ادخلوا دمشق متواضعين
الشيخ رائد صلاح
أرجو ألا تكون هذه المقاربة مبالغًا فيها، وهي مقاربة بين فتح مكة وفتح دمشق، ويوم أن أقول مقاربة فهذا لا يعني أن هناك تطابق بين الفتحين بنسبة 100%، بل هذا يعني أن هناك بعض أوجه الشبه القدرية، ويبقى لفتح مكة القيمة العقدية التي لا تعلوها قيمة، ويبقى لها الوزن التاريخي الذي لا يعلوه وزن، ويبقى لقيادة ورجال ذاك الفتح المكي الذي تمثل برسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم المنزلة الربانية التي لا تعلوها منزلة حتى قيام الساعة، ومع الأخذ بعين الاعتبار ما يُميز الفتح المكي فيبقى هناك مقاربة بينه وبين فتح دمشق في بعض المشاهد والمواقف وهاكم بعضها:
1) يوم أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة -حفظها الله تعالى- يوم الفتح المكي دخلها وهو ساجد على ظهر دابته حتى أن لحيته الشريفة كانت تُلامس ظهر الدابة، وهو مشهد تواضع لله تعالى، ومن تواضع لله تعالى رفعه الله تعالى، وفي المقابل دخل ثوار سوريا دمشق تحت شعار: (ادخلوا دمشق متواضعين)، وهو الشعار الذي صرح به أحمد الشرع الملقب بالجولاني ودعا كل هؤلاء الثوار أن يلتزموا به لدى دخولهم دمشق حفظها الله تعالى.
2) يوم أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة -حفظها الله تعالى- يوم الفتح المكي دخلها وهو يُردد من ضمن خطابه في ذاك الفتح: (اليوم يوم المرحمة)، وفي المقابل دخل ثوار سوريا دمشق وقد تواصوا بينهم أن يحفظوا كل مباني المؤسسات العامة بدمشق، وقد تكون هذه المباني قصورًا رئاسية أو مقرات وزارية أو مباني الأجهزة الأمنية أو مراكز ثقافية ومنتديات أدبية وفكرية ومسارح فنية وصالات معارض رسم وملتقيات شعرية وغيرها.
3) يوم أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة -حفظها الله تعالى- يوم الفتح المكي قال جملته المشهورة: (من دخل البيت الحرام فهو آمن ومن دخل بيته فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، وهكذا خيّم السلام والأمن والأمان على مكة وأهلها منذ اللحظات الأولى للفتح المكي، وفي المقابل دخل ثوار سوريا دمشق يغسلون شقاء وعناء وبلاء أهلها بماء التسامح والعفو عند المقدرة ومغفرة زلات الآخرين وإن عظُمت، وهكذا ما تمت مُجازاة أي سوري أو سورية على قبيح فعله عندما كان جزءًا من النظام الأسدي البائد منذ حافظ الأسد وصاعدًا، والذي كلما تذكره الشعب السوري تذكروا مذبحة حماة التي لقبت باسم: (مأساة العصر)، وتذكروا الفظائع التي ارتكبها رفعت الأسد في حق حرائر سوريا، وتذكروا الويلات التي أوقعها الجيش الأسدي على المخيمات الفلسطينية بلبنان، وتذكروا محاكم التفتيش التي تفننت بها أجهزة المخابرات الأسدية في السجون الأسدية التي غطت كل سوريا أبان النظام الأسدي غير المأسوف على اندثاره. ولعل أعداد تلك السجون فاقت عدد المدارس والمستشفيات بسوريا!!، ومع ذلك تجاوز ثوار سوريا كل هذه الجراح والآلام، وكأني بهم قد قالوا لكل زبانية النظام الأسدي المندثر: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وكأني بهؤلاء الثوار قد صاحوا منذ الثواني الأولى لدخولهم دمشق: (من دخل مساجد دمشق فهو آمن، ومن دخل كنائس دمشق فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن).
4) يوم أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة -حفظها الله تعالى- يوم الفتح المكي أمر الصحابي بلال بن رباح رضي الله عنه أن يصعد سطح الكعبة وأن يرفع الأذان وهو واقف على ذاك السطح، فصعد بلال رضي الله عنه على سطح الكعبة وصاح يؤذن: (الله أكبر.. الله أكبر)، وفي المقابل ها هي مآذن دمشق قد صدحت بالتكبير والتهليل استقبالا لثوار سوريا الذين ساروا إليها من إدلب ثم حلب ثم حماة ثم حمص ثم تقدموا عبادًا لله تعالى إلى دمشق، وها هي هذه المآذن تُرحب بهم، لا بصيغة: عاش الأسد إلى الأبد، ولا بصيغة: الأسد أو تخرب البلد، بل بهذه الصيغة الربانية السامقة الممتدة بين الأرض والسماوات: (الله أكبر.. الله أكبر).
5) يوم أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة -حفظها الله تعالى- يوم الفتح المكي، كان يحمل بيده عودًا فبدأ يخز الأصنام التي التفت حول الكعبة المشرفة بذاك العود وهو يُردد: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)، فكانت تلك الأصنام تتهاوى على الأرض وتتحطم صنمًا بعد صنم، وفي المقابل شهدت لحظات دخول ثوار سوريا إلى دمشق مشهد جموع غفيرة من أهلنا السوريين كانت تسقط تمثال حافظ الأسد على الأرض، ثم كانت تحيطه، ثم تلهو ساخرة بفتات ذاك الصنم الذي تمزق إربًا لا تضر ولا تنفع، ولا تُرى ولا تسمع، ثم إن تلك الجموع حملت رأس ذاك التمثال وطافت به، وكأن لسان حالها يقول: أإله مع الله يا حافظ الأسد، ويا باسل الأسد، ويا بشار الأسد.
6) يوم أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة المكرمة -حفظها الله تعالى- يوم الفتح المكي، كان بعض أهلها قد أسلموا قبل ذلك سرًا، وكانوا يخفون إسلامهم، فلما تمَّ فتح مكة جاهروا بإسلامهم، وعانقوا أفراد أهلهم الذين كانوا قد أسلموا وصبروا ثم هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ثم عادوا إلى مكة المكرمة -حفظها الله تعالى- يوم الفتح المكي، وفي المقابل كان هناك الكثير من أهل دمشق قد انحازوا سرًا إلى حرية الشعب السوري، وكرامة الشعب السوري، واستقلال الشعب السوري، وكانوا يخفون ذلك ولا يجاهرون به خوفًا من بطش بشار الأسد وزبانيته، ثم لما دخل ثوار سوريا إلى دمشق جاهروا بحقيقة انتمائهم إلى سوريا الأبية -تاريخًا وحاضرًا ومستقبلًا- فانطلقت زغاريد النساء السوريات من بين هؤلاء المبتهجين بحريتهم، وتجول الرجال يغمرهم الفرح من رؤوسهم حتى أخمص قدميهم في شوارع دمشق، وكأني بهم يخاطبون أرض دمشق وبيوتها ومقدساتها وأزقتها وأسواقها ويصيحون فيها مسرورين: لا خوف بعد اليوم يا دمشق، ولا ذل ولا هوان ولا استرقاق ولا استعباد ولا مهانة.
7) يوم أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة -حفظها الله تعالى- يوم الفتح المكي، أبقى على مفاتيح الكعبة أمانة عند عثمان بن طلحة، ولم يصادرها منه، وانتقلت هذه المفاتيح أمانة من عثمان إلى ولده ثم إلى ولد ولده ثم إلى ولد ولد ولده بلا توقف، وهكذا كان يوم فتح مكة، يوم حفظ العهود والأمانات والمواثيق، وفي المقابل عندما دخل ثوار سوريا إلى دمشق -حفظها الله تعالى- بعد أن دخلوا من قبل إلى سائر المدن السورية، أبقوا كل صاحب مسؤولية في مسؤوليته بداية من شرطي المرور الذي يحفظ نظام السير في الشوارع فكلٌ أبقوا عليه في منصبه دون منازعته هذا المنصب والاستعجال بمصادرته منه، وفي ذلك البرهان الساطع أن ثوار سوريا ما جاؤوا يُنازعون أهل سوريا على مناصبهم وكراسيهم ولا على أرضهم وبساتينهم، ولا على بيوتهم وأموالهم، بل جاء هؤلاء الثوار يحملون الحب لسوريا، ويحملون لها الخير والبر والنهضة والرقي والازدهار وفق مبدأ: شعب سوريا كأسنان المشط لا فضل لأحدهم على الآخر إلا بالتقوى.
8) ومع هذه المقاربات السبع التي أوردتها أعلاه إلا أنني أؤكد في الوقت نفسه أن الثورة السورية الآن في مخاض صعب أسأل الله تعالى ألا يطول وألا يتفاقم، فهي سوريا التي تحولت على مدار العقد الماضي إلى ساحة صدام بين مصالح قوى عالمية وقوى إقليمية ما بين عرب وعجم، ولا تزال كذلك، ولن تستسلم هذه القوى كلها بعد أن دخل ثوار سوريا دمشق حفظها الله تعالى، وستُحاول كل قوة من هذه القوى أن تدس أنفها في مسيرة بناء سوريا اليوم وسوريا المستقبل، وستحاول كل من هذه القوى استدراج إحدى مكونات الثورة السورية إلى جانبها، كيما تكون أداة طيعة لها للتأثير في مسيرة بناء سوريا بما يتوافق مع مصالح هذه القوة أو تلك، وقد يفرض ذلك ضبابًا في مسيرة هذا البناء، وقد يوتر الأجواء، وقد يصطنع خلافات سورية داخلية مُتشنجة، وقد تقود هذه الخلافات إلى صدامات مؤسفة، ولتعلم الثورة السورية الآن أن كل دول العالم وشعوبها تُتابع كل مسيرة هذه الثورة، ولذلك فهي مُطالبة أن تتحلى بالرؤية الوسطية التي تجمع أهل سوريا وتشد عضد بنيان الصف الداخلي السوري، لأن متانة الصف الداخلي هي رأس المال المطلوب -بعد توفيق الله تعالى- لنجاح الثورة السورية، وهو درس مُستفاد من الفتح المكي.
الثورة السورية الآن وغدًا وفي المستقبل مُطالبة أن تنتقل بسوريا من مرحلة الأحقاد الداخلية والضغائن الداخلية التي غرقت فيها سوريا منذ اليوم الأول من مسيرة النظام الأسدي، وأن تسير بسوريا وبكل شعبها وبكل تعددياتها الدينية، وبكل تعددياتها العرقية وبكل تعددياتها الطائفية وبكل تعددياتها السياسية (التي تدور مع الثوابت السورية حيث دارت)، نحو سوريا الأم الواحدة التي تحتضن كل هذه الفسيفساء الممتدة أفقيًا وعموديًا في المجتمع السوري والجغرافية السورية والثقافة السورية عساها أن تصوغ من كل ذلك سوريا المطهرة من الثارات الدموية والنعرات العمياء التي أنهكت سوريا وأدمت طفولتها وأمومتها ومنزلتها على مدار النظام الأسدي، ويجب أن تكون سوريا بعد فتح دمشق، ليست سوريا التي كانت قبل ذلك، وأنا وكل أحرار وحرائر الأرض يدعون لسوريا أن تتسامح فيما بينها على ما كان وأن تتغافر، وأن تحيل السجون الأسدية العلنية والسرية إلى ملتقى المحبة والسلم الأهلي وإفشاء السلام الداخلي وتجذير المصلحة الوطنية ثم الانفتاح الراشد نحو الحاضر العربي والحاضر الإسلامي والحاضر العالمي وبالله تعالى التوفيق.