كاتب بريطاني مخضرم: هل أصيبت إسرائيل بالجنون؟.. الإبادة في غزة بداية النهاية
نشر الكاتب البريطاني المخضرم “ديفيد هيرست” مقالا، تناول فيه الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال في غزة، بالإضافة لتصاعد هجمات المستوطنين ضد الفلسطينيين منذ وصول الوزراء المتطرفين أو من يسمون “الصهاينة المتدينين” إلى الحكومة، مبينا أن ذلك التوحش قد يقود إلى نهاية “إسرائيل”، كما حدث في التاريخ.
ويعتبر “ديفيد هيرست” أحد كبار كتاب العالم المتخصصين في الشرق الأوسط، حيث غطى أخبار المنطقة لصالح صحيفة الغارديان لمدة خمسة وأربعين عامًا. ونشر للكاتب العديد من الكتب، منها “البندقية وغصن الزيتون” و “حذار من الدول الصغيرة: لبنان ساحة المعركة في الشرق الأوسط”.
ويشير هيرست إلى أن “النازية” اليهودية من الواضح أنها أخطر ما تكون على الفلسطينيين، أول من تستهدفهم وبشكل مباشر، لكنها في نهاية المطاف، كما سوف يثبت الزمن، تهدد بالخطر دولة “إسرائيل” ذاتها.
وفيما يلي نص المقال:
منح نتنياهو الصهاينة المتدينين نفوذًا. فهم الآن يشعرون في غزة وفي الضفة الغربية وفي لبنان وفيما هو أبعد منهم جميعًا، أنهم يحققون إرادة الله لشعبه المختار. لن تنتهي الأمور بخير.
“لأَنَّهُ كَانَ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ أَنْ يُشَدِّدَ قُلُوبَهُمْ حَتَّى يُلاَقُوا [أي الكنعانيون] إِسْرَائِيلَ لِلْمُحَارَبَةِ فَيُحَرَّمُوا، فَلاَ تَكُونُ عَلَيْهِمْ رَأْفَةٌ، بَلْ يُبَادُونَ كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ مُوسَى.”
لطالما شغف بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية والحاكم الفعلي للضفة الغربية، وإن لم يكن قد نصب كذلك بشكل رسمي، بترديد هذه العبارة من سفر يوشع ليثبت ما يطلق عليه خطته للحزم أو للإخضاع في يهودا والسامرة، الاسم التوراتي لتلك المنطقة.
وأوضح سموتريتش أنه بالضبط كما أن يوشع حذر الكنعانيين من ما قد ينزل بساحتهم فيما لو وقفوا في طريقه، فهو الآن يحذر الفلسطينيين من ما أعده في خطته لهم. وبذلك فإن أمامهم ثلاثة خيارات: أن يبقوا على حالهم بوصفهم “مقيمين غرباء” يحتلون “مكانة دونية بموجب الشريعة اليهودية [القديمة]، أو أن يهاجروا، أو أن يبقوا ويقاوموا.
وقال لهم إنهم فيما لو اختاروا المسار الثالث، فإن “قوات الدفاع الإسرائيلية” تعرف ماذا تفعل. وما عسى ذلك أن يكون؟ “قتل أولئك الذين لابد من قتلهم” ماذا، عائلات بأكملها، النساء، الأطفال؟ فأجاب: “في الحرب كما في الحرب”.
ما يسميه المستوطنون الإسرائيليون طاقة الثمن، وصفًا للهجمات الانتقامية التي يشنونها على المجتمعات الفلسطينية في الضفة الغربية – فيجتثون أشجار زيتونهم المعمرة، ويسرقون مواشيهم، ويسممون المياه في آبارهم وما إلى ذلك – لم يزل يتصاعد بوتيرة منتظمة عبر السنين، ولكن خلال شهرين من تقلد اليمين المتطرف – أو ما يسمى الصهاينة المتدينين – الحقائب الوزارية حصلت قفزة هائلة في ذلك نوعًا وكمًا.
قام أربعمئة منهم في أواخر فبراير (شباط) من العام الماضي، يرافقهم جنود نظاميون يفترض أنهم مكلفون بضبطهم، بدخول حوارة، وهي بلدة يسكنها ما يقرب من سبعة آلاف نسمة، فعاثوا فيها فسادًا وتدميرًا، وأشعلوا النيران بخمسة وسبعين منزلًا وبمائة سيارة، ومن بين الممارسات الوحشية العبثية التي قاموا بها ذبح ما لدى العائلات من حيوانات مستأنسة، من قطط أو كلاب، وضربها حتى الموت على مسمع ومرأي من الأطفال – ولم يتوقفوا إلا لفترة قصيرة أدوا فيها صلاة معاريف المسائية اليهودية، ثم عادوا لما جاءوا من أجله.
حتى أن أحد المجندين الشباب، الذي شهد الهجوم كله طوعًا أو كرهًا، وصف ما جرى بأنه “ليلة تكسير الكريستال”، في إشارة إلى المذبحة التي ارتكبها النازيون في أرجاء ألمانيا في نوفمبر من عام 1938.
وهذا ما خلص إليه الكاتب الإسرائيلي ناحوم بارنيا في مقال له في موقع واي نيت، قائلًا: “لقد تم إحياء ليلة تكسير الكريستال في حوارة”.
لم يأمرهم سموتريتش بالقيام بهذا الفعل، ولكن الترقية المفاجئة والمذهلة لبطلهم حتى غدا يحتل واحدًا من أعلى المناصب الحكومية هو الذي جرأ أتباعه على ذلك. وهو الذي بمجرد أن انتهى أتباعه من الهجوم حتى سارع بحماسة إلى الإشادة به – فيما عدا مسألة إجرائية أساسية واحدة. حيث قال: “نعم، أعتقد أن حوارة يجب أن تمسح تمامًا، ولكن هذا ما يجب على الدولة – وليس على المواطنين لا سمح الرب – أن تقوم به.” ومضى ليقول إنه في الوقت المناسب سوف يطالب “قوات الدفاع الإسرائيلية” بالقيام “بضرب المدن الفلسطينية بالدبابات والطائرات العمودية – بلا رحمة، وبأسلوب يُفهم منه أن مالك الأرض قد أصيب بلوثة من الجنون.”
قد يرى كثير من الناس أن التدمير والتخريب الذي نال حوارة له طعم الخطة التي ينوي سموتريتش تنفيذها، ولا أدل على ذلك، في تصور المرء، مما لاحظه المؤرخ دانيال بلاتمان من أن سموتريتش يتقمص شخصية يوشع، مرتكب الإبادة الجماعية في الزمن الغابر، وإن كان النموذج الأكثر حداثة، من وجهة نظره، لمثل هذا الشرف هو هنريك هيملر، المهندس الرئيس للمذبحة (الهولوكوست).
هوامش معتوهة
في معظم أرجاء العالم، مازال تشبيه الإسرائيليين، أو اليهود بشكل عام، بالنازيين من المحرمات، من المحظورات، بل هو معاداة السامية في أبشع صورها.
ولربما لهذا السبب خلصت أستاذة علم الاجتماع الفرنسية المرموقة إيفا إيلوز إلى أن من المفارقات العجيبة جدًا أن مواطني “الدولة اليهودية” يستشهدون في حديثهم اليومي بأوجه الشبه مع الممارسات الهتلرية “أكثر مما يجرؤ عليه أي مجتمع آخر في العالم.”
بمعنى آخر، وللتعبير عن ذلك بصراحة أشد، يصف الإسرائيليون بعضهم البعض على الدوام بالنازية، أو، ما هو أكثر شيوعًا بينهم هو أنهم ينزعون نحو استنكار ما يرونه من ممارسات فيما بينهم باعتباره سلوكًا شبيهًا بالنازية.
خذ على سبيل المثال إيتامار بن غفير، زعيم حزب القوة اليهودية اليميني المتطرف والوزير في حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. بدأ هذا الشخص ما يمكن أن يوصف مجازًا بمساره السياسي كبلطجي شرير يعيث فسادًا في شوارع القدس. فلقد اتهم بارتكاب جرائم ما لا يقل عن خمسين مرة وأدين ثمان مرات بتهم مثل التحريض والعنصرية وتأييد منظمة إرهابية.
لربما كانت المرة الأولى التي ذاع فيها صيته وحقق شهرة على مستوى البلد تلك التي في عام 2015 عندما انتشر كالنار في الهشيم مقطع فيديو له وهو يشارك في حفل زفاف أحد المستوطنين. في الفيلم، يشارك الفتيان الذكور في شعيرة طعن صورة لطفل عربي رضيع، هو سعد الدوابشه، الذي كان قبل وقت قصير قد قضى حرقًا على يد أحد رفاقهم، الذي أشعل النار “باسم المخلص” في منزل داخل قرية دوما الوادعة في الضفة الغربية.
أشاد بهم بن غفير واصفًا إياهم “بالأولاد الحلوين”، وبأنهم “ملح الأرض”، وبأنهم “خيرة الصهاينة”.
ولكن على الرغم من تلك الشهرة المفاجئة التي حققها لتوه، ظل – في تصور عامة الجمهور – عالقًا، مثله في ذلك مثل سموتريتش، في الهوامش المعتوهة للحياة السياسية في إسرائيل.
بل وحتى نتنياهو، والذي هو أبعد ما يكون عن الإنسان الليبرالي أو اليساري، ظل مصرًا على النأي بنفسه عنه، يأنف منه كما لو كان مصابًا بالجذام، إلى أن قرر، بدافع حاجته الماسة إلى تشكيل حكومة، بأن أفضل السبل نحو القيام بذلك ليس مجرد دعوة الاثنين للانضمام إليه، بل والخضوع كذلك لشروطهم الابتزازية مقابل الاستجابة له.
طالب سموتريتش بأن يسلم مقاليد الأمور في الضفة الغربية، وهو الأمر الذي كان من قبل حكرًا على الجيش، بينما اشترط بن غفير تكوين وزارة جديدة بالكامل اسمها وزارة الأمن القومي، يتمكن من خلالها، إضافة إلى السيطرة على الشرطة النظامية، من تشكيل حرس وطني خاص به، هو حصريًا الآمر الناهي فيه.
بمجرد أن بدأ بتنفيذ ذلك، راح بعض من لديهم اطلاع على تاريخ ألمانيا النازية – والذين على الأغلب يوجد منهم بالنسبة لعدد السكان في إسرائيل أكبر عدد من أي مكان آخر في العالم ربما باستثناء ألمانيا نفسها – يطلقون على حرسه الوطني لقب ستورمابتيلونغ (قوات العاصفة)، أو أصحاب القمصان البنية، وهو ما كان يطلق على المنظمة شبه العسكرية الشريرة التي اعتمد عليها هتلر في طول البلاد وعرضها لكي يصل إلى السلطة وتمكين حكمه الاستبدادي فيما بعد، إلى أن حل محلها جهاز شوتزستافيل أو الإس إس (فرق الحماية).
أول من عينهم بن غفير، رئيس ديوانه، لم يبدد الكثير من تلك المخاوف. كان ذلك شاناميل دورفمان، الذي يبلغ من العمر 72 سنة. كان دورفمان واحدًا من أولئك “الأولاد الحلوين” وزعيم الذين شاركوا في شعيرة الطعن فيما بات يعرف باسم “زفاف الكراهية”. نقل عن دورفمان في أول حديث له بعد تسلم منصبه أنه قال لناقديه إن مشكلته الوحيدة مع النازيين هي أنه في حالتهم سيكون ضمن الطرف الخاسر.
مناسبة للنازية الجديدة
طوال عام 2023، وحتى السابع من أكتوبر الذي شنت فيه حماس هجومها على جنوب إسرائيل فأوقف الحياة فيها ذعرًا، لم تزل إسرائيل تغرق أكثر فأكثر في حالة متفاقمة من الغليان بسبب ما أطلق عليه تعديلات نتنياهو القضائية.
أحد المشاركين في مسيرة معارضة للتعديلات ومدافعة عن الديمقراطية، وهو المؤرخ يوفال نوح حراري، أعرب عن صدمته بما اكتشفه من معاني كلمات أغنية سمعها تنبعث من تظاهرة مجاورة لأنصار التعديلات القضائية وأنصار النظام الحاكم.
كان لحنها جذابًا كما قال، لدرجة أنه بدأ هو نفسه يترنم بها – إلى أن بحث عنها عبر اليوتيوب حيث حظيت بآلاف المشاهدات، ليكتشف مشمئزًا أن كلماتها كانت على النحو التالي:
من الذي سيحترق الآن؟
حواره!
البيوت والسيارات!
حواره!
إنهم يخرجون السيدات المسندات، النساء والفتيات؛
إنها تحترق طوال الليل!
حواره!
احرقوا شاحناتهم!
حواره!
احرقوا شوارعهم وسياراتهم!
حواره!
ليست خسيسة تمامًا، كما هو واضح، مثل أغنية “عندما يلطخ الدم اليهودي السكين” التي كان يرددها عناصر فرق القتل التابعة للمليشيات النازية أو الإس إس، رغم أن أحد المعلقين الإسرائيليين شببها بها، وإن كانت لا تختلف عنها كثيرًا في روحها.
ثم هناك مؤسسة فاشية أخرى، ألا وهو مسيرة الأعلام السنوية، التي تحتفل بالاستيلاء على القدس في الحرب العربية الإسرائيلية في عام 1967.
وهذا عبارة عن مهرجان للجعجعة الاستعراضية وللعدوانية، ينطلق فيه الشبان، بل في الواقع جميع المستوطنين في البلد، في مسيرة عبر مركز المدينة العربية العتيق. وبينما يتدافعون ويحشرون أنفسهم عبر ممراته الضيقة، ترتفع أصواتهم بهتاف “الموت للعرب” أو بهتاف “فلتحترق قريتهم”، ويصدرون التهديدات، ويصبون اللعنات، ويبصقون على أي فلسطيني جاء به سوء طالعه، أو تهوره، فاعترض طريقهم. يقومون في بعض الأوقات بطرحه أرضًا ويوسعونه ضربًا وركلًا كما يحلو لهم. أحيانًا يتعرض لهذا المصير كذلك حتى الصحفيون أو المصورون اليهود.
تحت عنوان “مناسبة للنازية الجديد”، كتب الصحفي النشط جدعون ليفي في مقال له في صحيفة هآريتز يقول: “كم هو كبير وجه الشبه بين ذلك وبين صور اليهود في أوروبا وهم يتعرضون للضرب عشية المحرقة.”
أين كانت تلك النازية اليهودية في أخبث وأخطر صورها؟ من الواضح أنها أخطر ما تكون على الفلسطينيين، أول من تستهدفهم وبشكل مباشر. ولكنها في نهاية المطاف، وكما سوف يثبت الزمن، تهدد بالخطر دولة إسرائيل ذاتها.
مكانيًا وعملياتيًا، تتركز النازية اليهودية بشكل أساسي في الضفة الغربية، وهو المكان الذي عرّف فيه لأول مرة وفيما يشبه النبوءة، كما هو مشهور عنه، الراحل البروفيسور يشاياهو لايبوفيتز، الأستاذ المحبوب جدًا، الظاهرة وأطلق عليها هذا الاسم.
معنويًا وعاطفيًا، سكنت في قلوب وعقول من هم على شاكلة بن غفير وسموتريتش، من المستوطنين المتدينين، والكثيرين ممن يتعاونون معهم داخل الحكومة والجيش وفي أوساط الجمهور العام. معظم هؤلاء متدينون أيضًا، ولكن بعضهم من العلمانيين أو القوميين الغلاة ممن يشتركون معهم في طموحاتهم الكبرى، ولكن لا يشتركون معهم في معتقداتهم الدينية.
برزت الظاهرة بادئ ذي بدء بعد الحرب العربية الإسرائيلية في عام 1967. وإليكم السبب في ذلك.
كانت الصهيونية، على الأقل فيما يبدو من ظاهرها، علمانية بشكل حازم، بل وعقيدة مناهضة للكهنوت. وكانت بالنسبة للحاخامات في الشتات، أو لنقل بالنسبة للغالبية العظمى منهم، تمثل انحرافًا، وخطيئة، بل “تمردًا ضد الرب”.
أما داخل إسرائيل/فلسطين ذاتها، فقد بدأت في النمو التدريجي حركة تتبنى تفسيرًا دينيًا للصهيونية. كانت تلك بالفعل حركة راديكالية وثورية، ذات تطلعات “للدولة اليهودية” تتجاوز تلك التي كانت لدى العلمانيين.
ففيما يتعلق بالأرض، على سبيل المثال، اعتبرت هذه الحركة أن كل الأرض هي أرض إسرائيل التي وعدها الله لإبراهيم وذريته من بعده فيما أخذه عليه من ميثاق. في حدها الأدنى، تشتمل هذه الأرض كما أفتى بذلك حكماؤهم عبر الزمن، على يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وغزة، بالإضافة إلى مساحات واسعة مما هو اليوم لبنان وسوريا والأردن.
رسالة من الرب
بالنسبة لهؤلاء الصهاينة المتدينين، كان انتصار إسرائيل التاريخي في حرب الأيام الستة عام 1967، والذي بدا لهم معجزة، رسالة من الرب، أن امضوا قدمًا، استولوا على هذه الأراضي المفتوحة حديثًا واستوطنوا فيها، فهي أراض مقدسة كانت قد شيدت فيها ذات يوم في الزمن السحيق ممالك يهودية.
كانت أمامهم مهمات عديدة لتمهيد الطريق أمام الخلاص ومجيء المهدي المنتظر. بالنسبة لهم، لربما كانت أكثر المهمات مهابة، ناهيك عن كونها نبوئية، هي إعادة بناء الهيكل اليهودي العتيق في نفس الموقع الذي توجد فيه حاليًا قبة الصخرة والمسجد الأقصى. ولكن، في هذه الأثناء، غدا هذا الاستيطان للأرض هو العمل الأنسب على المدى القريب المباشر.
إلا أن طريقهم نحو الخلاص يجازف بالتحول إلى طريق يفضي إلى تدمير إسرائيل. هذا على الأقل ما خلص إليه موشيه زمرمان، العالم المتخصص بالتاريخ الألماني، والذي يشارك حاليًا في مشروع بحثي بعنوان “أمم أصيبت بلوثة من الجنون”. يقول زمرمان إن ذلك بالضبط ما فعلته ألمانيا في عام 1933 حينما صعد فيها هتلر. ولقد بدأت إسرائيل بفعل ذلك بعد حرب عام 1967، وتجلى ذلك بوضوح في حركة الاستيطان في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.
كان ذلك بلا منازع مشروعًا “يهوديًا نازيًا” يقوم عليه جيل غير مسبوق من المتدينين المتحولين نحو الصهيونية، والذين انطلاقًا مما هم غارقون فيه من عقيدة مستحدثة تقوم على العنف والانتقام، يبررون كل فعل تقريبًا من شأنه أن يخدم قضيتهم المقدسة من وجهة نظرهم.
من أبرز هؤلاء الناس المرشد الروحي لبن غفير نفسه، الحاخام دوف ليور، الذي اشتهر عنه ذات مرة قوله بحق الطبيب الإسرائيلي الأمريكي باروخ غولدستين، الذي أجهز بمدفع رشاش في عام 1994 على تسعة وعشرين مصليًا في المسجد الإبراهيمي بمدينة الخليل: “إنه شهيد أقدس من كل الشهداء المقدسين الذين قضوا نحبهم في المحرقة.”
كما يرى زمرمان، فإن “حكاية المستوطنات” هي حكاية “الرومانسية التوراتية” التي “تجر المجتمع بأسره نحو الهلاك”، والطريقة “المنطقية” الوحيدة لوضع حد لذلك هو “حل الدولتين” للصراع العربي الإسرائيلي وما يترتب عليه من انسحاب إسرائيلي كامل من جميع الأراضي المحتلة.
وقال: “والبديل هو إما أن ننفذ عملًا ضد الفلسطينيين مثل ذلك الذي قام به النازيون، أو أن ينفذ الفلسطينيون عملًا نازيًا ضدنا.”
إنه لتحذير كيس بالفعل: فقد تلقوا هم – والعالم – الأمرين معًا.
لقد كان هجوم السابع من أكتوبر بالنسبة لإسرائيل بمثابة الحادي عشر من سبتمبر. لقد كان عملًا بطوليًا مرموقًا، وكان مفاجئًا ومذهلًا، بديعًا في تنفيذه، أو يكاد، وإجراميًا بنواياه، ونبوئيًا بعواقبه وتبعاته، كما كان هجوم أسامة بن لادن بالطائرات الأمريكية المخطوفة على البرجين في نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) من عام 2001.
لا ريب في أن الانتقام كان حافزًا مهمًا من وراء ما قامت به حماس من فعل “يشبه أفعال النازية”. إلا أن الهجمات مثلت كذلك شيئًا آخر، فقد كان ذلك استعراضًا باهرًا لعمل “مقاوم” أو “للنضال المسلح”، الذي لا يجدون سواه سبيلًا نحو “التحرير” – وهو هدف تستمر حماس، على الأقل رسميًا، في تعريفه بأنه استعادة فلسطين كاملة، بما في ذلك الجزء الذي يسمى الآن إسرائيل.
أما بالنسبة لإسرائيل، فقد كان فعلها أيضًا “يشبه أفعال النازية”. لقد كان انتقامًا، ولكنه كان من حيث الحجم والزمن والضراوة على مستوى يبدو معه بالمقارنة ما أقدمت عليه حماس فعلًا مثيرًا للشفقة.
أهداف إسرائيل المتغيرة
في هذه الأثناء، ظل هدف إسرائيل – ألا وهو تدمير “منظمة إرهابية” – يتغير ويتبدل، صحيح بشكل غير رسمي، ولكن بشكل فعال، حتى غدا شيئًا مختلفًا تمامًا، وبات لا يقل، في الحقيقة، عن تقدم عظيم آخر في إنجاز مخطط الرب الذي أراده لشعبه المختار – أي فرض السلطان اليهودي الكامل على جميع فلسطين من النهر إلى البحر، ومسح الوجود العربي فيما بينهما، أو تقليصه إلى الحد الأدنى، وفي نهاية المطاف تحويل دولة إسرائيل “اليهودية الديمقراطية” الحالية إلى دولة “يهودية دينية”، تحكمها – فيما لو تمكن سموتريتش من تحقيق مراده – الشريعة اليهودية من زمن الملك داود.
ذلك على الأقل هو الانطباع المتشكل لدى الصهاينة المتدينين عن الحرب التي تدور رحاها منذ أكثر من عام. إنها الحرب الأطول والأكثر دموية منذ النكبة الفلسطينية في عام 1948 – وهم مبتهجون بها.
فهذه، كما يزعم حاخاماتهم وغيرهم من مثل هؤلاء الكواكب الدرية، أوقات “رائعة” بل “وإعجازية”، ودليل متجدد على أن الرب مازال عاكفًا كما كان باستمرار على تحقيق “خلاصهم” – الذي سادت حوله شكوك بعد انسحاب إسرائيل، الذي كان مثار خلاف شديد، من غزة في عام 2005، وها هو الرب يأمرهم الآن بالعودة إلى هناك ثانية.
بعد مرور ثلاثة شهور على الحرب، وفي مؤتمر قيل إنه كان “مبهجًا” بما تحقق لإسرائيل من نصر، قطعوا على أنفسهم عهدًا، ومعهم جوقة من الوزراء وأعضاء الكنيست الحاضرين معهم – في خضم كل الغناء والرقص – بأن يعودوا إلى غزة، ويفضل أن يكون ذلك بالتزامن مع “الهجرة”، “طوعيًا” أو قسرًا، منها من قبل السكان الفلسطينيين فيها. ولكن إلى أن يتحقق ذلك، فبدونه.
في هذه الأثناء راح الجنود المتدينون، والذين انتابهم إحساس بأن “ثمة ما هو رائع” في متناول اليد، يقيمون المعابد اليهودية المؤقتة على الأجزاء “المحررة” من قطاع غزة.
وفي الضفة الغربية، ينهمك سموتريتش في تنفيذ المشاريع الاستيطانية الجديدة الضخمة، في خضم ارتفاع كبير في عدد القرى والبلدات التي تتعرض لما تعرضت له حوارة، وما يفضي إليه ذلك من إجبار الفلسطينيين على الخروج من أراضيهم وقراهم التي عاشوا فيها منذ القدم جيلًا بعد جيل.
يترافق خوض الحرب الكاملة ضد لبنان مع حديث مبتهج عن احتلال واستيطان جنوب لبنان، والذي ما فتئوا يعتبرونه جزءًا من أرض إسرائيل الكبرى، وصولًا إلى نهر الليطاني، الذي من المفروض أنه حدود المنطقة المحايدة بين البلدين.
إذن هي أوقات رائعة بالنسبة لبعض الإسرائيليين، وخصوصًا، بالطبع، بالنسبة لأتباع اليمين المتطرف، تلك الأقلية من الغلاة الذين يدير زعماؤهم البلاد بعد أن أحكموا قبضتهم بالكامل على نتنياهو.
أما بالنسبة لآخرين، ومن بينهم ذلك القطاع الأكثر عقلانية وعلمانية أو المعتدل دينيًا – والذي هو الآن في انحسار، فإن تلك هي بداية ما يشعرون أنه زمن الجنون، زمن استكمال – ما أطلق عليه أحدهم – “مسيرة السخافة” التي انطلقت بادئ ذي بدء بعد حرب عام 1967. ولعل ما هو مذهل حقيقة أنه في كل مكان آخر من العالم يتحدث الناس في الخطاب السياسي عن اليسار مقابل اليمين، وعن الديني مقابل العلماني، وعن الثري مقابل الفقير. أما في إسرائيل اليوم فبات الحديث وبشكل متزايد عن “العاقل” مقابل “المجنون”.
إذن، وبعد كل ما قيل، هل ينتهي أمر هذا الجنون الإسرائيلي فعليًا إلى أن يكون مكافئًا لذلك الذي أسقط ألمانيا النازية، كما يرى زمرمان؟ أيًا كان المآل، أشك في أن المؤرخين في المستقبل سوف يجدون سببًا للاختلاف معه في كثير مما بدر منه بهذا الشأن.
من المثير للاهتمام، أن مؤرخًا معاصرًا – ليس في الحقيقة سوى نفس يوفال هراري الذي صدمته تلك الأغاني التي تحاكي النازية – يشير إلى قياس تاريخي آخر أكثر تطابقًا، كما يبدو لي، بل ويهودي خالص، ألا وهو ما وقع بين المتعصبين والهيلينيين.
ففي منتصف القرن الأول بعد الميلاد، كان المتعصبون، كما عرف عنهم، أشبه بالصهاينة المتدينين في هذا الزمن. لقد كانوا غلاة من نمط ينزع نحو الجنون والإجرام، وكانوا لا يتورعون عن مقابلة الهيلينيين بخناجر مسلولة، ولم يكونوا سوى مواطنيهم، ولم تكن جريمتهم سوى أنهم استلهموا من الفكر الهيليني السائد في ذلك الزمن وفي ذلك المكان ما قرروا بناء عليه، فيما يبدو، أنه يوجد في الحياة ما هو أكثر من مجرد الكآبة الناجمة عن عبودية للرب لا إنسانية فيما تفرضه على الناس.
كان ذلك انقسامًا أساسيًا في المجتمع لا يختلف كثيرًا عما هو حادث اليوم في إسرائيل – وكان مساهمًا خطيرًا في الفاجعة النهائية التي حلت بذلك المجتمع، أي الغزو الروماني، وتدمير الهيكل، وأخيرا تشتت اليهود في المنافي لقرون قادمة.
المهم في الأمر أن هراري ليس وحيدًا فيما ذهب إليه من هذه التأملات التي تبعث على الانقباض.