنتاج الاحتلال بأساليبها الخاصة، حيث تُرافق شعار “حماية الوطن” ممارسات أمنية قاسية، تُذكّر بأساليب الاحتلال، ما يثير تساؤلات حول دور السلطة الحقيقي: هل تسعى لحماية الوطن والشعب أم لضمان بقائها في ظل الضغوط الدولية والإقليمية المتزايدة؟
ختامًا، نعود إلى ما بدأنا به، حيث يبدو أن السلطة الفلسطينية، برئاسة محمود عباس، أصابها العمى السياسي، فاختارت التحالف مع قوى الظلم والاستبداد الإقليمي والعالمي. وهذا يعني، بصريح العبارة، أنها قررت الانحياز
للظالم ومساندته في ظلمه ضد أبناء شعبها. إن تصرفات السلطة الفلسطينية في مقاطعة رام الله، وتنسيقها الأمني “المقدس”، لا تستهدف سوى الشعب الفلسطيني، وقد باتت هذه السلطة سيفًا مسلطًا على رقاب الفلسطينيين. هدفها لم يعد يتجاوز إطارها الوظيفي الأمني الذي يسعى إلى منع المقاومة وعدم دعمها، مقابل الحفاظ على بقائها واستمرار مصالحها المالية والخدمية.
تتبع السلطة الفلسطينية في هذا السياق نظرية “اللعب الصفري”، التي تقوم على اعتبار السلطة معركة خاسرة أو رابحة فقط، مما يدفعها إلى الاعتماد على القمع كوسيلة للحفاظ على مكاسبها. غير أن هذا النهج يعمق الهوة بينها وبين شعبها ويدفع بالمجتمع نحو التصعيد والمواجهة. وتتجاهل السلطة دروس التاريخ، الذي يعج بأمثلة لمجموعات تعاونت مع المحتل لتحقيق مصالح شخصية أو سياسية، لينتهي بها المطاف غالبًا بفقدان السلطة أو مواجهة انتقام شعبي مرير، تاركة إرثًا من الخيانة والخذلان.