أخبار وتقاريرمقالاتومضات

قبل أن يُسدل الستار.. كانت إشراقة

ليلى غليون

على قدر كان لمجلة إشراقة أن تولد من رحم لهيب المرحلة ولهيب الأحداث وفوضى الصحافة الصفراء ورواج الكلمة التي فقدت مصداقيتها. ففي الوقت الذي جعلت الصحافة الصفراء من المرأة مرمى هدف، وجسرًا للوصول إلى مآرب وأهداف لم تعد خافية حتى على طفل صغير، لتتعامل معها بسطحية واستخفاف، شوش عليها أفكارها، وعطل دورها الإنساني المفترض، متجاهلة عن سبق إصرار كل القضايا الملحة التي يجب الخوض فيها بكل جدية وجوهرية، لتتبنى أسلوبًا تجاريًا للتعامل معها كما لو كانت سلعة تُعرض في الأسواق، في مسعى لتحييد الروح فيها وإثارة الجسد الذي أتقنت فن التخاطب معه بكل لغات الإغراء والإثارة.

وفي الوقت الذي حددت تلك الصحافة قيمة المرأة، وأنها لا تعدو أكثر من جسد نحيل ووجه جميل مليء بالأصباغ والألوان، تبحث عن الإعجاب في عيون الناس ولا تبحث عن الإبداع في الدور المنوط بها، في هذا الوقت المعقد ولدت “مجلة إشراقة” تخترق كل الحجب لتبعثر بفكرها الرصين كل الأوراق العابثة، في محاولة منها لتصحيح اتجاه البوصلة ولإعادة الأمور إلى نصابها، لتعود بالمرأة إلى جذورها تنهل من ينابيعها الأصلية. انطلقت إشراقة لتخاطب هذا المخلوق الذي كرّمه الله تعالى وأوصى بتكريمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتكتمل دائرة التكريم الشامل، ولتتكرس النظرة الشمولية للمرأة كإنسان أولًا، وعضو أساسي في الأسرة ثانيًا، وعضو حيوي في المجتمع ثالثًا، انطلقت تخاطب فيها العقل والروح والجسد، فلا يطغى جانب على حساب جانب، تستنهض فيها طاقات كامنة، وقدرات على التفاعل الإيجابي، واستثارة لكل عناصر الخير فيها، إيمانًا منها ويقينًا أنها شقيقة الرجل كما أخبر الصادق والمصدوق صلى الله عليه وسلم، وشريكته في عمارة الأرض.

وكانت إشراقة، مجلة لكل الأسرة، تغذيها صحافة مسؤولة حقيقية موضوعية تحترم كيان المرأة وتقدر لها قيمتها العليا، والتي تكمن في رهف مشاعرها، وتدفق أمومتها، وغزير عطائها، وشرف عملها، وسداد فكرها، وروعة إبداعها، صحافة حقيقية لا تختزل قيمتها في جسدها وفستانها وتسريحة شعرها ونوع عطرها ولون حذائها وحقيبتها كما هو الحال السائد.

لقد كانت رسالة إشراقة واضحة لا لبس فيها ومنذ اليوم الأول من ميلادها، عرضناها كمجلة للأسرة المتميزة أمام القراء الأفاضل والقارئات الفضليات، مجلة اجتماعية ثقافية إسلامية المرجع.

فكانت إشراقة… مجلة أسرية وليدة المرحلة الصعبة، أبحرت سفينتها تعاكس التيار وتشق طريقها في عالم الصحافة النزيهة، تحترم عقلية القارئ، وتعيش هموم الناس وتفتش عن سبل إسعادهم وحل مشاكلهم، لتقدم لهم وجبة شهرية دسمة غنية بالسعرات الثقافية والصحية والقضايا الاجتماعية والأسرية والزوجية على تنوعها واختلافها، بالإضافة للمقالات الهادفة التي تهم الجميع، الأم الأب، الأبناء، الطلاب، الشباب، الأطفال وجيل الشيخوخة وغيرها.

وكانت مجلة إشراقة نبض الأسرة وأكسجين سعادتها، رأس مالها الصدق ومحبة وثقة قارئاتها وقرائها الأفاضل بها ودعائهم لها بالتوفيق والسداد من رب العباد، فأي كنز أغلى وأثمن من الثقة العالية التي كانوا يغدقون بها عليها، وأي كنز يماثل ذاك الكنز المطمور في قلوبهم المملوءة محبة ودعمًا وتشجيعًا لإشراقة هي إشراقتهم، حيث شعروا أن هذا الباب المفتوح على مصراعيه هو العنوان الصحيح الذي إن قصدوه سيجدون فيه ما يروي ظمأهم ويهدئ من روعهم ويطمئن نفوسهم، فكانت عشرات الرسائل والمكالمات اليومية تتوالى وترد مكتب إشراقة من الذين يبحثون عن البديل والدليل يسألون عن حلول لمشاكلهم، ويلتمسون إرشادات تربوية واستشارات نفسية وأسرية لكل ما يواجههم من إشكالات في حياتهم اليومية، لتكون إشراقة وجهة وبيتًا دافئًا حنونًا يأوي إليه هؤلاء، تؤدي دورها المطلوب وتحمل على عاتقها الأمانة التي تقلدتها.

وكبر المولود واصلب عوده، يستمد قوته من عناية عليا، وجهود تضافرت وتآلفت لتصبح خيطًا من نور يشق طريقه في ظلام دامس، يتجدد كل شهر بحلة جديدة ورونق جديد يصاحبه الإصرار للمضي في طريق رفعنا فيه شعارًا: “قل هذه سبيلي أدعو إلى الله”.

فبكامل إصرارنا اخترنا هذا السبيل وعززنا فيه الخطوات لنفي بالعهد الذي قطعناه على أنفسنا ألا نكون إلا أدلاء لكل التائهين في تشعبات الطرق وتعرجاتها، متواصين بالحق وبالصبر، مثابرين نختزل المسافات نحو العطاء والابداع على النحو الذي تمليه علينا شريعتنا الغراء.

خمسة عشرة سنة من عمر مجلة إشراقة، وأكثر من مائة وسبعين عددًا هي حصيلة جهودنا المتواضعة خلال هذه السنوات، حققنا فيها بفضل الله وعونه، نجاحًا وتميزًا واضحًا في مشوارنا الإعلامي الهادف، فما أسعدها لحظات تلك التي تتوج بالنجاح ولو كان جزئيًا، وما ألذها ثمار تلك التي تُجنى من بعد تعب وكد وجهد، وما أروعه من شعور والنفس مطمئنة أنها في الاتجاه الصحيح.

خمسة عشرة سنة وإشراقة ذاك الغرس الطيب الذي زُرع في هذا الزمن الصعب والمناخ الإعلامي الأصعب، قد ضربت جذورها في العمق الاجتماعي وأصبحت مشروعًا مباركًا له بصمات غائرة في صميم الواقع.

خمسة عشرة سنة وقد حفرناها في ضمائرنا، أن الكلمة أمانة وأن إشراقة أمانة وأن الوجبة الشهرية التي نقدمها للقراء والقارئات يجب أن تكون وجبة لذيذة صحية تحترم العقول وتقدر الاهتمامات وتراعي الأذواق وترسخ القيم وأبجديات الأخلاق.

خمسة عشرة سنة، قلنا فيها وبصوت جماعي يُدوّي: لا لهذا التردي في الخطاب الإعلامي الموجه للمرأة، لا لهذا الاستخفاف في كيانها، لا لهذا التحالف الخفي بين أرباب المطبوعات والشركات التجارية للاستغلال البشع للمرأة من أجل ملء الجيوب وزيادة الأرباح. ونعم لخطاب المرأة عقلًا وفكرًا وروحًا وجمالًا، نعم لتعميق الانتماء الوطني وتعزيز الموروث الحضاري، نعم لطرق كل باب وإدخال إشراقة الأمل والمعلومة الصادقة وزرع حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وحب الناس في القلوب.

ولكن، وبليل بهيم توقفت مسيرة إشراقة، وأُسدل الستار، ولكن إشراقة فكرة، والفكرة لا تتوقف ولا تموت، فالأقلام التي جُردت من أغمادها وشبت على الحق، ستبقى تكتب للحق والأمل والمحبة والسلام وكل مفردات الخير، لأن فيها مدادًا لا يتقن سوى هذه اللغات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى