أخبار رئيسيةدين ودنياومضات

فضحوا تحالف “فسقة الفقهاء” و”أمراء السوء” و”صوفية الرجس” و”قضاة الرشا”.. كيف ضمن علماء الإسلام استقلاليتهم عن السلطة؟

كان والد الإمام المحدّث يزيد بن زُرَيْع (ت 183هـ/809م) واليًا على مدينة الأُبُلّة في جنوب العراق، وعندما مات ترك لابنه يزيد ثروة هائلة فما أخذ منها شيئا لأن والده كان موظفا لدى الدولة! وكذلك فعل أبو القاسم الباجي الأندلسي (ت 493هـ/1100م) حين “تخلى عن تركة أبيه -لقبوله جوائز السلطان- وكانت وافرة”!!

هذه الروايات العجيبة -التي نقلها الإمام شمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘سير أعلام النبلاء‘- تكشف مدى صلابة الاشتراطات والظروف القاسية التي كانت تفرضها الجماعة العلمائية لضبط علاقة المنتسبين إليها بالسلطة.

وهي اشتراطات ترمي لبناء موقف مستقل للعلماء في التاريخ الإسلامي، الأمر الذي أهّلهم لأن يظلوا قرونا عديدة حماةً لسلطة التشريع والإفتاء والقضاء ومرافق التعليم ومنابر التوجيه؛ فقد حرص العلماء دومًا على صناعة مسافات بين الجماعة العلمائية وغيرها من المؤسسات السلطانية، فكانت هذه الجماعة –في تيارها العام المعبِّر عنها- أقربَ إلى فلك الأُمّة والمجتمع، وكان فقهاء المسلمين يعملون بصورة مُمَنهَجة ومُمَأْسَسَة على تعظيم الأُمّة وتحجيم الدولة، كما تفيد بذلك مقولاتهم الفقهية ومواقفهم التاريخية.

فقد فطن العلماء إلى أن أهم أدوات القوة التي يمتلكونها تتمثل في الجماهير التي تراقبهم جيدا، وتتأثر بمدى خشيتهم وزهدهم وطريقة عيشهم، وأن تلك المعاني المجسدة هي التي تجذب المجتمعات إلى العلماء فتتبعهم وتقلدهم وتنزل فتاويهم في مجرى حياتها تصوُّرا وتصرُّفا. وبالتالي فإن أي مساس بعناصر الخشية العلمية هو مساس بتلك الشعبية، وسيؤدي بطبيعة الحال إلى ضعف الثقة بالعلماء وإضعاف تأثيرهم في المجتمع.

والحقيقة أن هذه الوضعية -التي يمكن تسميتها بـ”المسافة الآمنة” من السلطة- قد قوَّت مكانة علماء الاسلام أكثر عند السلطة أيضا؛ فالحكام بطبيعتهم يتحسبون لأي نفوذ ينافسهم على استقطاب ولاء الناس، ولكل فكر يأخذ موضعه المؤثِّر على الرأي العام، ولذا فإنه بهذا البعد السلوكي الزاهد تعززت مكانة العلماء عند هؤلاء الحكام.

وليس شرطا أن تأخذ “المسافةُ الآمنة” -التي يفرض العالِم وجودها بينه وبين السلطة- وضعا ماديا يتحدد بالعزلة الشخصية والنأي بالنفس عن الاقتراب من أنظمة الحكم، بل يمكنها كذلك أن تتخذ شكلا نفسيا بانفصال شعوري يكون حاجبا للفقيه عن الانزلاق في مسارب السلطة، حتى وإن قرر -مع ذلك الانفصال الشعوري- العملَ معها أو تقديم خدماته العلمية عبر وسائلها ووسائطها. على أنه ثمة اختلاف واسع وقديم بين العلماء في هذا الأمر بين قبول ورفض، ولكنهم -في كل الأحوال- لم يختلفوا على وجوب التحلي بشروط النزاهة والاستقامة، سواء اختاروا القرب من السلطة أو آثروا البعد عنها.

ومن الضوابط الصارمة التي اتخذتها الجهات العلمية لتأكيد تلك المسافة الآمنة من السلطة؛ الحرصُ على إعمال مبدأ النقد الذاتي الذي كان يمارسه العلماء من أجل تحصين حمى العلماء من تدخلات السلطة، وكذلك لإخراج العناصر العلمية الفاسدة من داخل صفوفهم.

وقد استوجبت عملية النقد الذاتي تلك توافر مدونات سلوكية ظل أهل العلم يتحاكمون إليها، بعضها جاء ضمنيا في كتبهم العلمية مثل كتاب «إحياء علوم الدين» لأبي حامد الغزالي (ت 505هـ/1111م)، والبعض الآخر خُصصت له مؤلفات كما فعل محمود بن إسماعيل الخَيْربَيْتي (ت 843هـ/1439م) في كتابه «الدرة الغراء في نصيحة السلاطين والقضاة والأمراء»، وكذلك جلال الدين السيوطيّ (ت 911هـ/1505م) في رسالته «ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين».

وفي هذه المقالة؛ سنركز على رسم معالم تلك المساحة التي حرص الفقهاء على وضعها بين الجماعة العلمائية والسلطة السياسيّة تحديدًا، وتقديم خلاصة مركزة في مراحل تطور العلاقة بين العلماء والسلطة؛ مما ضمن للعلماء ما يحتاجون إليه من استقلالية في الرؤية والرأي والموقف، وكفل لهم مكانة سامية في ضمير الأمة ومنحهم فرصا عظيمة لأن يقدموا لها نتاجًا علميا محترمًا ورصينًا، ظل بعيدًا –في أغلبه- عن أيّة ميول متحيزة وأهواء شخصية. مع أنه لا يُمكن نفي أنّ من الفقهاء من دار -في عصرٍ محدَّد أو مصرٍ معيَّن- في فلك السلطة السياسيّة دورانًا منهجيا كاملًا، أو دورانًا مصلحيًا دائما أو مؤقتّا.

تطور تراكمي
أخذت علاقة الفقهاء بالسلطة منحنى تاريخيا متطورا منذ انتهاء عهد الرسالة؛ فقد كان النبي ﷺ طوال عهد رسالته جامعا بين النبوة والإمامة أو “إمامَ الأمَّة والمنفرد بالرئاسة الدينية والدنيوية” وفق تعبير الإمام الباجي (ت 474هـ/1081م) في كتابه ‘المنتقَى‘.

وبانتقاله ﷺ إلى الرفيق الأعلى مضى الخلفاء الراشدون على سنته يجمعون بين الرئاسة والفتوى؛ وفي ذلك يقول الإمام الغزالي في ‘إحياء علوم الدين‘: “اعلم أن الخلافة بعد رسول الله ﷺ تولاها الخلفاء الراشدون المهديون، وكانوا أئمة علماء بالله تعالى فقهاء في أحكامه، وكانوا مستقلين بالفتاوى في الأقضية، فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلا نادرا في وقائع لا يُستغنى فيها عن المشاورة، فتفرغ العلماء لعلم الآخرة وتجردوا لها وكانوا يتدافعون الفتاوى”.

ومع التحولات السياسية وتبدل طبيعة الحكم من الخلافة بالشورى إلى المُلك بالتغلب؛ صعد إلى سدة الحكم خلفاء حظهم من العلم الشرعي قليل، وبدأت تتمايز شؤون الحكم والإدارة عن أحوال الفقه والفتوى، وتغيرت النظرة إلى مفهوم “ولي الأمر” باعتبار أن الوصول إلى السلطة لم يعد برضا الأمة، وإنما صار بالقوة الغاشمة التي لا تستوجب طاعة للأمراء إلا في حدود ضرورة حفظ النظام العام ووحدة المجتمع، وبشرط أن يكون ما يأمرون به داخلا في المسموح به شرعا.

ويستمر الغزالي في رصد تلك المتغيرات قائلا: “فلما أفضت الخلافة بعدهم (= بعد الخلفاء الراشدين) إلى أقوام تولوها بغير استحقاق -ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام- اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء، وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم لاستفتائهم في مجاري أحكامهم”.

وهنا يرصد الغزالي ظهور فئتين من العلماء: الأولى حافظت على سيرة الصحابة والخلفاء الراشدين، فكانوا يهربون حين تطلبهم السلطة ليتولوا الفتوى والقضاء، حيث “كان قد بقي من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صفْوَ الدين ومواظب على سمْت علماء السلف، فكانوا إذا طُلبوا هربوا وأعرضوا”.

وأما الفئة الثانية فهم الذين لاحظوا طلب السلطة الشديد على العلماء، فقصدوا بإحراز العلم توظيفَه من أجل تحسين مكانتهم الاجتماعية والسياسية، خاصة بعد أن “رأى أهل تلك الأعصار عِزَّ العلماء وإقبال الأئمة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم، فاشْرَأبُّوا لطلب العلم توصلًا إلى نيل العز ودرْك الجاه من قبل الولاة، فأكبوا على علم الفتاوى وعرَضوا أنفسهم على الولاة وتعرفوا إليهم، وطلبوا الولايات والصِّلات (= المكافآت المالية) منهم، فمنهم من حُرِم ومنهم من أنجَح، والمُنجِح لم يَخْلُ من ذُلِّ الطلب ومهانة الابتذال، فأصبح الفقهاء -بعد أن كانوا مطلوبين- طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم”!!

إن هذا التحليل التاريخي الذي كتبه الإمام الغزالي يوضح كيف أن علاقة العلم بالسلطة لم تكن على نهج واحد طوال أعصر الإسلام. وأن الوظيفة السياسية والفقهية كانتا رتقًا في زمن النبي ﷺ والخلفاء الراشدين، وأن الفتق الذي وقع بينهما سببه تمدد الدولة الإسلامية وتوسع العمران، وظهور حاجات الناس إلى القوانين والفتاوى والتشريعات، وهو أمر طبيعي لا غنى عنه، لكن ظلت الخشية قائمة من أن تقع المعرفة العلمية تحت سيطرة السلطة، وهو أمر كان مبعثَ حساسية شديدة عند العلماء.

مراحل مفصلية
هذا ويمكن تلخيص تحولات أنماط العلاقة بين العلماء والسلطة في ثلاث محطات كبرى، هي:
1- مرحلة العلاقة الفردية (الشخصية): وقد بدأت منذ نهاية عصر الصحابة وحتى مطلع القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، وكانت تتسم بإقامة علاقة بين السلطة وأفراد من كبار العلماء، تقربهم وتستفتيهم وتستشيرهم. وهي مرحلة الخلافة الجامعة (الأموية كلها والعباسية حتى منتصف القرن الثالث)، ويغلب عليها الاحترام والتوظيف الناعم لمكانة العلماء، وكذلك استقلالية العلماء عن السلطة وعدم تورطهم في تلميع صورتها ولو بالحق.

2- مرحلة العلاقة الجماعية (المذهبية): وقد بدأت منذ مطالع القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي مع تبني الدولة الأموية بالأندلس للمذهب المالكي رسميا، ثم ترسخت مع توزع الخلافة العباسية إلى دول مستقلة في الأطراف تكتفي برابطة ولاء شكلي مع الخليفة، ويغلب على هذه المرحلة -التي استقرت فيها المذاهب الفقهية كروابط علمية متمايزة مشرقا أو مغربا- تبني دولة ما لمذهب فقهي (أو فرقة كلامية)، وتمكين علمائه وتوظيفهم في القضاء والمشورة الفقهية، كما يغلب عليها خدمة هذه المذاهب عن السلطة مراعين حظوتهم المذهبية، ولكن ظلت استقلالية العلماء كأفراد مرعية ودفاعهم عن الحق بقي أمرا مصانا لديهم فلم يتخلوا عنه مطلقا.

3- مرحلة العلاقة المؤسسية (الرسمية): بدأت هذه المرحلة مع نشأة ظاهرة بناء الدولة السلجوقية للمدارس الفقهية أواسط القرن الخامس الهجري/الـ11م، ولكنها لم تنتشر وتترسخ إلا مع منتصف القرن السادس الهجري/الـ12م، حيث عمت المدارس معظم أقطار العالم الإسلامي بدعم من مختلف دوله، ومن أموال الأوقاف التي كان معظمها يأتي من رجال الدولة، وصار على هذه المدارس الاعتماد في تخريج العلماء المؤهلين لتولي مناصب المؤسسة الدينية الرسمية والأهلية، أو “أمور الدين” بتعبير القاضي المؤرخ ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) الذي حصرها -في كتابه ‘المقدمة‘- ضمن ست وظائف، هي: “القضاء والفُتْيا والتدريس والإمامة والخطابة والأذان”.

ومن اللافت أن هذه الوظائف الدينية ظلت مستمرة منذ ألف سنة وحتى الآن، وقد تعززت في الدولة العثمانية بإنشاء منصب “مشيخة الإسلام” الذي كان يشغله المفتي العام للدولة، ومنه ظهرت مناصب الفتوى الرسمية في الدول الإسلامية المعاصرة. ولكن مع اختفاء أموال الوقف المجتمعي الذي كان مرصودا لرعاية العلم وأهله ضعفت استقلالية العلماء تجاه السلطة لسيطرتها على كافة الوظائف الدينية تأهيلا وتشغيلا وتمويلا.

ومهما كان نوع العلاقة؛ فإن استخدام الأمراء للعلماء في تحقيق مصالحهم السلطانية -عبر منابر الجوامع وحلقات الدرس ونصوص الفتاوى- ما كان يقع عادة إلا للعلماء الذين رضوا بأن يكونوا ملحَقين بالسلطة عن وعي بذلك أو بدونه، واستخدامها لهم أخذ تاريخيا -ولا يزال يأخذ حتى الآن- عدة مظاهر سلبية في أغلبها، ومن أبرزها حسب الغزالي الذي كان واعيا بها في عصره وأودعها تفصيلا في كتابه ‘إحياء علوم الدين‘:

أ- توظيف استغلالي: ويكون بتعيين السلاطين للعلماء في المناصب و”استخدامهم والاستعانة بهم على أغراضهم” السلطوية، وكذلك “بإظهار الحب [للسلطان] والموالاة والمناصرة له على أعدائه”.
ب- توظيف تجميلي: ويكون بحشد العلماء في بلاط السلطة و”التكثُّر بهم والتجمُّل بغشيان مجالسهم”، والسير في مواكب السلطان و”الستر على ظلمه ومقابحه ومساوي أعماله”.
ج- توظيف دعائي: ويكون بإلزام السلاطين للعلماء بحشد الولاء لهم و”تكليفهم المواظبة على الدعاء لهم والثناء والتزكية والإطراء في حضورهم ومغيبهم”.

شجبٌ منوّع
ورغم ذلك؛ فإن العلاقة بين الأمراء والعلماء لم تخلُ من محطات توتُّر ولحظات تصادم؛ فقد تكاثرت -في كتب التاريخ والتراجم- قصص تصدي العلماء لما تأتيه السلطة من مظالم ومآثم، مما جرّ على كثير منهم محنًا ومصائب معروفة في تاريخنا سجنا وتضييقا وتشريدا وربما قتلا، وقد أخذ هذا التصدي لفساد السلطة أشكالا عدة من أهمها:

1- التأطير النظري: فكثيرا ما كتب العلماء في موضوع علاقتهم بالسلطة، وبينوا حدودها والقواعد الضابطة لها، وفي مقدمتها أنه “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”، وأن “طاعة أولي الأمر” المأمور بها شرعا مشروطة باتباعهم لأحكام الشرع، كما أن هذه الطاعة تشمل أيضا طاعة الأمراء للعلماء باعتبارهم جزءا من مفهوم “أولي الأمر” كما قال ابن عباس، ولكون العلماء “ورثة الأنبياء” كما وصفهم النبي (ص)، وفي الفتاوى هم المسمَّوْن بـ”الموقعين عن رب العالمين”!

2- الإنكار القولي: سواء كان ذلك برسائل النصيحة والحوار أو بالرأي والفتوى، وسواء كان بوسائل انتقاد السلطة في بلاطها وأمام رجالها، أو عبر المنابر العامة في المساجد والميادين المفتوحة.

3- الإنكار الفعلي: فكان العلماء يحتجون بأنفسهم ويناصرون الاحتجاجات الشعبية بل ويقودونها، وقد يصل إنكارهم إلى الانخراط في ثورة مسلحة كما حصل في ثورات الجيل الأخير من الصحابة وكبار التابعين حتى منتصف القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، ثم تكررت ثورات العلماء على ظلم السلاطين في عدة أقاليم وعلى فترات مختلفة طوال التاريخ الإسلامي، حتى إن هذه الثورات تعددت بتعدد طوائف العلماء وتخصصاتهم، فكان منها ثورات المحدثين، وثورات الفقهاء، وثورات المريدين من الصوفية.

5- الإنكار الكتابي: ومن صوره الكتابة التاريخية عن سلاطين الجور وكشف ما كانوا عليه من فساد واستبداد واستعباد للعباد، وبؤس مصيرهم في أغلب الأحيان، وتقبيح صورهم في عيون الناس من معاصريهم والأجيال اللاحقة، تبصيرا بتاريخهم المشين وتنفيرا لغيرهم من السلاطين أن يقتدوا بهم فتخلَّد بذلك قبائحهم هم أيضا. ولذلك نجد المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) يوثّق -في كتابه ‘الكامل في التاريخ‘- ما لحق بالناس في العراق من كروب جرّاء حروب المتصارعين على السلطة سنة 330هـ/942م، ثم يعقِّب على ذلك قائلا: “وإنما ذكرنا هذا الفصل ليَعلم الظلمةُ أن أخبارهم تُنْقَل وتَبقَى على وجه الدهر، فربما تركوا الظلم لهذا إن لم يتركوه لله سبحانه وتعالى”!!

وفي المقابل؛ كانوا يشيدون بسلاطين العدل والإصلاح ويؤلفون الكتب الخاصة المخلدة لسيرهم العظيمة وأعمالهم الجليلة، كما كانوا يدونون مواقف العلماء الصادعين بالحق في وجه سلاطين الجور، ويوثقون أقوالهم الخالدة في ذلك ومواقفهم البطولية وما كانوا يلاقونه في سبيل ذلك من كروب وأزمات، كما كانوا يشنعون على علماء السلطة الذين يدعمونها في مظالمها بالفتاوى والأحكام القضائية، ويشهرون بهم في كتب التاريخ والتراجم.

صناعة المسافات
وجّه الفقهاءُ جهودهم لصناعة المسافة بين الجماعة العلمية والمؤسسة السلطانية على مستويين؛ المستوى الأول: مستوى داخلي متعلّق بخطابٍ مُوجَّه إلى الجماعة العلمية؛ والمستوى الثاني: مستوى خارجي مرتبط بعلاقة الفقهاء بالعامّة، ودور العامّة في تحديد أنماط هذه المسافة.

فمن المقولات المتعلقة بالمستوى الأوّل المُوجَّه بالأساس إلى الجماعة العلميّة، ما دأب عليه العلماء من التحذير من مخالطة الحكام والأمراء وأخذ أموالهم رواتبَ أو جوائزَ، إذ يعلل الإمام سفيان الثوري (ت 161هـ/778م) امتناعه عن أخذ نصيبه من غنائم الحرب التي يقسمها السلطان بقوله: “أعلم أنه لي حلال، ولكن أكره أن يقع لهم (= الأمراء) في قلبي مودة”.

بل إن بعض العلماء امتنع حتى من أخذ حصصهم من تركات آبائهم لأنهم كانوا موظفين في دواليب السلطة، ومن ذلك ما يحدثنا به الذهبي -في ‘سير أعلام النبلاء‘- من أن الإمام المحدّث يزيد بن زريع “مات أبوه وكان واليا على الأبُلّة [في العراق] فخلّف خمسمئة ألف فما أخذ منها حبة”. كما يخبرنا القاضي عياض المالكي (ت 544هـ/1149م) أن أبا القاسم الباجي –وهو نجل إمام المالكية في وقته أبي الوليد الباجي (ت 474هـ/1081م)- “تخلى عن تركة أبيه لقبوله جوائز السلطان وكانت وافرة، وخرج عن جميعها حتى احتاج بعد ذلك”.

ويبدو أن اعتماد العلماء على عطايا السلاطين أصبح أمرا شائعا بحلول القرن الخامس الهجري، الذي ترسخت فيه نُظُم الدولة وتنظيمات المجتمع، بما فيها المدارس المستقلة عن المساجد والمذاهب الفقهية كروابط علمية متمايزة؛ فتوجس بعضهم خيفة من أن يضعف ذلك استقلالية العلماء تجاه السلطة.

ولذا أخذوا يحذرون من الاعتماد المتزايد على هذه الأموال لافتين إلى تغير الأوضاع بعد العصر الإسلامي الأول، لأنه في زمنهم “لا تسمح نفوسُ السلاطين بعطية إلا لمن طمعوا في استخدامهم، والتكثر بهم والاستعانة بهم على أغراضهم، والتجمُّل بغشيان مجالسهم، وتكليفهم المواظبة على الدعاء والثناء والتزكية والإطراء في حضورهم ومغيبهم”؛ كما يقول الغزالي (ت 505هـ/1111م) في ‘إحياء علوم الدين‘.

ويفصّل الغزالي رأيه هذا الداعي لأخذ العلماء مسافة واسعة عن السلاطين تكاد تصل حد القطيعة بقوله: “فلو لم يُذِلّ الآخذ [من العلماء لأموال السلاطين] نفسه بالسؤال أولا، وبالتردد في الخدمة ثانيا، وبالثناء والدعاء ثالثا، وبالمساعدة له (= السلطان) على أغراضه عند الاستعانة رابعا، وبتكثير جمعه في مجلسه وموكبه خامسا، وبإظهار الحب والموالاة والمناصرة له على أعدائه سادسا، وبالستر على ظلمه ومقابحه ومساوي أعماله سابعا؛ لم ينعم عليه بدرهم واحد، ولو كان في فضل الشافعي (ت 204هـ/820م) رحمه الله مثلا. فإذن لا يجوز أن يُؤخذ منهم في هذا الزمان ما يُعلم أنه حلال لإفضائه إلى هذه المعاني، فكيف ما يُعلم أنه حرام أو يُشك فيه؛ فمن استجْرأ على أموالهم وشبّه نفسه بالصحابة والتابعين فقد قاس الملائكة بالحدّادين”!!

وفي غرب العالم الإسلامي؛ نجد ابن بسام الشَّنْتَريني الأندلسي (ت 542هـ/1147م) يُنكر -في كتابه ‘الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة‘- على علماء عصره ومصره أخذ “جوائز الأمراء الذين سبكوا خبائث الضرائب والمكوس القبيحة، فاستدر القوم مرية هذه الطعمة الخبيثة. وكنتُ أحسب فقهاء الشورى… يكتمون شأن ذلك الراتب، حتى سمعت أبرّهم يُلحّ في طلبه وينتظر بلوغ وقته فانكشف لي شأنه، والقوم أعلم بما يأتونه وهم القدوة، لا جعلهم الله لنا فئة”.

تحذير وتنفير
وفي حين يقول المحدّث أبو شجاع الديلمي (ت 509هـ/1115م) إن “علماء السوء [هم الذين] يتخذون هذا العلم تجارة يبيعونها من أمراء زمانهم ربحا لأنفسهم، لا أربح الله تجارتهم”؛ يتساءل الزمخشري المعتزلي (ت 538هـ/1143م) في ‘مقاماته‘ مستنكرا: “ما لِعلماء السوء جمعوا عزائم الشرع ودوّنوها، ثم رخّصوا فيها لأمراء السوء وهوّنوها؟!”.

ويُحذر القرافيّ (ت 684ﻫـ/1385م) الفقهاءَ من إصدار الفتاوى تفصيلا على مقاس المؤسسة السلطانية، فيقول في ‘الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام‘: “ولا ينبغي للمفتي إذا كان في المسألة قولان أحدهما فيه تشديدٌ والآخَر فيه تخفيف: أن يُفتي العامَّة بالتشديد، والخواصَّ من ولاة الأمور بالتخفيف، وذلك قريبٌ من الفسوق والخيانة في الدين، والتلاعب بالمسلمين، ودليلُ فراغ القلب من تعظيمِ الله”.

وهنا يتحاكمُ القرافيّ إلى ضمير الفقيه وخشيته، فيُشير إلى الخشية التي ركّز عليها العلماء كثيرًا، وكأنّهم لا ينزعون العلم عن الضمير والدين، لأنّ العلم دون خشية يُجرّد العالم من حياديته، ويُرجّح كفّة الهوى لديه على كفّة العلم، فيزدريه الناس وينتفي أثرُه على المجتمع إلى حدّ كبير.

ويبلغ ذلك التحذير مداه عندما يحمّل تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1369م) -في ‘طبقات الشافعية‘- بعضَ العلماء فسادَ السلطة نفسها؛ فيقول بجزم شديد النبرة: “إنما يتلف السلاطينَ فسقةُ الفقهاء، فإن الفقهاء ما بين صالح وطالح، فالصالح غالبا لا يتردد إلى أبواب الملوك، والطالح غالبا يترامى عليهم ثم لا يسعه إلا أن يجري معهم على أهوائهم ويهوّن عليهم العظائم، ولَهُوّ على الناس شر من ألف شيطان، كما أن صالح الفقهاء خير من ألف عابد”.

أما تقي الدين الحِصْني الشافعي (ت 829هـ/1426م) فيرى -في كتابه ‘كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار‘- أن “أشد الناس فسقا من المسلمين فقهاء السوء وفقراء (= الصوفية) الرجس، الذي يترددون إلى الظلمة…، مع علمهم بماهم عليه من شرب الخمور وأنواع الفجور، وأخذ المكوس، وقهر الناس على ما تدعوهم إليه أنفسهم الأمّارة، وسفك الدماء، وقمع من دعاهم إلى ما نزلت به الكتب وأرسِلت به الرُّسل، فلا يُغترّ بصُنْع هؤلاء الأراذلِ من الفقهاء والفقراء”.

ويحذر الحصني من أن تقود مخالطة العلماء غير المتحفظة للحكام الفاسدين إلى تشريع ما يرتكبونه من مظالم ومآثم في أعين العامة من الناس، حتى ولو تدثـّرت بلبوس الأعمال الصالحة خدمة للمساكين؛ فيؤكد أنه “من المصائب العظيمة ما يصنعه الظَّلَمة من… أخذ الأموال بالباطل، ثم يصنعون بذلك شيئا من الأطعمة يتصدقون به فيتعدى شؤمُهم إلى الفقراء، وأعظم من ذلك مصيبة ترددُ فقهاء السوء وصوفية الرجس إلى أسمطة هؤلاء الظلمة…، ولا يعلم هؤلاء الحمقى أن في ذلك إغراء على تعاطي المحرمات”. ورأى أن ولائم السلاطين الظلمة لا ينبغي أن يحضرها العلماء لأنها مكان لـ”أسقاط الناس كالسوقة والجلاوزة -وهم رُسُل الظلمة- وقضاة الرِّشا”.

حماية المكانة
ولذلك اختلف الأصوليون في أخذ العلم عن العالمِ “الفاسق”، وجعلت أغلبيتهم من شروط المفتي أن يكون ورعًا، والورع باب عظيم تدخل فيه بلا شكّ علاقة الفقيه بالمؤسسة السلطانية، ومدى نُصحه وتوجيهه لأفعالها. ونلاحظ أنَّ السبكيّ والقرافيّ استعملا مصطلح “الفسوق” في وصف هؤلاء الفقهاء والمفتين، وهو مصطلحٌ ثقيل في استعمالات الفقهاء، ولا يُوصف به إلا أهل الكبائر.

لكنْ هناك بُعْد مُهمّ دعا إلى استعمال هذا المصطلح، ويتعلّق باستقلال الجماعةِ العلميّة والحفاظ على هيبتها وسمعتها، لأنّ الفقيه لا يملك سلطة على العامّة سوى السلطة العلمية الممزوجة بالخشية، والتي تولّد الهيبة والاحترام المتبادل، ومن ثمّ سلطة التقليد عند العوام؛ فإذا زالت تلك الهيبة أو مسّها السوء، انعكس ذلك على الفقه والشريعة والتشريع، وفي كثير من الأوقات تكثر موجات الإلحاد بسبب سلوك علماء الدين.

فالعامّة دائمًا ينظرون لهؤلاء العلماء على أنّهم تجسيد للدِّين نفسه، ولا يكادون يفصلون بين الحامل والمحمول! ولذا جاءت تلك اللهجة الشديدة والنقد الداخلي، من الفقهاء للجماعة العلمية حفظًا للدين برمته، وتقرر عندهم وجوب الإنكار حتى على العلماء أنفسهم إذا ارتكبوا خطأ أو خطيئة، لأن “عدم محاباة العلماء بعضهم لبعض من أعظم مزايا هذه الأمة التي أعظم الله بها عليهم النعمة”؛ بتعبير ابن حجر الهيتمي (ت 973هـ/1565م) في ‘الفتاوى الفقهية الكبرى‘.

ولمّا دخل المحدّث الكبير علي بن المديني (ت 234هـ/848م) في خدمة القاضي المعتزلي أحمد ابن أبي دؤاد (ت 240هـ/854م) قاضي محنة القول بخلق القرآن المعروف؛ هجرهُ أحمدُ بن حنبل رغم ما بينهما من ألفة شخصية وملازمة طويلة في الدرس العلمي. ووفقا للذهبي؛ فقد “كان ابن أبي دؤاد محسنا إلى علي ابن المديني بالمال لأنه بلديُّه ولشيء آخر”، ولم يحدد لنا الذهبي طبيعة هذا “الشيء الآخر” ولعله مما يُستكره على العلماء!!

ويحكي ابنُ رجب الحنبلي (ت 795هـ/1393م) عن هذه الشناعة الكبيرة في نظر علماء ذلك العصر؛ فيقول: “وعظمت الشناعةُ عليه –أي عَلَى ابن المديني- حتى صار كأنّه مرتدّ، وتركَ أحمدُ الرواية عنه، وكذلك إبراهيم الحربي (ت 285هـ/898م) وغيرُهما”. وهذا الذي ينقله الحافظ ابن رجب يُبيّن مدى خوف العلماء على الشريعة والتشريع، وعلى الفقه والفقهاء، من الانصهار أو الذوبان في عوارض دنيوية تنال منها ومنهم.

وفي هذا الباب؛ تندرج المباحث التي عقدها العلماء في كتبهم لتحذير نظرائهم من الارتهان للسلاطين، بل إنهم ألّفوا كتبا خاصة بذلك كما فعل محمود بن إسماعيل الخَيْربَيْتي (ت 843هـ/1439م) حين صنف كتابه ‘الدرة الغراء في نصيحة السلاطين والقضاة والأمراء‘، وكذلك جلال الدين السيوطيّ (ت 911هـ/1505م) الذي صنّف رسالته ‘ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين‘.

لسان العامة
ليس معنى أنّ الفقهاء جعلوا مسافة بينهم وبين السلطة السياسيّة أنهم تنازلوا عن الشأن العام ومتابعته، فقد كانوا طوال التاريخ الإسلامي لسان الفقراء والمظلومين؛ وهنا يأتي المستوى الثاني المتعلّق بعلاقة الفقهاء بالعامّة، ودور العامّة في صناعة المسافة بين الجماعة العلمائية والسلطة السياسيّة.

فقد كان العامة يلجؤون إلى الفقهاء عند كل نائبةٍ، وكان هؤلاء بمثابة المؤسسة العلمية والاجتماعية التي تدرس حالات المجتمع، وترصد جوانب الخلل فيه لتعالجها دون أن ترتهن لرغبات تياراته؛ ولذلك حذر نظام الدين القُمِّي النيسابوري (ت بعد 850هـ/1446م) -في تفسيره للقرآن- من “علماء السوء الذين يغرّون العوامَ بالرجاء والطمع، ويقطعون عليهم طريق الطلب والاجتهاد”.

واستقلالية الفقهاء هي التي جعلت القاضي الشهيد أبا عبد الله بن الفرّاء الأندلسي (ت 514هـ/1120م) يكتب إلى سلطان دولة المرابطين بالأندلس والمغرب علي بن يوسف بن تاشفين اللمتوني (ت 537هـ/1142م) -حين أمر بجباية ضرائب لتمويل حملاته العسكرية- إن “هذا المال الذي يُسمَّى ‘المعونة‘ جُبي من أموال اليتامى والمساكين بالقهر والغصب، وأنت المسؤول عنه… والكل في صحيفتك، ولعل بعض فقهاء السوء أشار عليك بهذا”؛ فتأثر السلطان بخطابه و”ردّ ثلث الأموال إلى أربابها”؛ كما روى الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.

وتكرر هذا الموقف لاحقا مع علماء آخرين مثل الإمام العزّ ابن عبد السلام السلمي (ت 660هـ/1262م) الذي اشتهر بأنه من الفقهاء المشتبكين مع الشأن العام لصالح الأمة، وكان نصيرًا للمجتمع على طول الخطّ ضد تغوّل السلطة السياسية حتى لقّبوه بـ”سلطان العلماء” “وبائع الأمراء”.

وحين فرض السلطان المملوكي الظاهر بيبرس (ت 676هـ/1277م) ضرائب على أهل الشام لتمويل مواجهته العسكرية مع التتار سنة 666هـ/1268م، وأخذ فتاوى الفقهاء بجواز ذلك؛ رفض الإمام النووي (ت 676هـ/1277م) تلك الفتاوى مواجها السلطان –عندما سأله عن أسباب رفضه- بالحقيقة التي كان يتحاشى سماعها، فقال:

“أعرِفُ أنك كنت مملوكًا للأمير [علاء الدين أيدكين] البندقدار (ت 684هـ/1285م) وليس لك مال، ثم يسّر الله لك أمرًا على المسلمين فوليت الملك، وسمعت أن عندك كذا ألف مملوك، كلُّ مملوك منهم حياصته (= حزام سرج فرسه) بألف دينار، وعندك مئتا جارية، كل جارية عندها حُقُّ (= صندوق صغير) حُلِيّ يزيد على عشرة آلاف دينار؛ فإذا أنفقت ذلك كله… أفتي لك بجواز أخذك المال من الرعية”!!

مواقف صارمة
ولم يكن هذا المنهج الفقهيّ الصارم مقصورًا على السلطان غير العادل، بل شمل العادل وغير العادل على السواء، فكانت تلك المساحة هي من باب الضروريات الأخلاقية والمنهجية للجماعة العلمية، حفظًا لبيضتها وهيبتها.

ولم تكن مواقف فقهاء الأُمّة مواقف عملية فقط لا تُعرف سوى في كتب التراجم والسير، بل انسحبت إلى متن الدرس الفقهيّ والأُصوليّ بغية توريثها للأجيال العلمية اللاحقة. فقد قال جمهور علماء المذهبين الحنفي والمالكي بعدم جواز دفع الزكاة إلى السلطان غير العادل، لأنّه لن ينفقها بدهيًا في مخارجها الشرعية، بل سينال منها ومن مخارجها، ومن ثمّ ستضرّ المجتمع أكثر مما ستنفعه.

والواقع أنّ مثل هذه الفتاوى الفقهية تصنع مسافة بين الجماعة/الأُمّة وبين أروقة الحُكم، وليس بين العلماء والمؤسسة السلطانيّة فقط. بل إنّ مثل تلك الأحكام لها أبعاد مقاصدية أقرب إلى إنزال العقوبة المعنوية بالمؤسسة السلطانية، أي عقاب الراعي وإشعاره بأنّه منبوذ من قبل الناس.

والحقيقةُ أنَّ كثيرا من أئمة الفقهاء كانت لديهم مواقف صارمة من السلطة عند تعذّر الإصلاح الذي ينشدونه؛ فالإمام مالك اعتكف في بيته وترك الصلاة والتدريس في المسجد النبوي برهة من الزمن، عندما كثرت الفتن وأرادت الخلافة توظيفه لتحقيق أهدافها في تعزيز شرعيتها لدى الجماهير. لقد كان ردّ فعل الإمام مالك هنا أشبه بالإضراب عن المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية، ولذا ذكر القرطبيّ المفسِّر (ت 672هـ/1273م) -في كتابه ‘التذكرة‘- تعليلا للمالكية لتخلف إمامهم عن الجمعة والجماعات، يفيد بأن سببه خوفه من توظيف السلطة لمواقفه، أو بعبارة القرطبي: “لئلا يمشي إلى السلطان”.

ولم تكن مسألة الاستقلال منحصرة في الفقهاء وعلماء الشريعة، بل شملت كافة شرائح الجماعة العلمية بمختلف توجهاتها؛ فالمعتزلة الأوائل -كواصل بن عطاء (ت 131هـ/750م)، وعمرو بن عُبيد (ت 144هـ/762م) الذي وصفه الذهبي بأنه “الزاهد العابد”- كانوا ممن ابتعد عن السلطان وحرّموا الولوج إليه.

بل إنّ عبد القاهر البغدادي (ت 429هـ/1039م) يقول في كتابه ‘الفَرْق بين الفِرَق‘ إن أبا موسى المُرْدار (ت 226هـ/841م) -وهو من رؤساء معتزلة بغداد- كان يجزم “بتكفير من لابَسَ السلطانَ…، وكان أسلافُه من المعتزلة يقولون فيمن لابس السلطان… إنه فاسق لا مؤمن ولا كافر”. ورأيُ المُرْدار هذا -على ما فيه من تطرّف- يوضح كيفية تفكير المعتزلة أو بعضهم آنذاك.

انقسام مبكر
تاريخيا؛ انقسم الفقهاء إلى فريقين في مسألة قبول هدايا وعطايا السلاطين، فبعضهم رفض مبدئيًا قبولها على أي وجه جاءت، بل إن هذا كان مذهب جمهور العلماء؛ فقد كانوا يرون ذلك كفيلًا بتحرير العالم المفتي من أيّة قيود تمنعه من صناعة الفتوى باستقلالية، نظرا لعدم تطلعه إلى ما في يد السلطة من مالٍ أو جاه.

وعلى رأس هؤلاء الإمام أبو حنيفة (ت 150هـ/768م) الذي رفض تولي القضاء للخليفة العباسي المنصور (ت 158هـ/776م) لأنه كان “هاربا من مال السلطان”، وكان يتاجر في الحرير ليضمن لنفسه الاستقلالية العلمية في الرأي والموقف.

وكذلك كان سفيان الثوري الذي كان يبيع الزيت، مستثمرا حصته من ميراث عمّ له كان يقيم في بخارى (تقع اليوم في دولة أوزبكستان)؛ كما يخبرنا الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) في كتابه ‘تاريخ بغداد‘.

ويروي أبو نعيم الأصفهاني (ت 430هـ/1040م) -في ‘حلية الأولياء‘- أن الثوري هذا أجاب أحدَ طلابه حين استنكر اشتغالَه بالتجارة؛ فخاطبه زاجرا إياه: “اسكتْ! لولا هذه الدنانير لتَمَنْدَل بنا هؤلاء الملوكُ”، أي جعلونا كالمناديل يستخدمونها ثم يرمونها.

ونقل الإمام البيهقي (ت 458هـ/1067م) -في ‘شُعَب الإيمان‘- عن الثوري قوله: “إذا رأيتَ القارئ (= العالم) يلوذ بالسلطان فاعلم أنه لصّ، وإذا رأيته يلوذ بالأغنياء فاعلم أنه مُراءٍ، وإياك أن تُخدع فيقال لك: تردّ مظلمة وتدفع عن مظلوم، فإن هذه خدعة إبليس اتخذها القرّاء سُلّمًا”. بل إن الثوري اعتبر القرب من السلطان عقوبة من الله تعالى لفاعله فكان يقول: “إذا لم يكن لله في العبد حَاجَةٌ نَبَذَهُ إلى السلطان”؛ وفقا لما رواه عنه الذهبي في ‘سير أعلام النبلاء‘.

ومن هذا الفريق أيضا الفُضيل بن عياض (ت 187هـ/804م) فقد “كان مع فقره وحاجته يتورع عن قبول مال السلطان”؛ حسب الخطيب البغدادي. ومنهم الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/856م) الذي رفض رفضًا قاطعًا أيّ عطايا تصل إليه من الدولة، بل إنه “امتنع أن يدخل بيت قرابته أو يدخل بيتا هم فيه، أو ينتفع بشيء مما هم فيه؛ لأجل قبولهم أموال السلطان”؛ كما يذكر ابن كثير (ت 774هـ/1372م) في ‘البداية والنهاية‘.

هذا مع أن أحمد بن حنبل لم يكن من أنصار الثورة على السلطة السياسيّة، وهذا يؤكد أنّ إيجاد المسافة بين السلطة الدينية والسلطة السياسية شيء، وإعلان الثورة عليها أو الاشتباك معها شيء آخر، فالجهةُ منفكّة بين المسألتين وغير متلازمتين بالضرورة.

وهناك فريق آخر قبـِل العطايا والهدايا من السلاطين، ولهم مبرراتهم القائمة على أن أوضاع عصرهم الاجتماعية والاقتصادية لم تكن تسمح لهم برفضها؛ وكان من هؤلاء الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/796م) على ما يروي لنا القاضي عياض عن تلميذ مالك أبي عمران الصدفي؛ قال: “دخلت على مالك… فسألته عن جوائز السلطان فكرهها، فقلت له: فإنك تقبلـ[ـها]؟ فقال أتريد أن تبوء بإثمي وإثمك؟”.

ومنهم بعض أولاد أحمد بن حنبل –وكانوا من أهل العلم- الذين خصص لهم الخليفة العباسي المتوكل (ت 247هـ/862م) “في كل شهر أربعة آلاف درهم”، فأنكرَ عليهم والدُهم أحمد قائلا: “لِمَ تأخذونه؟ والثغور معطلة غير مشحونة، والفيء غير مقسوم بين أهله!”، عازيا رفضه لذلك إلى انعدام العدالة في التوزيع. ثم أضاف: “ولو أعلم أن هذا المال أخِذ من حقه -وليس فيه ظلم ولا جور- لم أبالِ” بأخذكم له.

مقومات الاستقلال
وفي العالَم الشيعي؛ ثار حراك فقهي وعلمي عاصف منذ قرون بسبب هذه المسألة، حيث أباح الشيخ الكركيّ العاملي (ت 940هـ/1533م) أخذ العطايا من سلاطين الدولة الصفوية التي كان يتولى فيها عمليا منصب المرشد الديني الأعلى لحكامها، في حين أنّ ميراث الفتاوى في الفقه الشيعي يرفض هذا الاتجاه. وقد تصدى لفتوى الكركي صديقه ومعاصره الشيخ إبراهيم القطيفي (ت 950هـ/1543م).

وكان لهذا الخلاف أثر كبير في الجماعة الشيعية ونخبتها العلمية، لا تزال آثاره جارية ومتحكمة في الأحداث السياسية والحوْزَوية حتى اليوم؛ إذ لا يزال فريق يمنع الالتحام بالسلاطين، ويحظر تلقي العطايا منهم، بينما يُبيح فريق آخر التعامل معهم، خاصة بعد أن باتت النخبة الدينية اليوم في موقع السلطان التاريخي، وصارت هي من يُعطي ويمنع، كحال الوليّ الفقيه في إيران المعاصرة.

وفي العموم؛ فإننّا ينبغي أن نتأمل بعمق في مسألة موارد رزق الفقهاء، فالفقيه وُضعت له شروط عديدة ومعقّدة بخصوص تحققه بالأهلية العلمية والاجتهاد، لا يُمكن أن يصل إلى رتبتها إلا بالتفرغ التام والعكوف على الدرس والتدريس، وهو ما يعطّل طرائق كسب معاشه في كثير من الأحايين.

وقد أشار إلى هذه اللمحة ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) في ‘صيد الخاطر‘، وردّد نصائح للفقهاء تُغنيهم عن منح وعطايا الأمراء حتى تكون فتاواهم بعيدة عن أيّة مؤثرات غير علمية، ومن ذلك قوله: “ولا تلتفت -يا هذا- إلى ما ترى من بذل العلماء على أبواب السلاطين؛ فإن العزلة أصون للعالم والعلم، وما يخسره العلماء في ذلك أضعاف ما يربحونه. وقد كان سيد الفقهاء سعيد بن المسيِّب (ت 93هـ/713م) لا يغشى الولاة…، [فيا] أيها العالِم.. اجتهد في كسب يُعفُّك عن الطمع”.

وقد حاول الفقهاء خلق ظروف مادية مناسبة للعالم المفتي وللقاضي تعينهما على ضمان الاستقلالية. فبالنسبة للإفتاء؛ تقرر مثلا لدى علماء المالكية أنه “يجوز للمفتي أخذ الأجرة على الفتوى إن لم تتعين عليه” فقط، وذلك لعدم وجود من هو مؤهَّل لها غيره.

كما جعل الفقهاء اختيار المفتي الرسمي للدولة إلى العلماء وفقا لمعاييرهم الموضوعية، وليس متروكا لرغبات السلطة؛ ذلك أن “الطريق للإمام (= السلطان) إلى معرفة حال من يريد نصبه للفتوى أن يسأل عنه أهل العلم في وقته، والمشهورين من فقهاء عصره، ويعوِّل على ما يخبرونه من أمره”؛ على حد تعبير الخطيب البغدادي في كتابه ‘الفقيه والمتفقه‘.

وفي مجال القضاء؛ كانت العادة في الأندلس أن من الشروط الفقهية لتولية القاضي أن يُعطَى من المال ما يكون به غنيا قبل تسلمه منصبه، فهذا أبو الوليد الباجي يقرر -في كتابه ‘المنتقى‘- أنه “لا ينبغي أن يجلس [للقضاء] حتى يُغْنَى ويُقْضَى عنه دَينُه… ليتفرغ للقضاء، وليكون أسلم له من مقارفة ما يُخِلُّ بحاله” من الرشوة والهدايا.

وفي أغلب حقب التاريخ الإسلامي؛ اعتمدت الجماعة العلمائية -وخاصة الجماعة الفقهية منها- على عدد من الكوابح التربوية والمنهجية وروافد الإسناد المالي، حاولت الاستعانة بها في معركة تأمين استقلالية الرأي والموقف عن السلطة الحاكمة؛ ومن أهم تلك الآليات:

أ- التكسب بالعمل:
سعى العلماء من الفقهاء والمحدثين وغيرهم -منذ وقت مبكر من التاريخ الإسلامي- إلى التغلب على مشكلة الاستقلال المالي باعتباره البوابة الكبرى للاستقلال العلمي؛ فاتجهوا للعمل في مختلف الأنشطة التجارية، وامتهنوا أنواع الصناعات والحرف بجانب الصناعة العلمية، وانتسبوا إلى مهنهم حتى عُرفوا بها في أوساطهم العلمية وفي كتب التراجم والطبقات المذهبية والفِرَقية؛ فكان منهم الحداد والنجار والخياط والقطان والدباغ والصباغ والجصاص والعطار والصائغ والوراق والكتبي… إلخ.

ومن أراد التوسع في هذا الباب فليراجع كتاب ‘الأنساب‘ للإمام أبي سعد السمعاني المروزي (ت 562هـ/1167م)، فقد ترجم فيه لمئات العلماء المنسوبين إلى مهنهم وصنائعهم، كما أفادنا بوجود من صنّف قديما في سِيَر العلماء العاملين في هذه المهن؛ كما فعل أبو عبد الله محمد بن إسحق السعدي الهروي في كتابه ‘الصناع من الفقهاء والمحدثين‘.

وحديثا؛ أعدّ الباحث عبد الباسط بن يوسف الغريب دراسة أصدرها بعنوان: ‘الطرفة فيمن نُسب من العلماء إلى مهنة أو حرفة‘، فأورد فيها تراجم لنحو 1500 عالم موزعين على زهاء 400 صنعة ومهنة كانوا يتكسبون منها، وكانت هذه الحرف والصنائع تغنيهم عن هدايا بيت المال وعطايا الخليفة أو السلطان، وتعينهم على دراسة العلم وتدريسه، بل وكفالة تلامذتهم في أحيان كثيرة.

ب- الكوابح التزكوية:
كان تأهيل العالم الشرعي يمرّ بمراحل علمية عديدة، وتربية تزكوية مركَّزة، قبل إعلان أهليته للتدريس والفتوى والاجتهاد؛ فقد كانت الجماعة العلمية في كل المذاهب الفقهية لا تُقرّ لأحد بالنبوغ إلا أن يشهد له مشايخه، بأنه اجتاز عددًا من المستويات العلمية تؤهله لممارسة الفن الذي تخصص فيه.

فها هو الخطيب البغدادي ينقل لنا –في كتابه ‘الفقيه والمتفقه‘- قولَ الإمام مالك: “ما أفتَيتُ حتى شهد لي سبعون [شيخًا] أني أهل لذلك…، لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلا لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه”.

وقد عزا الإمام الشاطبيّ (ت 790هـ/1388م) فوضى الإفتاء إلى الدخلاء على الفنّ ممن اقتحموه مع قلّة بضاعتهم، أو تمّ ترميزهم من المؤسسة السلطانية؛ فيذكر من أسباب مخالفة عمل السَّلف الأولين: “ألا يكون [العالم] من أهل الاجتهاد، وإنما أدخل نفسه فيه غلطًا أو مغالطة، إذ لم يشهد له بالاستحقاق أهل الرتبة، ولا رأوه أهلا للدخول معهم، فهو مذموم”.

ولعل الشاطبي يشير بعبارته الأخيرة “فهو مذموم” إلى نوع من الكوابح المنهجية التي تحمل العالم على أخذ مسافة من ضغط الدولة المجتمع، ألا وهو خشيته من أن يكون منبوذا داخل جماعته العلمية وخاصة المذهبية إذا اقترب من المؤسسة السلطانية؛ فيصير مستبشَعًا بين العلماء، ومن ثمّ ينسحب ذلك على مكانته بقلّة أعداد تلامذته، وربما انعدام مجالس درسه بسبب رفض الطلاب للأخذ عنه، ناهيك عن انتباذ العامّة له ولعلمه وفتاواه.

وقد مرّ بنا كيف وصف ابنُ رجب الحنبلي معاملة العلماء لإمامَ المحدثين عليَّ ابن المدينيّ، ونظرتهم إليه حتى كأنّه “ارتدّ عن الإسلام” بسبب علاقته مع ابن أبي دؤاد، كما كثر ازدراء العلماء لمن كان منهم “قليلَ المبالاة بحفظ ناموس (= آداب) العلم والمشيخة”؛ على حد وصف ابن أيبك الصفدي (ت 764هـ/1363م) حين ترجم لأحد هؤلاء العلماء “المنبوذين”.

بل إن الفقهاء بلغوا حدا طريفا في التنظير لنبذ زملائهم الذين يتماهون مع رغبات السلاطين؛ فقد نص الحصني الشافعي -في كتابه المذكور سابقا- على أنه “لو أوصى [إنسانٌ بماله] لأجهل الناس.. من المسلمين [فـ]ـأَوْلاهم بالصرف: الفقهاءُ الذين يؤازرون أمراءَ الجور، لأنهم يُقرّونهم على أحكام الجاهلية؛ إذ يلزم من السكوت انْدراسُ الشريعة المطهرة”.

ج- نظام الوقف:
كانت الأوقاف قديمًا هي الدعامة الرئيسية لاستقلال الجماعة العلمية بكافة توجهاتها وتخصصاتها المختلفة، فوُجدت أوقافٌ كثيرة -في عموم العالم الإسلامي- على المدارس العلمية أساتذة وطلابًا ومرافقَ خدمية، وقد تجاوزت هذه الأوقاف المجال العلمي لتغطي كافة مرافق المجتمع المعرفية من مدارس طبية ومراصد فلكية وغيرها.

وتسابق أهل الخير من الأغنياء والأمراء والأعيان في وقف كثير من المال على تلك المؤسسات؛ فهذا الوزير السلجوقي نظام المُلك (ت 485هـ/1092م) يقول عنه السبكي في ‘طبقات الشافعية‘: “يقال إن له في كل مدينة بالعراق وخراسان مدرسة”.

ويذكر ابن الجوزي -في كتابه ‘المنتظم‘- أنّ هذا الوزير “كفى أهلَ العلم أمرَ دنياهم”، وكان “أحسنَ خِلاله (= صفاته) مراعاةُ العلماء وتربية العلم، وبناء المدارس والمساجد والرباطات والوقوف (= الأوقاف/الوقف) عليها، وأثره العجيب ببغداد هذه المدرسة (= المدرسة النِّظامية التي بناها في بغداد سنة 459هـ/1068م) وسُوقها الموقوف عليها”.

وأضاف ابن الجوزي أن نظام الملك فرض لكل مدرس وعامل في مدرسته هذه قسطًا من الوقف، وعدَّد من طاقمها التعليمي “المدرِّس الذي يكون بها، والواعظ الذي يعظ بها، ومتولي الكتب، وشرط أن يكون فيها مقرئ القرآن، ونحوي يدرس العربية، وفَرَض لكل قسطا من الوقف”!! وأضاف إليهم الذهبي الطلاب فقال -في ‘سِيَر أعلام النبلاء‘- إن الوزير نظام الملك “رَغَّبَ في العلم وأَدرَّ على الطلبة الصِّلاتِ”.

ويلخص لنا الدكتور مصطفى السباعي (ت 1384هـ/1964م) -في كتابه ‘من روائع حضارتنا‘- دَور الأوقاف الأهلية في رعاية مجتمع العلم والعلماء بالشام؛ فيقول -نقلا عن النعيمي الدمشقي (ت 927هـ/1523م) في كتابه ‘الدارس في تاريخ المدارس‘- إنه “كان في دمشق وحدها للقرآن الكريم سبع مدارس، وللحديث ست عشرة مدرسة، وللقرآن والحديث معا ثلاث مدارس، وللفقه الشافعي ثلاث وستون مدرسة، وللفقه الحنفي اثنتان وخمسون مدرسة، وللفقه المالكي أربع مدارس، وللفقه الحنبلي إحدى عشرة مدرسة. هذا عدا عن مدارس الطب والرباطات والفنادق والزوايا والجوامع، وكلها كانت مدارس يتعلم فيها الناس”.

وقد اهتمّ أحد كبار التجار -في عهد السلطان المملوكي الأشرف قايتباي (ت 901هـ/1495م)- بعمارة الجامع الأزهر بمصر، فجدده وأسس منارته المسماة باسم السلطان قايتباي، وأنشأ سكنا للطلاب ورصد أوقافًا خيرية عديدة على العلماء والطلاب الدارسين فيه. واعتنى السلطان العثماني سليمان القانوني (ت 974هـ/1566م) بالأزهر، فخصصت الدولة العثمانية أوقافا لعلمائه والمجاورين له.

هل تلاشت الاستقلالية؟
تضافرت عدة عوامل للنيل القوي من استقلال الجماعة العلمية تمهيدا لذوبانها شبه الكامل في الدولة الحديثة؛ فمع انهيار نظام الوقف أولا على أيدي المستعمر الغربي منذ ألغت فرنسا -بقرار أصدرته سنة 1259هـ/1843م- الأوقاف في الجزائر بُعيد احتلالها أراضيها، وثانيا بتحكم السلطات السياسية بالدول الإسلامية في الأوقاف خلال مرحلة ما بعد الاستقلال؛ باتت مسألة استقلال الجماعة العلمائية ككيانٍ جماعي أمرًا صعبًا تعتريه عوائق جمّة، وهذا لا ينفي استقلال كثير من أفرادها بصورة منفردة لأسباب خاصّة به.

وأهمّ عوامل تلاشي استقلال العلماء هو ما يتعلق بموجة الحداثة وطبيعة الدولة الحديثة نفسها؛ فالعالمُ –أيّ عالم- اليوم مرتبط بمؤسسات الدولة، ويتقاضى راتبه منها نهاية كلّ شهر، سواء أكان من دولةٍ أو من مؤسسة عامة أو خاصّة، مع صعوبة عمله في التجارة التي تمأسست هي الأخرى ضمن مؤسساتِ أعمالٍ واقتصادٍ عملاقة.

كذلك فإنّ الدولة الحديثة دولة مركزية في القرار والتشريع والقانون، وتتحكم -بأدواتها ومؤسساتها- في كلّ ما يتعلق بالأنظمة التعليمية والصحية والخيرية ونحو ذلك، وتسنّ القوانين المتعلقة بتلك الهيئات، مما يُصعّب مسألة الاستقلال بصورتها القديمة، وأنماطها التراثية المتعارف عليها تاريخيًا.

ومن ثمّ؛ فإن الجماعة العلمية في حاجةٍ إلى توليد نماذج خلاقة تحافظ بها على استقلاليتها. وربما ينفع في هذا الصدد دراسة الجماعات العلمية المماثلة في الشرق والغرب، وكيف تنأى بنفسها عن الساسة والسياسةِ كي تُنتج منتجًا علميا محترمًا ورصينًا. ويبقى مدار أمر استقلالية العلماء أوَّلًا وآخرًا على ضمير العالم الشرعي وخشيته وورعه، وهذا يرجع للمدرسية العلمية وطرائق التدرج التعليمي والمناهج التي تُدرَّس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى