أخبار رئيسيةالضفة وغزةتقارير ومقابلاتومضات

تدمير بيئة غزة… من ينجُ من قنابل الاحتلال تصبه الأوبئة

يدمر الاحتلال بيئة غزة، إذ تنتشر 350 ألف حفرة امتصاصية يضطر الأهالي إلى إحداثها في مناطق النزوح شديدة الاكتظاظ، وبالقرب من الخزان الجوفي الذي يسحبون منه مياه الشرب الملوثة، ما أسفر عن إصابة 1.5 مليون بأمراض معدية.

– اضطر الأربعيني الغزي إبراهيم سلامة إلى الحفر من جديد قرب خيمة الأسرة في منطقة مواصي خانيونس جنوبي قطاع غزة المُحاصر، من أجل التخلص من مياه الصرف الصحي بعد امتلاء الحفرة القديمة، التي استخدموها ستة أشهر منذ نزوحهم من رفح، إلى أن فاضت المياه العادمة وأحاطت مكان مبيت العائلة.

ويعتمد 1.2 مليون نازح على حفر بدائية غير معزولة تتسرب منها المياه، إذ يحفرونها بواسطة آلات يدوية، وبعمق يتراوح ما بين متر إلى متر ونصف، وتتصل بمكان مرحاض عبر أنبوب بلاستيكي، ويغطونها بقطعة قماش أو معدن إذا توفر، كما يقول المهندس سعيد العكلوك رئيس قسم مراقبة المياه والصرف الصحي في وزارة الصحة الفلسطينية.

تلوث الخزان الجوفي
يخشى العكلوك عواقب وخيمة على الصحة العامة، والنظام البيئي برمته بسبب تلوث الخزان الجوفي للقطاع ما يهدد بانتشار واسع للأوبئة والأمراض، نتيجة استخدام النازحين للحفر الامتصاصية، وهو سلوك اضطراري أرغمتهم عليه ظروف الحرب والنزوح في منطقة يقترب الخزان الجوفي فيها من سطح الأرض، بمسافات تتراوح ما بين ثمانية أمتار وعشرين مترًا حسب الموقع ودرجة الانخفاض، وتتسم التربة الرملية في المنطقة بكونها شديدة النفاذ، ما يعني وصول أكثر من 10 ملايين لتر من المياه العادمة غير المعالجة للخزان الجوفي بسبب نفاذها من التربة إلى المياه الجوفية وتلويثها بشكل يومي، نظرًا لطول فترة وجود النازحين في المنطقة.

ويقدر عدد الحفر الامتصاصية في منطقة المواصي بحوالي 350 ألف حفرة، وقد تحفر العائلة أكثر من حفرة بعد امتلاء القديمة، ما ينذر بمخاطر أكبر في ظل الاعتماد على الخزان الجوفي بشكل كامل في استخراج المياه من أجل الشرب، والاستخدام المنزلي.

وبحسب استطلاع ميداني غير قياسي، شمل 30 نازحًا في منطقة مواصي خانيونس، أكد المشاركون أنهم يتخلصون من مياه الصرف الصحي عبر حفر امتصاصية، سواء كانت خاصة بالخيمة، أو حفرة تخدم بين ثلاث وعشر خيام، ويوضح 70% من النازحين المُشاركين في الاستطلاع أن الحُفر التي أحدثوها امتلأت بالمياه العادمة، وبعد أن فاضت ردموها وحفروا أخرى، وغالبية النازحين يدركون أن الحفر الامتصاصية تضر بالخزان الجوفي وتتسبب في تلويثه، لكنهم لا يمتلكون خيارًا آخر، وأكد 30% أنهم جلبوا حاويات معدنية “براميل”، ووضعوها داخل الحفر، بعد ثقبها لتقليل خطر انهيارها من الجوانب، لكن النسبة الباقية لم يقوموا بالأمر لعدم توفر الحاويات.

الاحتلال دمر آبار المياه
انخفضت كميات المياه التي تصل إلى سكان القطاع بشكل كبير، إذ لا تتعدى حصة الفرد من المياه خلال الحرب ثمانية لترات يوميًا، نتيجة التدمير الممنهج لآبار المياه وشبكات النقل والتوزيع، وحوالي 70% من البنية التحتية للمياه، ويقدر طول الشبكات المدمرة كليًا أو جزئيًا بـ 180 ألف متر طولي، وأخرج الاحتلال 203 من أصل 319 بئر مياه جوفية عن الخدمة، بتدميرها كليًا أو جزئيًا أو بسبب عدم إمكانية الوصول إليها وتشغيلها، إلى جانب تدمير 33 خزانًا رئيسيًا للمياه من إجمالي 50، وباتت البلديات تضخ كمية قدرها 92.500 متر مكعب يوميًا فقط، مقارنة بـ 300.000 متر مكعب كانت تضخها قبل العدوان، وفي أغلب الأحيان فإن مياه البلديات غير معقمة، بحسب تقرير بعنوان “إبادة البيئة” الصادر عن مركز الميزان لحقوق الإنسان (مؤسسة غير حكومية)، في سبتمبر/أيلول الماضي.

وللحصول على احتياجاتهم من المياه، لجأ الغزيون إلى حفر آبار أرتوازية في مناطق تقترب فيها المياه الجوفية من سطح الأرض ما يسهل استخراجها، واستخدامها بلا تعقيم رغم ارتفاع نسب المُلوثات فيها، وأبرزها الأملاح والنترات، والملوثات العضوية والبكتيرية والطفيلية، وهي مسبب رئيسي للأمراض في قطاع غزة، وبسببها تكتظ المستشفيات بالمرضى، بحسب التقرير.

الاعتماد على مياه الآبار الزراعية
ما يزيد الطين بلة، اعتماد النازحين على الآبار الزراعية التي كان الفلاحون يحفرونها لري المحاصيل فقط، وليست مخصصة للشرب أو الاستخدام البشري وغالبيتها غير خاضعة للرقابة، لكنها أصبحت تشكل مصدرًا للحصول على احتياجاتهم من المياه، الأمر الذي يفاقم مخاطر انتشار الأمراض في ظل عدم وجود مواد التعقيم، مثل الكلور، بعد تقليص توريده، كما يقول المهندس العكلوك الذي يوضح أن الأمر أخطر مما يظن البعض فحتى غسل الأواني، والملابس بالمياه المُلوثة يسهم في نقل وانتشار الأوبئة.

لكن الحاجة الماسة للمياه تجعل النازحين يقفون في طوابير طويلة أمام صنابير مياه مجهولة المصدر أغلبها يصل من آبار زراعية، في ظل عدم قدرتهم على شراء مياه الشرب المحلاة التي يباع كل 18 لترًا منها مقابل 4 شواكل (1.5 دولار أميركي)، وفي حال عدم توفر خزانات للمياه في خيامهم، سيضطرون لجلب المياه عدة مرات على مدار اليوم، ولذا قال 30% من النازحين المستطلعة آراؤهم إنهم يجلبون مياهًا من البحر للاستخدامات المنزلية وغسل الملابس.

وبسبب تلك الحالة تتفاقم الأمراض في القطاع، كما يؤكد الطبيب مروان الهمص، مدير المستشفيات الميدانية في قطاع غزة، ومدير مستشفى الشهيد أبو يوسف النجار برفح، والذي جرى إخلاؤه قسرًا من بداية مايو/أيار الماضي، مؤكدًا إن الإصابات بالأمراض الناجمة عن تلوث المياه ارتفعت بشكل كبير خلال الأشهر الماضية، إذ سجلت وزارة الصحة في القطاع أكثر من 1.5 مليون إصابة بأمراض معوية وطفيلية وجلدية وتنفسية، في ظل شح كبير في مواد التنظيف والتعقيم، خاصة المستخدمة بتطهير مياه الشرب.

وأكثر الأمراض التي جرى رصدها مؤخرًا، يقول الهمص إنها أمراض معوية، تنتج من إصابات بطفيليات مثل الجيارديا (عدوى معوية تسبب تقلصات مؤلمة في المعدة وانتفاخًا وغثيانًا ونوبات من الإسهال المائي)، والأنتاميبا (أوليّات متطفلة تسبب تقرحات معوية)، ومصدرها المياه الملوثة، وينتج منها مغص وإسهال والتهابات في الأمعاء وطفح جلدي بسبب مياه الصرف الصحي التي تنساب بين الخيام، إما جراء امتلاء الحفر الامتصاصية، أو انسياب المياه العادمة في الشوارع.

أمراض شديدة الخطورة
سُجلت أمراض فيروسية خطيرة، منها التهاب الكبد الوبائي، إضافة لاكتشاف فيروس شلل الأطفال في المياه العادمة، كما سُجلت زيادة طفيفة في حالات الفشل الكلوي التي قد تكون ناجمة عن تلوث المياه، بحسب الطبيب الهمص، والذي أكد أن المستقبل يبدو صعبًا، وهناك مخاوف حقيقية من ظهور أوبئة أخطر مثل الكوليرا، فالبيئة خصبة لظهور هذا الوباء في ظل تلوث المياه بشكل كبير.

كما أن وجود ما يزيد عن نصف مليون طن من النفايات المكدّسة بين خيام النازحين، مع غياب أنظمة الصرف الصحي في مناطق النزوح، عوامل تسهم في انتشار الأمراض، بحسب الناطق باسم وزارة الصحة في قطاع غزة، أشرف القدرة، ووصل عدد المصابين بأمراض معدية في غزة إلى 1.5 مليون فلسطيني، بينهم نحو 100 ألف مريض بالتهاب الكبد الوبائي من نوع A (فيروسي معدٍ جدًا)، و350 ألف مصاب بأمراض أخرى معوية وجلدية وتنفسية، منهم أكثر من 1100 مريض بالفشل الكلوي، منذ بداية العدوان وحتى نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وفق القدرة.

ما ذكره القدرة يعيشه النازح عبد الله ربيع، الذي يروي أن الأمراض لم تفارق أسرته منذ نزوحها من رفح إلى المواصي، والبداية كانت بطفح جلدي، تبعته إصابة ثلاثة من أبنائه بالتهاب الكبد الوبائي، ثم أمراض معوية، ومؤخرًا مشاكل صدرية وسعال وضيق في التنفس، ويصف المواصي بالقول: “إن النازحين في مواصي خانيونس يعيشون في أكثر بقع العالم اكتظاظًا وتلوثًا، فالصرف الصحي في الشوارع، والنفايات تحيط بالخيام، والأخطر من ذلك أن النازحين يُصرفون المياه العادمة في الأرض، ثم يشربون مياهًا أرتوازية تستخرج من نفس المكان، وهذا الأمر يعد كارثيًا بكل المقاييس”.

النزوح إلى منطقة معدومة الخدمات
تُمثل منطقة المواصي نحو 3% من مساحة قطاع غزة بمساحة إجمالية تبلغ 12 ألف دونم (الدونم يعادل 1000 متر مربع)، ويبلغ طول المنطقة 12 كيلومترًا، بعرض كيلو مترواحد، وتتكون من كثبان رملية، يطلق عليها محليًا “السوافي”، وهي عبارة عن رمال صحراوية بيضاء، تتخللها منخفضات زراعية خصبة غنية بالمياه الجوفية كما يؤكد المهندس العكلوك، وتنقسم إلى منطقتين متصلتين جغرافيًا، تتبع إحداهما لمحافظة خانيونس، وتقع في أقصى الجنوب الغربي من المحافظة، في حين تتبع الثانية لمحافظة رفح، وتقع في أقصى الشمال الغربي منها.

وتضم المواصي في أغلبها أراضيَ زراعية أو كثبانًا رملية قاحلة، أما المناطق السكنية فيها فهي محدودة، إذ لا تتعدى الوحدات السكنية نحو 100 بناء، وهي بالكاد تتسع للقاطنين الأصليين، فضلًا عن افتقار المنطقة للبنى التحتية والشوارع المرصوفة وشبكات الصرف الصحي وخطوط الكهرباء وشبكات الاتصالات والإنترنت، بحسب بيانات بلديتي رفح وخانيونس والمكتب الإعلامي الحكومي ويؤكد مديره إسماعيل الثوابتة، أن الاحتلال دمر قطاعي المياه والصرف الصحي، وبلغت الخسائر فيهما 3.147 مليارات دولار، معرقلًا كل محاولات تنظيم قطاع المياه، وإنشاء مشروعات طارئة لتحسين جودة مياه الشرب، فمن ينجُ من الموت بالرصاص والقذائف، قد تقتله الأوبئة والأمراض المنتشرة في القطاع.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى