هل تخاطر إسرائيل بحرب إقليمية شاملة؟
تكاد كرة اللهب التي تدحرجها إسرائيل في المنطقة أن تشعل الإقليم كله، فهي لا تفتأ تفتح جبهة تلو أخرى في سعي حثيث إلى الحرب، يبدو معها أن طوفان الأقصى لم يكن إلا ذريعة استغلتها تل أبيب لقدح شرار هذه المعارك المتتالية، وبدء سيناريو مدروس مسبقا لتحقيق مكاسب ميدانية وإقليمية.
وهذا ما يطرح سؤالا مهما وخطيرا: هل نحن مقبلون على حرب إقليمية شاملة وطويلة؟ أو بالأصح: هل بدأت هذه الحرب؟
مركز الجزيرة للدراسات نشر ورقة تقدير موقف حملت عنوان “المخاطرة الإسرائيلية: حرب إقليمية شاملة وطويلة”، تناولت المقاربة الإسرائيلية للحرب على لبنان، والنهج الدفاعي الذي يتبناه حزب الله فيها، كما تطرقت إلى الموقف الإيراني واحتمالات تطوره، وكذلك إلى الموقف الأميركي من الإستراتيجية الإسرائيلية، ومن توسع الحرب في الشرق الأوسط، وتحولات هذا الموقف المرتبطة بالانتخابات التي يوشك ناقوسها أن يقرع.
وأشارت الورقة إلى أن هذه الجولة من الصراع العربي الإسرائيلي كشفت منذ اندلاعها عن عجز المنظومة العربية الإسلامية عن التأثير في مسار الحرب، سواء بالتدخل المباشر أو عبر التحرك الفعال على المستوى الدولي، كما كشفت عن محدودية التأثير الروسي الصيني في القرار الدولي، ولا سيما فيما يتعلق بالأزمات البعيدة عن الجوار القريب لهاتين القوتين.
المقاربة الإسرائيلية في لبنان
أما في إسرائيل، فقد ارتفعت أصوات الطبقة الحاكمة بالدعوة إلى التوجه نحو الشمال وإطلاق حملة واسعة ضد حزب الله منذ الأسابيع الأولى لتبنيه سياسة إسناد غزة. لكن الأرجح أن قيادة الجيش رأت أن الجبهة اللبنانية عبء ثقيل يصعب تحمله، لذلك تريثت إلى أن تقلص حجم العمليات في قطاع غزة منذ نهاية أغسطس/آب 2024، ليتجه الجيش الإسرائيلي نحو الشمال ويبدأ عملياته في الجنوب اللبناني.
ونظرا لما تكشّف من طبيعة العمليات الإسرائيلية هناك، فإن الورقة ترجّح أن تستمر حملة القصف الجوي لكافة المراكز التي يعتقد الإسرائيليون أن لها علاقة بحزب الله، العسكرية منها والمدنية الخدمية، وأن تستمر حملات تهجير اللبنانيين واستهداف المساكن والمعامل والمزارع في الجنوب والضاحية والبقاع، ومحاولات اغتيال قيادات الحزب وكوادره، وقد تتطور الاختراقات البرية في الشريط الحدودي، ويبلغ قصف أهداف خارج مناطق نفوذ الحزب التقليدية، ليشمل بنى تحتية لبنانية لا علاقة لها بالحزب أو حاضنته. بل إن الحملة على مواقع الحزب في سوريا قد تتطور إلى غزو العمق السوري.
أما الحزب، فإن سياسته الدفاعية تقوم على شقين: الأول يتعلق بالتعامل مع كافة محاولات التوغل الإسرائيلي برًا على طول الحدود، أو بحرا على طول الساحل الممتد من جنوب بيروت إلى رأس الناقورة. والثاني التصعيد التدريجي في القصف الصاروخي وهجمات الطائرات المسيّرة على الأهداف الإسرائيلية، سواء على مستوى عمق الأهداف أو نوعيتها.
وفي المجال السياسي، فإن ما يثير قلق الحزب هو التحركات التي بدأت بلقاءات الأحزاب المعارضة له في لبنان، وفي مقدمتها القوات اللبنانية التي يقودها سمير جعجع. إذ تتمتع هذه التحركات -كما يبدو- بدعم إقليمي ودولي، وتستهدف إعادة إنشاء معادلة القوة في الساحة اللبنانية، بانتخاب رئيس جديد للجمهورية بمعزل عن إرادة الحزب، والتوجه إلى تطبيق القرارين الدوليين 1559 و1701، ووضع نهاية للحرب على لبنان، ومن ثم نزع سلاح الحزب وتحويله إلى جماعة سياسية فقط، وحصر السلاح بيد الجيش اللبناني.
أما بالنسبة لإيران، وبالرغم من أنها ليست طرفاً مباشراً في الحرب على غزة ولا في الجبهة اللبنانية، فإنها طرف بالغ التأثير، وقد تتطور علاقتها بالحرب من الاشتباكات المتقطعة مع إسرائيل (الرد والرد المضاد) إلى الاشتباك المتصل والأوسع نطاقاً.
وقد كان واضحا منذ بداية الحرب أن إيران -مثل حزب الله- لم تكن تريد الانخراط المباشر فيها، لكن يبدو أن وتيرة الرد الإسرائيلي المرتقب وحجمه وأثره، ثم الردّ الإيراني المضاد المتوقع، سيمثلان منعطفًا حرجًا في تحديد طبيعة المواجهة الإسرائيلية الإيرانية. ففي حالة التصعيد الاستراتيجي للمواجهة، وإفلات الردود والردود المضادة من التحكم، لا يستبعد أن تلجأ إيران إلى فتح الجبهة السورية، وتشجيع حلفائها في العراق واليمن، فضلا عن لبنان، على تصعيد هجماتهم على إسرائيل.
تحولات الموقف الأميركي
يعلن الأميركيون أنهم لا يريدون توسع الحرب في الشرق الأوسط، أو على الأقل هذا ما يكرره الرئيس جو بايدن وكبار مسؤولي إدارته، لكن هذه الإدارة أحجمت منذ بداية الحرب عن ممارسة أي ضغوط ملموسة على حكومة نتنياهو، ولم تتوقف ولو للحظة عن الاستجابة لحاجات ومطالب إسرائيل التسليحية، فضلا عن حمايتها في مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية.
والواضح أن إدارة بايدن لا تعارض محاولة إسرائيل تقويض قوة حزب الله ومقدراته العسكرية، وإضعاف دوره السياسي في الساحة اللبنانية، وترى أن ثمة مؤشرات متزايدة على ضعف الحزب وإيران، وأن مزيداً من الضغط العسكري يمكن أن يفرض عليهما تراجعاً ملموساً في لبنان والإقليم.
لذلك فإن نسق الأحداث يشير إلى أن حكومة نتنياهو لا تزال مصرّة على مواصلة الحرب على لبنان، بالرغم من عجز الجيش الإسرائيلي عن تحقيق تقدم ملموس خلف الشريط الحدودي مع لبنان.
لكنّ حزب الله، وبالرغم من الضربات المؤلمة التي تعرّض لها في سبتمبر/أيلول، يبدو أنه قد استعاد توازنه، فقد أظهر منذ بداية أكتوبر/تشرين الأول الجاري تماسكاً ملموساً على الصعيد العسكري، تجلى في المقاومة الصلبة للتوغل الإسرائيلي بالجنوب، وفي القدرة على شنّ هجمات يومية بعشرات الصواريخ والمسيّرات على مواقع عسكرية وذات طابع إستراتيجي، من أقصى الشمال إلى حيفا وتل أبيب.
أما تطورات الاشتباك الإسرائيلي الإيراني، وما يمكن أن تفضي إليه جولات الرد والرد المضاد، فهو سباق آخر تترقبه الجبهة اللبنانية، خصوصا أن من غير المستبعد أن تنتظر القيادة الإسرائيلية إلى ما بعد الانتخابات الأميركية لتوجيه ضربة كبرى للمشروع النووي الإيراني.
في المقابل، يبدو أن إيران لم تحسم أمرها بعدُ بشأن اتجاه المواجهة مع إسرائيل، بين دفع حزب الله إلى تسوية سريعة بمعزل عن الحرب في غزة، أو تشجيعه وحلفائها الآخرين على تصعيد الهجمات ضد إسرائيل، أو العمل على فتح جبهة أخرى للحرب، ولا سيما في سوريا، الوثيقة الصلة بالجبهة اللبنانية، جغرافيا وإستراتيجيا.