إلى ذوات المحبرة..
ليلى غليون
أن ييسر الله تعالى لك أسباب وسبل العمل في دعوته فهذا من أشرف المراتب وأجل المناقب.
وأن تلتحق في ركب دعوة الله سبحانه وتكون ممن يقارعون فلول الظلام والشر والباطل، فلا شك أنك من المحظوظين الذين يرتعون في رياض محبة الله التي اختصها الله سبحانه لأحبابه.
فالحمد لله ثم الحمد لله أن منّ وتفضل علينا بنعمة الهدى والسير والعمل في دعوته، ندعو إلى الله تعالى بما يسر لنا من إمكانيات وأدوات وتخصصات ومواهب (فكل ميسر لما خلق له) كما أخبر بذلك نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم.
فالدعوة لا تقتصر على أسلوب واحد أو وسيلة واحدة، فهناك من يدعو بلسانه، وهناك من يدعو بعلمه وفكره، وهناك من يدعو باختراعاته، وهناك من يدعو بصمته بأخلاقه بهيئته حتى بمشيته، وهناك من يدعو بقلمه يكتب بمداد الإيمان والعزة كلمات الحق ليصنع منها كلمات نارية تجابه أقلام الباطل التي غدت منشوراتها ومطبوعاتها كالجراد المنتشر، بل كالطوفان الجارف في مسعى مسعور ورهيب لجرف كل فضيلة وسحق كل خير، خاصة ما نراه اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي.
فما أعظم أن تسخر قلمك، تلك الأداة الصغيرة في طاعة الله، وأن تستشعر أمانة الكلمة وأنك محاسب على كل كلمة تكتبها، فلست أبالغ لو قلت إن القلم اليوم يعاني أزمة أمانة مضيعة ومفقودة عند الكثيرين ممن سخروا أقلامهم للكسب الحرام والتزلف والنفاق وتغييب الحقائق.
وما من كاتب إلا سيفنى ويُبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء يسرك يوم القيامة أن تراه
فالساحة الكتابية اليوم، خاصة الصحافة الالكترونية والتي أصبحت هي السائدة والمهيمنة على منصات التواصل الاجتماعي، تعج عجًا ببائعي الكلام أي كلام من أصحاب الفكر المنحرف والأقلام المسمومة الذين نصبوا أنفسهم أعداء للفكرة الإسلامية وبثوا سموم أفكارهم في مواقع لا تعد ولا تحصى، نمقوا فيها الكلمات وزخرفوا فيها الصور وصنعوا منها وشاحا زيفوا به الحقائق لمجابهة الحق وأعوانه.
لذا فإن واجب الوقت ينادي أرباب وربات المحبرة والأقلام، وأخص بالذكر الأخوات العاملات في حقل الدعوة كل في موقعها للنزول إلى الميدان الكتابي لإكمال المسيرة الإعلامية واحتلال مساحة واسعة منه، لأنه ليس هنا شيء اسمه الفراغ، فإما الأقلام الحرة النزيهة التي تكتب للخير والفضيلة، وإما الأقلام التي شاخت وشاب حبرها ولا تزال تساند الباطل، فهل نترك الساحة لهؤلاء؟!
وإني أخص الأخوات بالذات بالنداء، لما وجدته وأجده خلال تجربتي في المجال الكتابي والتي لا أزال أخوضها منذ أكثر من ثلاثين عامًا، من شح في الأقلام النسائية التي ترتاد الساحة الكتابية رغم وجود كفاءات كبيرة وتخصصات رائعة في هذا الفن، وإني على يقين أن هناك العديد من الأقلام الحرة الراقية التي بحاجة لأن تجرد من أغمادها وتعتلي صهوة الكتابة، فما فائدة الأقلام إذا ظلت حبيسة الأغماد، بل إن الجفاف سيكون مصير مدادها في يوم من الأيام.
تذكرن أخواتي أن الحاجة اليوم لأقلامكن كبيرة، وأن بأقلامكن وكتاباتكن التي لا تخرم المروءة ولا تثرم الرزانة ولا تخدش الحياء، تزرعن الفضيلة وتجتثثن الخبث وتَمدُّن جسورًا من الوعي والعلم والمعرفة للسير في درب الله على بصيرة وتساهمن في حركة الإصلاح الأسري والمجتمعي والدنيوي والتي نحن بأمس الحاجة إليها في أيامنا العصيبة هذه، فلا يخفى عليكن ولا على أحد مرارة الواقع الذي تعيش فيه مجتمعاتنا.
تذكرن أن معركتنا اليوم هي معركة فكرية بالدرجة الأولى والفكر لا يواجه إلا بفكر والقلم لا يواجه إلا بقلم.
وإنني إذ ينبض قلبي بنبضات الشكر والحمد لصاحب المنة والفضل الذي أكرمني وأعانني طيلة هذه الأعوام بقلم سال مداده على صفحات دعوتي الناصعة، وإني إذ أحمده تعالى أن أعانني ووفقني أن آخذ هذا القلم بحقه وأن أجتهد أن أكتب ما يرضيه تعالى مع ثقل الأمانة التي يتقلدها كل صاحب قلم. ولكن وكما قال سيد قطب رحمه الله: “كل شيء زائل، وكل شيء ذاهب، المال والجاه، والسلطان والقوة، والحياة والمتاع، وهذه الأرض ومن عليها، وتلك السماوات وما فيها ومن فيها، وهذا الكون كله ما نعلمه منه وما نجهله، كله… كله هالك فلا يبقى إلا وجه الله الباقي متفردًا بالبقاء).
نعم كل شيء زائل وسنمضي نحن وستمضي أقلامنا وستنطلق غيرها تكمل المشوار وتُبقي الراية الإعلامية الحرة النزيهة خفاقة، نعم سيجف مداد وسيفور آخر وستظل سفينة الدعوة تمخر عباب البحار والأمواج تسير باسم الله مجراها ومرساها.
إن الأمل يظل معقودًا بل الواجب يحتم عليكن يا صاحبات المحبرة النزول إلى الساحة الكتابية وإشهار أقلام الحق، فما أكثر أقلام الباطل في هذا الزمان وما أجرأها على طمس الحقيقة.
فتعالين واغرسن بأقلامكن فسيلًا طيبًا لتحصدن رطبًا أطيب، فلا يستوي عند ذي الألباب قلمان قلم يكتب ويرمي بالزلل وبلا بصيرة ولا يرعى حرمة، يسيل بالكذب والبهتان والتصريح بالعورات والفضائح، وقلم يكتب بالحق وللحق
وللفضيلة وللخير وللسلام، مستشعرًا رقابة الله جل وعلا وثقل وحجم المسؤولية والأمانة التي يحملها ليضيء الطريق بمداده الوهاج:
قلمان لو تعرفهما لعرفت نوع مداد
قلم الرزين وعكسه قلم السفيه الصادي
فاختر لنفسك واحدا ينجيك يوم معاد
وصدق الله العظيم القائل: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث).