إقرار يعالون بالتطهير العرقي استفز الجيش و”المتخاذلين”
فتح وزير الأمن الإسرائيلي الأسبق موشي يعالون عش الدبابير الأكبر مؤخرا باتهامه إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وتطهير عرقي في قطاع غزة، بعد أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو ووزير الأمن السابق يوآف غالانت.
وكان صاعقا، من الناحية الإعلامية، إطلاق مثل هذه الاتهامات من هذا الشخص الذي كان رئيسا لأركان الجيش ووزيرا للأمن في حكومات ليكودية. وقد كشف في مقابلة إذاعية أن إسرائيل تنفذ “تطهيرا عرقيا”، وأن هناك خططا لطرد الفلسطينيين من شمالي القطاع تمهيدا لإعادة إنشاء مستوطنات مكانهم.
وبيّن أنه بذلك يتحدث باسم قادة عسكريين يعملون في شمالي القطاع ويبدون قلقهم مما يجري. وشدد على أن هؤلاء القادة “يتعرضون لمواقف تهدد حياتهم ويواجهون معضلات أخلاقية”، موضحا أنهم قد يتعرضون لملاحقات من قبل المحكمة الجنائية الدولية. ولم يتوقف عند ذلك، بل اتهم -استنادا إلى معطيات موثقة لديه- إسرائيل بأنها ترتكب جرائم حرب في القطاع.
كما أعلن يعالون، في مقابلة تلفزيونية، أن إسرائيل تنفذ تطهيرا عرقيا في قطاع غزة، وأنها “بالطريقة الدائرة، تجرنا إلى الاحتلال والضم والتطهير العرقي. انظروا إلى ما يجري في شمال القطاع، ترانسفير، ويمكنكم إطلاق أي تسمية عليه، من أجل الاستيطان هناك. هذه هي المسألة”.
وأضاف أنه “محظور علينا أن نحتار، لأن من يريد حيرتنا هو من يقودنا حاليا إلى ما لا يقل عن الخراب”. فإسرائيل في نظره “ليست في الطريق نحو التطهير العرقي، وإنما هي هناك فعلا، حاليا”. وتابع “ما الذي يجري هناك؟ لم تعد بيت لاهيا موجودة. وحاليا يعملون في جباليا، وتحديدا يطهرون المنطقة من العرب”.
وكانت ذروة كلام يعالون هي “إنني كابن لعائلة نجت من المحرقة النازية سألت نفسي عما كنت سأفعل لو أنني كنت ضابطا في جيش هتلر. وقلت لنفسي إنني آمل لو كنت سأرفض. وأنا لا أساوي بين الجيش وجيش هتلر، ولكني أتحدث عن الوضع الشخصي. هناك أوضاع ضميرية يدفع فيها المرء الثمن. واضح أنني كنت سأذهب إلى السجن”.
وما إن شاع كلامه حتى لاحقته الإدانات من كل ألوان الطيف السياسي الصهيوني، حكومة ومعارضة. كما أن الجيش نفسه، الذي حاول يعالون الحديث باسم عدد من قادته، لم يصمت، واعتبر تصريحات يعالون مساسا بسمعته “الطيبة”.
فمثل هذا الكلام يضرب في الصميم منهج الصمت الدارج على طول تاريخ الكيان. وكانت الضربة قوية لأنها أتت هذه المرة من قائد عسكري قاد حروبا، ومن وزير حرب أمر بشن حروب.
منذ إعلان دولة إسرائيل في العام 1948 وقبلها، درج قادتها على التمييز بين الفعل والتصريح، وتفننوا في غسيل الكلمات بحيث يسهل تحويل الباطل إلى حق. واشتهرت حرب 48 بكونها حرب التطهير العرقي الأبرز في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن تحت شعار استقلال دولة اليهود.
وتشهد كل الوثائق التي جمعها المؤرخون الجدد، وعلى رأسهم إيلان بابيه، على أن التطهير العرقي كان سياسة منهجية اتبعتها المنظمات الصهيونية، مستخدمة وسائل الطرد والتدمير والمجازر. لكن كل هذه السياسة تم إخفاؤها بعناية باستخدام كل وسائل الدعاية والإعلام التي جعلت من إسرائيل “الوليدة” مجرد حمل وديع يدافع عن نفسه ضد ذئاب بربرية عربية.
ودرجت كل حكومات إسرائيل المتعاقبة على التمسك بهذه المنهجية طوال حروبها على محيطها العربي في الخمسينيات والستينيات وصولا إلى حرب “السيوف الحديدية” الدائرة حاليا. بل إن صحيفة هآرتس كشفت مؤخرا من جديد عن المناقشات التي دارت في حكومات حزب العمل فور انتهاء حرب 1967. وكتبت: “تقليص عدد السكان”، و”إخلاء البيوت”، و”النقل”، و”الطرد”، و”التهجير”، و”الإفراغ” وحتى “ترانسفير”.
طيف واسع من الكلمات استخدمها رؤساء حكومات في نقاشاتهم التاريخية في الستينيات والسبعينيات حول مستقبل الفلسطينيين في قطاع غزة. كما أن الاطلاع على محاضر الجلسات الموجودة في أرشيف الدولة يظهر أن توق اليمين المتطرف الحالي، “تشجيع الفلسطينيين على الهجرة من قطاع غزة”، إنما يردد فقط صدى أفكار واقتراحات تم طرحها للنقاش في الماضي من جانب رؤساء حكومة ووزراء وزعماء في حكومات اليسار، الذين كانوا ينتمون لجيل مؤسسي الدولة.
إدانات
وقد تبارى كل قادة المجتمع الصهيوني في إدانة تصريحات يعالون والتشكيك فيه. وأعلن الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ أننا “نصد بشكل متواتر فرية الدم ضدنا، التي تتهم الجيش الإسرائيلي بتنفيذ إبادة شعب أو التطهير العرقي. هذه أكاذيب مطلقة. فجنود إسرائيل ليسوا قتلة وهم لا ينفذون تطهيرا عرقيا. الجيش الإسرائيلي هو جيش أخلاقي، يعمل وفق أوضح قواعد القانون الدولي والأعراف الإنسانية الملزمة، حيث يرافق كل وحدة استشارة قانونية دقيقة”.
وحمل زعيم المعارضة يائير لبيد على كلام يعالون قائلا “لا تطهير عرقيا، ويعالون أخطأ وما كان ينبغي له أن يقول ما قال”. ومع ذلك حمل على الوزراء الداعين للاستيطان في غزة، وقال إن “سموتريتش يتحدث صراحة عن استيطان واسع في القطاع. هؤلاء يريدون الاستيطان في غزة وأن يبقى الجنود الإسرائيليون يقتلون إلى الأبد. هذا هوس مسيحاني”.
أما زعيم المعسكر الرسمي بني غانتس، فقال إن “الاتهامات على لسان صديقي يعالون للجيش الإسرائيلي ونشاطات الجيش في الحرب بعيدة بعد الشرق عن الغرب”. كما أن زعيم حزب الديمقراطيين يائير جولان رفض كلام يعالون وقال “لا أشارك يعالون هذا التقدير وأنا مقتنع بأن الجيش الإسرائيلي يعمل وفقا لقواعد الأخلاق الإنسانية والقانون الدولي”. وكذلك قال زعيم “إسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان.
وبعد يومين من تصريحات يعالون، رد الجيش على قائده الأسبق بلسان الناطق باسمه “الجيش الإسرائيلي يعمل وفقا للقانون الدولي، ويخلي السكان وفقا للضرورات العملياتية وبشكل مؤقت، ولغرض حمايتهم. إن الجيش الإسرائيلي يرفض الاتهامات الخطيرة بشأن ارتكابه تطهيرا عرقيا في قطاع غزة والتي تمس بالجيش وجنوده”.
وكان وزير الأمن السابق يوآف غالانت أعلن أن “أقوال يعالون هي كذبة تساعد أعداءنا وتمس بإسرائيل”، وأن “الجيش الإسرائيلي يعمل بموجب المقاييس الأعلى القابلة للتنفيذ في الحرب المركبة والقاسية التي فرضت علينا”. وأضاف أن “التعليمات والأوامر صدرت دوما وفقا للقانون وروح الجيش الإسرائيلي. أقترح على يعالون ألا يشين ماضيه الأمني، أن يدرس الحقائق، أن يتراجع ويعتذر لمقاتلي الجيش الإسرائيلي”.
كما أن عضو الكنيست عن الليكود ألياهو ربيبو تقدم بشكوى لدى الشرطة ضد يعالون في أعقاب تصريحاته حول التطهير العرقي. وادعى أن هذه التصريحات تخالف البند 103 من قانون العقوبات (الدعاية الانهزامية)، ويمكن أن تضعضع معنويات جنود الجيش وصمود المجتمع في زمن الحرب. وقال “عندما يتحدث يعالون عن تطهير عرقي وترانسفير، فإنه ليس فقط ينشر أكاذيب، بل يمس بجيش ودولة إسرائيل. وجنود الجيش في ميادين القتال يسمعون هذا الكلام ويفكرون مرتين قبل أن ينفذوا الأوامر. مثل هذه الأقوال تزعزع الانضباط العسكري وقد تعرض أمن الدولة للخطر”.
رد على الحملة
ولم تفلح الحملة الدعائية المنتقدة في دفع يعالون للتراجع عن موقفه، بل إنه استغل هذه الحملة لعرض موقفه حتى من زعماء المعارضة “المتخاذلين”، حسب رأيه. وفي تغريدة كتبها على منصة “إكس” كتب “أفهم أن ماكينة السم نجحت (بدعم المتخاذلين) في تضليل جهات ليست من الائتلاف الحكومي وادعاء أنني اتهمت الجيش الإسرائيلي بنوايا تنفيذ تطهير عرقي في شمالي القطاع. وأنا اتهمت الساسة: سموتريتش وبن غفير ورفاقهما في الائتلاف الذين أعلنوا عن الاستيطان اليهودي في القطاع بدلا من الغزيين الذين يتم إخلاؤهم. هذا تطهير عرقي”.
وأضاف أنه “بوسع رئيس الحكومة الآن حلّ المشكلة عن طريق قرار حكومي واضح، يقضي بأن إخلاء الغزيين عمل مؤقت ولأغراض عملياتية، وأنه غير مسموح باستيطان يهودي مكانهم. هذا سيزيل الشكوك بشأن نوايا الحكومة، ويبعد الاتهام عن قادة وجنود الجيش باقتراف جرائم حرب”.
وطبيعي أن يحمل على يعالون كل وزراء حكومة نتنياهو وعلى رأسهم نتنياهو نفسه ووزير الأمن السابق غالانت، الذي رأى في التصريحات تسويغا لمذكرتي الاعتقال. كما أن وزيري اليمين المتطرف سموتريتش وبن غفير وجدا في التصريحات فرصة لحملات مشددة ضد معارضي الحرب ولمصلحة الاستيطان.
لماذا تصريحات يعالون؟
يعالون في نظر عيناب شيف في “يديعوت أحرونوت” تحوّل إلى بطل الساعة الإعلامي، لكن الأمر لا يتعدى كونه “مادة لكوميديا سياسية ناجحة: جنرال قديم مع جنون عظمة يفقد مكانته عقب مشعل نار اذكى منه. ومنذئذ مستعد لأن يصرخ بأنه في الخارج يسود الليل حتى حين تكون الساعة العاشرة صباحا. لكن ما يثير الضحك أقل هو صرخات النجدة وكأن أقوال يعالون عن “التطهير العرقي” في غزة جاءت كالبرق في يوم صافٍ، ولا يدور الحديث عن أماني بعض من الوزراء الكبار ممن يمسكون بعضهم بالحكم من مكان حساس له”.
وذكّرت شيف بالوثيقة التي عرضتها وزارة الاستخبارات الإسرائيلية في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2023 والتي أوصت بأن “تعمل إسرائيل على إخلاء السكان المدنيين (في غزة) إلى سيناء”، حيث تقام “مدن خيام” في المرحلة الأولى وبعد ذلك “مدن في المنطقة المعاد إسكانهم فيها من جديد”.
وأضافت أنه “منذ أن دخلت إسرائيل إلى غزة، وفي هذه الأثناء يقع أمران دراماتيكيان: الأول هو أن الجيش الإسرائيلي بالفعل يخلي السكان المدنيين في شمال القطاع، ويفرض حصارا في المنطقة وينفذ أعمال تموضع في الجبهة (بناء بنى تحتية وشق طرق وما شابه)؛ والثاني هو أن الأماني في اليمين للسيطرة على شمال القطاع وإقامة مستوطنات هناك تنال الزخم. تتلقى المزيد فالمزيد من التعابير العلنية، وبالمقابل لا يرد عليها برفض جارف من رئيس الحكومة”.
وفي “هآرتس” تكتب شيرين فلاح “صعب نجاح يعالون في إسماع صوت عقلاني”. وفي نظرها لم ينطلق يعالون من قلق أو تعاطف يتعلق بأهالي غزة من ضحايا العدوان وإنما من خشيته على مكانة إسرائيل في العالم ومن المحاكمات الدولية. وأشارت إلى أنه لو كان 10 أشخاص مثل موشي يعالون، لديهم الشجاعة الكافية للصراخ والقول مرة تلو الأخرى الأمور التي لا تتجرأ وسائل الإعلام الإسرائيلية الجبانة على قولها لجمهور المشاهدين، لكان الوضع سيكون مختلفا، وربما كنا وقعنا على صفقة تبادل”.
وخلصت إلى أنه “بعد مرور 50 سنة، المؤرخون سيحققون في هذه الجرائم، وسيحاولون اكتشاف وفهم ما حدث وسيذكرون أقوال يعالون. بالتأكيد هم سيقتبسون كلامه وسيقولون بأنه حذر ورأى. الغفوة الأخلاقية التي يعيش فيها الإسرائيليون غير معقولة، ومن خلالها نجح يعالون في إسماع صوت عقلاني بين آلاف أصوات الانتقام التي تنفي حدوث تطهير عرقي في غزة. يجب الاستماع إليه”.
ومع ذلك لا ينبغي لنا أن ننسى أن كثيرا من جرائم الحرب في قطاع غزة في حروب ليست بعيدة مسجلة باسم يعالون، الذي ربما هزته أحجام الجرائم أكثر من الجرائم نفسها.