أخبار وتقاريرمقالاتومضات

معركة الوعي (226) سوريا الجديدة والنموذج التركي..

حامد اغبارية

1. لكنّهم سيفشلون:
لن يتركوا سوريا وشأنها. وسوف يبذلون كل وسيلة ويسلكون كل سبيل من أجل التخريب والتفكيك والإضعاف، كي تبقى سوريا- كما كانت في عهد عائلة الأسد- تابعة، خاضعة، ساكنة، صامتة، تستجدي اللقمة، من خلال ربط مستقبلها بالمساعدات الخارجيّة. سيعملون على تقييد معصميها بأغلال البنك الدولي، والمساعدات المليارية الأمريكية. ولسوف يعملون على إشغالها بنفسها عن طريق تأجيج الفتن الطائفية واختلاق النزاعات الدموية. فهل سينجحون؟

في الإعلام الإسرائيلي والأمريكي والأوروبي وبعض الإعلام العربي، بدأت الأبواق، منذ اللحظة الأولى لدخول سوريا حقبة جديدة في تاريخها، الترويج الخبيث لاحتمال وقوع اعتداءات على الطوائف غير السنيّة، من دروز وعلويين ونصارى وأكراد، ناهيك عن الحديث السمج الممجوج عن حقوق المرأة، تلك القضية التي تطل كرأس الأفعى كلما نجح الإسلاميون في تولي السلطة. فعلوا ذلك في أفغانستان وفي مصر وفي ليبيا وفي تونس، ولن “يبخلوا” على سوريا بفيض “إبداعاتهم”.

نشرت صحيفة “معاريف” في موقعها الإلكتروني (الأربعاء) مقالا لبروفيسور أماتسيا برعام، وهو “خبير في الشؤون السورية”، بعنوان “الدروز أمام مذبحة في سوريا وعلى إسرائيل أن تفعل شيئا”. وقبل أسبوع نشرت وسائل إعلام إسرائيلية أخبارا مفادها أن دروز سوريا يفضلون العيش في إسرائيل بعد فرار الأسد وسيطرة الثوار. بطبيعة الحال فإن تلك الحفنة التي نُقل الكلام على لسانها بالصوت والصورة لا تمثل الدروز، بل يغلب الظن أنهم من عملاء الاحتلال الإسرائيلي الذين يستخدمهم لتمرير أجنداته الشيطانيّة. فإن غاية ما تبحث عنه المؤسسة الإسرائيلية بعد زوال النظام المفضل لديها هو بقاء سوريا ضعيفة، مفتتة، متعبة، مرهقة، مجزأة، حتى يتسنى لها تحقيق المزيد من السيطرة السياسية والعسكرية والجغرافية.

لقد أعلن القادة الجدد في سوريا، بسَمْتِهم الإسلامي الذي يشع ذكاء وفِطنة، أن حقوق جميع السوريين من جميع الطوائف والملل محفوظة، لا يسعى أحد إلى المسّ بها، وأنها ستكون شريكة في بناء البلاد وإعمارها ورسم مستقبلها. ورغم علمنا اليقيني بأن هذه هي أخلاق الإسلاميين التي لها في التاريخ القريب والبعيد ما تستضيء بنورها ظلمات المُبطلين، إلا أنه من المهم التنبيه إلى أن قادة سوريا اليوم أدركوا منذ اللحظة الأولى أن المنظومة الدولية، وعلى رأسها أمريكا وتحت جناحها تل أبيب ومِن خلفها أنظمة عربيّة معروفة بالاسم والوسم؛ بعضها سيحرّض وبعضها سيُموّل، سوف تلعب على الوتر الطائفي. لذلك فإن من أكبر المهمات التي تقع على عاتق القيادة السورية تفويت الفرصة عليهم، وسحب البساط من تحت أقدامهم، وإفشال هذا المخطط الشيطاني الذي من شأنه إحراق القطر السوري وإغراقه في صراعات داخلية لا أحد يعرف كيف تنتهي ومتى تنتهي. وما مشهد ليبيا واليمن ومصر وتونس عنا ببعيد.

2. لهجة الوصاية الأممية وابتسامة السوريّ:
ما إن سقطت حلب بأيدي الثوار حتى أدركت المنظومة الدولية الفاسدة- المفسدة أن شيئا ما خرج عن السيطرة، وأن أحداثا جساما بدأت تخطو خطواتها الأولى نحو تغيير صادم في المنطقة، سيلقي بظلاله -تأكيدا- على تلك المنظومة إلى درجة وقوع احتمال بنسبة كبيرة الوصول إلى نقطة لا عودة تسقط فيها هذه المنظومة. لا نخدع أنفسنا بأن هذا سيحدث غدا أو بعد غد، لكنّه واقع لا محالة في مرحلة ما. هذا يقين. وهذا ما أدركته تلك المنظومة. وبدلا من التعامل مع الحدث السوري بعقلانيّة، بدأت تحشر أنفها في كل زاوية من زوايا أحياء سوريا التاريخية، وتنفث سمومها في فضائها لتلوثه، بعد أن طهّره الشعب السوري من نتن قاذورات النظام الطائفي الدموي.

اجتمع في العقبة يوم الرابع عشر من الشهر الجاري “تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون”، وقد تقاسموا (أي أقسموا اليمين) بشرفهم الضائع وعقيدتهم المنحرفة أن يبيّتوا كل شرّ لسوريا، ثم يقولون: لا شأن لنا، ما شهدنا مهلك الشعب السوري، بل هو الذي أدخل نفسه في فتنة طائفية. يفعلون ذلك ويمكرون وهم لا يعلمون ولا يشعرون أن الله خير الماكرين، وأن ناقة سوريا ستخرج من صخرتها المتينة، لتكون عاقبة أمرهم أن الله سيدمرهم كما دمر قوم صالح عليه السلام، وستكون عروشهم خاوية بما ظلموا، وسيُنجي الله سوريا الشام من مكرهم.

ثم إن الدنيا كلها من غربها إلى شرقها ومن شمالها إلى جنوبها خرجت، عن بكرة أبيها، لتقدم النصائح لسوريا، وكأن الذين غيروا وجه سوريا وسيغيرون وجه التاريخ بحاجة إلى نصائح هي في حقيقتها لهجة وصاية ينطق بها لسان فسطاط الشر.

يتحدثون عن ضرورة تحقيق العدالة والشراكة التي تشمل جميع السوريين، وكأن العدالة تقطر من أطراف أصابعهم، وكأن الشراكة في بلدانهم تشكل نموذجا يحتذى وتُضرب به الأمثال. ويطالبون بدستور يحقق الرفاهية للشعب السوري ويثبّت أسس العدل، وكأن دساتيرهم مأخوذة من أمّ الكتاب، بينما ترى الدنيا كلها أن دساتيرهم ليست سوى بساطير تدوس الرقاب وسياط تُنزل على الشعوب أصناف العذاب.

يستمع السوريّ إلى “نصائح” العصابات، ويعضّ على النواجذ ويبتسم ساخرا من غبائهم. فهو يعلم أنهم لا يعلمون -وربما يعلمون- أن سوريا شيء مختلف، وأنه بعد الزلزال سيكون كل شيء مختلفا. وأن الزلزال الأكبر بات قاب قوسين أو أدنى.

3. النموذج التركي
يبدو لي من متابعة سلوك وتصريحات القيادة السورية الجديدة ستعتمد النموذج التركي الذي سار عليه أردوغان في إرساء أركان حكمه. وأعتقد أن هذا النموذج هو الأفضل في ظل المتغيرات الدولية، والتجارب الدامية التي حفرتها في خاصرة الأمة الثورات المضادة ضد ثورات الربيعي العربي.

إن سوريا الجديدة لديها الجاهزية والقابلية لتطبيق هذا النموذج، بخلاف دول مثل مصر وتونس وليبيا، التي شهدت ثورات الربيع العربي عام 2011، التي سارت في طريق مختلف، طبقا لظروفها في ذلك الوقت.

تحتاج سوريا إلى برنامج تنمية تدريجي طويل النفس، ينهض باقتصادها إلى أن تتعافى مما أصابها من كوارث اقتصادية في تحت حكم آل الأسد. وتحتاج إلى برنامج سياسي رصين يسد الطريق على المتربصين، وهم كثيرون، وذلك من خلال الابتعاد عن استعداء الدول، والانفتاح على العالم، بنديّة، دون تنازل ودون تبعيّة. وتحتاج إلى جيش حقيقي يحمي الوطن ولا يسلمه لأعداء الشعب السوري ولا يسعى إلى الانقلاب والهيمنة.

من أجل ذلك، ولكي ينجح النموذج التركي في سوريا من الضروري أن يسعى النظام الجديد إلى عدم تجاهل رغبة الشارع السوري في التغيير، ثم تحقيق العدالة في القصاص من مجرمي النظام البائد الذي أذاق الشعب الويلات. ومن المهم كذلك أن يؤسس الحكام الجدد لدولة حديثة يقودها الخبراء وذوو الاختصاص في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتنموية والتعليمية والنهضوية على اختلاف أشكالها. ومن المهم كذلك أن يتصدى الحكم الجديد بكل قوة لكل متربص، وأن يدافع عن مواقفه وسياساته بذكاء ودون مواربة.

إذا نجح الحكام الجدد لسوريا في إنزال النموذج التركي المتدرج على الأرض السورية، مع الأخذ في الاعتبار الاختلافات بين البلدين، فإن سوريا ستخرج قوية متينة متماسكة، تستطيع التقدم نحو المستقبل، بمجتمع قوي متماسك، لتواجه كل التحديات الخارجية؛ تلك التي تتربص بها على الحدود (كل الحدود)، وتلك التي تُضمر لها الشر من وراء البحار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى