هزلية الاختيار بين هارس وترامب
الشيخ رائد صلاح
لفت انتباه كل عاقل في الأرض ما نضح به إناء السياسة الأمريكية من عربدة متغطرسة حيث صرح أحد زبانية البيت الأبيض قبل أيام وقال: إذا ثبت أن كوريا الشمالية تمد روسيا بالسلاح فستكون كوريا الشمالية هدفًا مشروعًا لأمريكا، مما يعني أن أمريكا قد توجه لها ضربة تأديبية قاسية!!
ويوم أن صرح البيت الأبيض على لسان أحد زبانيته بهذا التصريح، فقد كان ولا يزال البيت الأبيض يعتقد أنه لا يحق لغير أمريكا أن تُصرح بمثل هذا التصريح!!، ولا أدري هل هناك فجور في العلو أرذل من هذا الفجور؟!
ثم ألا يجوز لروسيا اليوم، وقياسًا على هذا التصريح الأمريكي أن تقول: بعد أن ثبت أن أمريكا تمد أوكرانيا بالسلاح فقد أصبحت أمريكا هدفًا مشروعًا لروسيا؟!، وقياسًا على هذا التصريح الأمريكي ألا يجوز لإيران اليوم أن تقول: بعد أن ثبت أن أمريكا تمد المؤسسة الإسرائيلية بالسلاح فقد أصبحت أمريكا هدفًا مشروعًا لإيران؟!
وقياسًا على هذا التصريح الأمريكي ألا يجوز للشعب الفلسطيني أن يقول: بعد أن ثبت أن أمريكا تمد الاحتلال الإسرائيلي بالسلاح لقصف غزة فقد أصبحت أمريكا هدفًا مشروعًا للشعب الفلسطيني؟!
ثم قياسًا على هذا التصريح الأمريكي لو أن الدولة (س) ذات نزاع مع الدولة الأخرى (ص)، فأيقنت الدولة (س) أن دولة ثالثة تمد بالسلاح الدولة (ص)، التي تعيش معها نزاعًا طويلًا، فاندفعت الدولة (س) وقالت :بعد أن ثبت أن الدولة الثالثة تمد بالسلاح الدولة (ص)، فقد أصبحت الدولة الثالثة هدفًا مشروعًا للدولة (س) ثم تحول سلوك الدولة (س) إلى نهج عالمي!!
فماذا سيكون مصير البشرية عند ذلك؟!، لا شك ستكون البشرية على وشك انتحار أممي ينهي وجود هذه البشرية المُنهكة، ويدع الأرض أرضًا خالية من أي عنصر بشري!!، وسيحول الأرض إلى تلك الأرض التي سبقت هبوط نبي الله آدم وزوجه حواء عليها!!
لأن الأرض على مدار تاريخها ما خلت من أكثر من نزاع بين دولتين جارتين، أو نزاع إقليمي، أو نزاع عالمي، ولو أن كل دولة شاركت في أحد أصناف هذا النزاع هددت بعنجهية عمياء مفرطة أنها ستحول كل دولة تمد بالسلاح خصومها إلى دولة ذات أهداف مشروعة لها، لدخلت الأرض منذ قرون في حروب متواصلة عالمية لا تتوقف، ولقادت هذه الحروب إلى تدمير البشرية تدميرًا كليًا منذ قرون، ولما كان لنا وجود في هذه الأيام إلا أن أمريكا تتجاهل كل هذه المخاطر المصيرية التي تهدد مصير كل الأرض بسبب تصريحها هذا الأرعن، فيما لو حذت كل الدول المتنازعة حذوها، أو أن غرور القوة أعمى أمريكا وأفقدها القدرة على الرؤية السليمة للأحداث ومآلات هذه الأحداث!!
وكأن لسان حال أمريكا بات يقول: يحق لي ما لا يحق لغيري!!، وأنا الذي أحدد القيم وأفرضها على أهل الأرض!!، وأنا الذي أحاسب وأعاقب كل من شذّ عن قيمي أو استهتر بها أو صادمها!!، ويا أيتها البشرية الضائعة أنا أمريكا، وأنا ما أريكم إلا ما أرى، وأنا أهديكم سبيل الرشاد!!، وأنا حصن الرأسمالية المتوحشة، وحصن ما أفرزت من أخلاق حيوانية نفعية دونية، تقدس أصحاب رأس المال، وتدافع عن جشعهم الشيطاني حتى لو امتصوا دماء الشعوب، وتسخر من قيم الشرف والرحمة والحلال والفضيلة والعفاف، فهي مخدرات وليست قيمًا!!
نعم هذه هي أمريكا على حقيقتها، وكم صدق فيها قول المفكر المسلم أبو الحسن الندوي عندما قال بعد أن زارها: زرتُ أمريكا فوجدتُ فيها كل شيء إلا الإنسان!!، وكم صدق فيها قول المفكر المسلم سيد قطب عندما وصفها مؤكدًا أنها ما هي إلا ورشة عمل كبيرة!!، بمعنى أنها خالية من القيم والأخلاق والآداب!!
ولذلك لا يليق بنا أن نسميها (الحضارة الأمريكية) لأنه لا يتوفر فيها شروط هذا المصطلح (الحضارة)، فلو أنتجت ما أنتجت من صناعات خارقة في شتى المجالات، ولو غزت القمر، وصنعت الرجل الآلي، وتوغلت في عالم الذكاء الاصطناعي، فلا تستحق إسم الحضارة لأنها من أفقر دول العالم في القيم الإنسانية وقيم العدل والمساواة وحق تقرير المصير واحترام إرادة الشعوب ونصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم، فهي أمريكا التي أسكرها جنون العظمة اليوم وباتت تقول: (من أشدّ منّا قوة)!!
وهي أمريكا التي ترغم العالم أن يصدقها أنها صانعة الكوارث وصانعة السلام في الوقت نفسه!!، فسلاحها هو الذي يقصف غزة ولبنان، وهو سلاحها الذي يقتل النساء والأطفال والرضع بغزة ولبنان، وهو سلاحها الذي يُدمر الأحياء السكنية والمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس بغزة ولبنان، ثد تدّعي أمريكا في خطابها الذي هو أقذر خطاب عرفه التاريخ أنها هي صانعة السلام ولن تعرف طعم النوم حتى يتم إبرام وقف إطلاق نار وهدنة على صعيد النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، وعلى صعيد النزاع اللبناني- الإسرائيلي!!، وهي أمريكا التي أذاقت الشعوب العربية الويلات في كل من تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن لإفشال الربيع العربي فيها، فكيف لعاقل من أهل الأرض أن يُصدقها عندنا تقول مُتبجحة إنها حريصة على أن يأخذ الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني كامل حقوقهما!!، وهكذا باتت أمريكا تتصرف كأنها هي صاحبة القوة التي لا تُنافس في العالم!!
وأن لها أن تفعل ما تشاء كأن تعزل حاكم دولة ولو كان محبوب شعبه وأن تفرض من تشاء بديلًا عنه ولو كان خائنًا في حسابات شعبه وأن تدعم من تشاء ولو كان مستعمرًا ومحتلًا بالمال والسلاح والإعلام، وأن تُحاصر من تشاء حتى الموت وأن تمنع عنه الغذاء والماء والدواء والكساء حتى لو كان مظلومًا مطاردًا مشردًا في الليل والنهار.
وهكذا بات فساد أمريكا محليًا يُعاني منه الشعب الأمريكي، وبات عالميًا تُعاني منه شعوب الأرض قاطبة!!، ولذلك بات جميع أهل الأرض إلا الشواذ منهم يتمنون أن لو زالت الغطرسة الأمريكية!!، وأن لو استيقظ أهل الأرض على عالم بلا العربدة الأمريكية!!، وأن لو نام أطفال الدنيا في ليل خال من الرعب الأمريكي!!، لماذا كل ذلك؟!، لأن الفرعونية الأمريكية التي قد يقودها “ترامب” أو “هارس”، باتت سدًا منيعًا في وجه البشرية، تمنعها بجلافة الكاوبوي الأمريكي من السير نحو مستقبل زاهر ومُشرق وجميل يسود فيه الخير والأمن المجتمعي والأمن الغذائي والأمن السياسي وأمن الحريات والأمن المناخي، لذلك ليحكم أمريكا “ترامب” أو “هارس”، فكلاهما سيقوم بدور شقي ثمود الذي أورد ثمود الهلاك، وكلاهما سيوردان البشرية الهلاك!!، ولذلك من السخافة أن نفرح إذا فازت “هارس” وخسر “ترامب”!! (المقال كتب قبل ظهور النتائج النهائية للانتخابات الأمريكية)، ومن الغباء أن نحزن إذا خسرت “هارس” وفاز “ترامب”!!
فتاريخ الحزب الديمقراطي الأمريكي الذي ترعرعت فيه “هارس” هو تاريخ أسود، وتاريخ الحزب الجمهوري الأمريكي الذي نشأ فيه “ترامب” هو تاريخ إعدام للشعوب ولحقوقها وسيادتها، وكأني بمن يعرض علينا الاختيار بين “هارس وترامب”، كمن يعرض علينا الاختيار بين الرمضاء والنار، وبين الرق والعبودية، وبين الاحتلال والاستعمار، والفائز منهما سيواصل تكريس الكارثة الإنسانية وخطر الإبادة الجماعية والحصار المُهلك والعقاب الجماعي بغزة ولبنان!!، وما عسانا أن ننتظر من “هارس” وهذا ربيب نعمتها “بايدن” العجوز سيُغادر البيت الأبيض وقد ترك خلفه دمارًا وتشريدًا وتطريدًا وويلات وفواجع بغزة ولبنان، وترك خلفه شرق أوسط متوتر قد تندلع فيه حرب إقليمية مُهلكة لن تبقي ولن تذر، وترك خلفه عالمًا وجد نفسه ما بين معسكر الصين وروسيا وكوريا الشمالية ومعسكر أمريكا وأوروبا الغربية والمؤسسة الإسرائيلية، وبات هذا العالم المسكين يرتقب حربًا عالمية لم يشهد التاريخ مثلها، وفي المقابل ما عسانا أن ننتظر من “ترامب” وقد غادر البيت الأبيض قبل بضع سنين وقد ترك خلفه نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المباركة والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان وشق الطريق لقافلة التطبيع وفق المقاس الإسرائيلي فقط لاختراق العالم العربي والإسلامي، ومن البدهي أن العالم المأزوم لن يكون أحسن حالًا إن فازت “هارس” أو فاز “ترامب”، ولذلك فإن نجاة هذا العالم المُهدد بالزلازل والبلابل لن تكون بانتظار “هارس” أو “ترامب”، بل إن نجاة هذا العالم قبل وقوع الكارثة العالمية هي انتظار خلافة على منهاج النبوة تملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أن ملئت ظلمًا وجورًا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثمَّ تكون خلافة على منهاج النبوة تملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أن مُلئت ظلمًا وجورًا).