أخبار وتقاريرمقالاتومضات

ملحمة الشعب السوري بين التحرر والظلم المستبد

ساهر غزاوي

منَّ الله على الشعب السوري بنهاية عهد نظام البعث وحكم آل الأسد، بعد أكثر من خمسة عقود من القمع والاستبداد. ويُعدّ يوم 8 كانون الأول 2024 محطة تاريخية فارقة في مسيرة سوريا، يومًا طال انتظاره من السوريين ومعهم شعوب عربية وإسلامية وأصحاب الضمائر الحية حول العالم. هذا اليوم لم يكن مجرد نهاية لحقبة مظلمة من الظلم والطغيان، بل بداية مشرقة لمستقبل تزدهر فيه قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. لقد سطر الشعب السوري بدمائه وتضحياته ملحمة نضال استمرت ثلاثة عشر عامًا، أظهر خلالها صمودًا أسطوريًا وإصرارًا لا يلين على تحقيق تطلعاته المشروعة، ليُثبت للعالم أن إرادة الشعوب لا تُهزم مهما اشتدت التحديات.

وفي هذه اللحظة التاريخية الفارقة، يتطلع السوريون إلى بناء دولة حديثة تُرسى على أسس العدل، وتسعى لتحقيق مشروع حضاري ذو أبعاد أخلاقية وإنسانية، يجسد قيم القرآن الكريم وقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” (المائدة: 8). يأمل السوريون في تأسيس نموذجٍ لدولة تحفظ الحقوق وتصون الحريات، دولة تعالج جراح الماضي وتبني مستقبلًا مشرقًا يقوم على العدل والتسامح. إنهم يأملون أن تكون دولتهم الجديدة بارقة أمل تُلهم شعوب العالم، وتحفزها للسعي نحو التحرر من أنظمة الاستبداد التي تسلطت على شعوبها بالحديد والنار، وأذاقتها مرارة القهر والاضطهاد.

إن دولة العدالة والحرية التي يحلم بها السوريون ليست مجرد تطلع وطني، بل رسالة أمل عالمية تؤكد أن إرادة الشعوب قادرة على كسر قيود الظلم مهما طال أمده. ومع ذلك، فإن فرحة السوريين ومعهم شعوب العالم بزوال عهد نظام الأسد، توازيها استعادة للذاكرة التاريخية لفصول مظلمة أخرى، مثل محاكم التفتيش في أوروبا. فقد استنسخ النظام السوري أبشع ممارسات تلك المحاكم، وأدار القمع والاضطهاد بطريقة ممنهجة خلف ظلمات السجون. كما كانت محاكم التفتيش في الأندلس رمزًا للاضطهاد باسم الدين، حيث مورست أشكال التعذيب والإعدام بدعوى حماية العقيدة، فإن “محاكم الأسد” تمت تحت ذريعة الحفاظ على “الوطنية”.

آلاف الأبرياء تم اعتقالهم وتعذيبهم في ظروف لا إنسانية بهدف إسكات أصوات المعارضة ودفن تطلعات الشعب. وقد كشفت المنصات الإعلامية صورًا مروعة من داخل هذه السجون، مثل غرف احتجاز مظلمة، ممرات خانقة، وطوابق تحت الأرض، جرى تصميمها بعناية لتكون أماكن للعزلة والتعذيب. هذه المشاهد تعكس حقيقة مظلمة هندستها عائلة الأسد على مدار عقود، لتدفن أحلام السوريين في الحرية والكرامة.

يرجع تاريخ بناء السجون وتوسعة مراكز الاعتقال إلى فترة حكم الأسد الأب، الذي مارس خلال الثمانينيات سياسة بوليسية مفرطة ضد معارضيه، وحوّل البلاد إلى مسلخ بشري كبير، حيث كانت مجزرة حماة عام 1982 إحدى أبرز فصوله الدامية. وعلى نهج أبيه، واصل الأسد الابن سياسة القمع، متجاوزًا جرائم الماضي، ليصبح عهده رمزًا للقتل الجماعي والاعتقال والتعذيب الممنهج. ومن بين مظاهر استبداده، تحويل ملاجئ الطوارئ في مدن دمشق وحمص وحلب إلى مراكز اعتقال، بعدما امتلأت السجون التقليدية. وتقدر الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية عدد المختفين قسريًا في سوريا بأكثر من 130 ألف معتقل، بينما تشير تقارير محلية إلى وجود نحو 300 ألف معتقل، قضى عدد كبير منهم تحت التعذيب. هذه الأرقام تكشف حجم المأساة الإنسانية التي عاشها السوريون، والتي ستظل وصمة في جبين الإنسانية.

إن هذا الإنجاز التاريخي للشعب السوري يظل شاهدًا على قوة الإرادة الإنسانية، ودليلًا على أن الظلم مهما طال، فإن مصيره الزوال. لقد علّم الشعب السوري العالم أن الكرامة أغلى من الحياة، وأن الحرية تستحق كل تضحية، ليبقى يوم 8 كانون الأول 2024 رمزًا لانتصار الأمل على اليأس وانبلاج فجر جديد يحمل معه وعودًا بمستقبل تسوده العدالة والكرامة.

لقد أظهر السوريون أن الشعوب قادرة على كسر قيود القهر والطغيان، وأن صوت الحق لا يُطفأ مهما تكالبت عليه المحن. كما يُعد هذا اليوم شهادة حيّة على أن التضحيات العظيمة التي قُدمت، والآلام التي عانى منها السوريون، لن تذهب هدرًا، بل ستُخلد في ذاكرة الأجيال، لتكون مصدر إلهام لكل من يسعى لتحقيق الحرية والعدالة في وجه الطغاة.

وبعيدًا عن التحليلات والسيناريوهات المتباينة التي تحيط بالمشهد السوري، بين التفاؤل الحذر والتشاؤم المستتر وحتى الحياد المتردد، يبقى الهدف الأسمى أن تكون سوريا موحدة وقوية، بعيدة عن أية مشاريع تقسيمية تهدد نسيجها الوطني. لقد كانت سوريا عبر تاريخها نموذجًا للتعايش والتنوع الديني والمذهبي والطائفي منذ زمن الفتح الإسلامي الأول، قبل أن تعبث به يد آل الأسد، التي أفسدت هذا النسيج، وأوغرت الصدور، ونشرت العداوة بين أبنائها. ومع زوال هذا النظام، نأمل أن تعود سوريا إلى وحدتها ولُحمتها التي لطالما كانت مصدر قوتها.

لن يتحقق هذا الحلم إلا عندما تنطلق القيادة الجديدة من رؤية وطنية شاملة، تُعلي مصلحة الدولة فوق مصالح الجماعات والفصائل والطوائف. فهذه العقلية هي حجر الأساس لبناء سوريا الجديدة التي ينشدها الجميع. إن إرادة الشعب السوري واضحة لا لبس فيها، وقد قال السوريون كلمتهم بصوت مدو لا تعلو فوقه أي كلمة أخرى: إن سوريا للجميع، ولكل أبنائها، بلا إقصاء أو تمييز، وبعقلية تُرسخ العدالة والمواطنة كأساس للحكم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى