صراع من أجل البقاء بين القصف والجوع والعطش شمال غزة
يُطارد مشهد طفل رضيع -يبكي بشدة، بينما يؤدي مواطنون صلاة الجنازة على أمّه- الصحفي معاذ الكحلوت، المقيم في منطقة شمال قطاع غزة، الذي يتعرض منذ 9 أيام لعدوان إسرائيلي واسع.
شهِد الكحلوت هذا الموقف القاسي أثناء تغطيته لانتهاكات الاحتلال قبل عدة أيام. ويقول “لا أستطيع أن أنسى هذا الموقف، يطاردني، حتى إنني من هول ما رأيته نسيت أنني صحفي ولم أصوره. فقد كان الرضيع يطلب أمه الشهيدة التي قتلها الاحتلال، وأطفال آخرون يتناوبون على حمله لعله يهدأ، ولكن دون فائدة”.
وتحاصر قوات الاحتلال شمال القطاع وبخاصة منطقة مخيم وبلدة جباليا، منذ 9 أيام، وسط استمرار القصف المدفعي وقنص المواطنين عبر استهدافهم بالطائرات المسيّرة صغيرة الحجم.
ويخشى الفلسطينيون أن يكون هدف العدوان الحالي تطبيق ما يعرف بـ “خطة الجنرالات”، التي تسعى إلى تفريغ منطقة شمالي وادي غزة بالكامل من السكان.
وأضاف الصحفي الكحلوت أن الأوضاع في شمال القطاع تزداد سوءا “كل دقيقة”، و”بين الفينة والأخرى يتقدم الاحتلال من جهة معينة وخلال تقدمه يدمّر بنى تحتية ومنازل المواطنين ومنشآت ومساكن ومزارع، وهذا الأمر يشدد الخناق على الناس”.
وذكر أن سكان الشمال يرفضون الانصياع لأوامر الاحتلال بالنزوح لمنطقة جنوبي وادي غزة، وينتقلون لمناطق أخرى داخل منطقة “الشمال” نفسها.
وعن الأوضاع المعيشية للسكان، يصف الكحلوت الحالة بالـ”مأساوية”، حيث لا تتوفر أدنى مقومات الحياة كالماء والطعام والخدمات الصحية. ويكمل “كل شيء متبقٍ من طعام وماء، على وشك النفاد”.
وتحدث عن موصلة الاحتلال ارتكاب جرائمه في “كل لحظة، حيث يسقط الشهداء بشكل مستمر، وجُلهم من الأطفال”.
إعدام الفارّين
من جانبه، يقول موسى سالم -من سكان بلدة بيت لاهيا– إنه شاهد كثيرا من جرائم الاحتلال التي ارتُكبت ضد سكان الشمال، خاصة الذين حاولوا النزوح إلى مدينة غزة.
وأضاف سالم “مع بدء العدوان والحصار حاولت الكثير من العائلات برفقة النساء والأطفال النزوح إلى مدينة غزة عبر دوار أبو شرخ الذي يفصل الشمال عن مدينة غزة، فتعمد قناصة الاحتلال قتلهم وإصابتهم”.
ويروي “كان مشهدا فظيعا، نساء يحملن أطفالهن ورجال، الكل يركض ويحاول الاقتراب من الدوار للنزوح لغزة والهروب من الموت، وكان الاحتلال يتعمد قنص الناس بالطائرات المسيّرة والمدفعية.. مشاهد مؤلمة جدا”.
وكشف سالم عن موقف آخر شاهده بعد أن قنصت طائرات من نوع “كواد كابتر” شابا هو وحيد أمه من الذكور، ورزقت به بعد سنوات طويلة، وجاءت والدته وشقيقاته كي ينتشلنه من الأرض وهو مضرج بدمائه وسط البكاء والصراخ، “كان مشهدا مؤلما”.
إبادة ممنهجة
بدوره، يستذكر طارق الدقس، المقيم في مخيم جباليا، موقفا مؤلما شاهده في اليوم الخامس من العدوان، حين لجأت سيدة مع أسرتها إلى مستشفى “اليمن السعيد”. ويضيف “الاحتلال لاحق السيدة -بعد ساعتين فقط من وصولها- وأطلق قنبلة حارقة على خيمتها في باحة المستشفى، مما أدى إلى استشهادها حرقا”.
ويقول الدقس إن أصوات التفجيرات ونسف المنازل لا يتوقف، مؤكدا المعلومات التي تتحدث عن فصل الاحتلال لشمال القطاع بشكل كامل عن مدينة غزة.
وأضاف الدقس “ما يجري هو إبادة جماعية ممنهجة، مجازر بالجملة، الاحتلال يدمر البيوت والطرقات، ويقصف المخابز وآبار المياه ومحطات تحلية المياه، وكل مناحي الحياة في الشمال، يريد أن يجعل المنطقة أرضا صفراء قاحلة ليجبر السكان على النزوح للجنوب”.
وهنا، أشار إلى إحراق الاحتلال للمخبز الوحيد المتبقي في الشمال، قبل عدة أيام، وهو مخبز “الشلفوح”، بالإضافة إلى تجريفه للآبار.
ولفت إلى خروج مستشفيي “الإندونيسي” و”العودة” عن الخدمة، في حين تبقى مستشفى واحد هو “كمال عدوان”، والذي يعمل بالحد الأدنى فقط، موضحا أن الأخير مكدس عن بكرة أبيه بالجرحى والنازحين.
لا يمكن وصفها
من جانبه، يروي حسن الزعانين، أحد سكان مخيم جباليا، قصصا مروعة لما يرتكبه الاحتلال من مجازر في شمال القطاع. وكشف عن مأساة تعرضت لها سيدة لها 4 أبناء معاقين بسبب إصابتهم بمرض “ضمور الدماغ” وعاجزين عن الحركة، وحوصرت في منطقة بئر النعجة، وقال “كنا نتواصل معها، لكننا فقدنا الاتصال بها، ولا ندري حتى الآن ما مصيرها وأولادها”.
ويضيف “لا تزال عمليات النسف والقصف مستمرة داخل مخيم جباليا، وخاصة في المناطق الغربية الجنوبية منه”. كما لفت إلى أن المدفعية والمسيّرات من نوع “كواد كابتر” تُطلق نيرانها بشكل “عشوائي وهمجي على كل من يوجَد في الأزقة والشوارع”.
وأشار إلى أن مستشفى كمال عدوان يفتقد للكوادر الطبية والأدوية والمستلزمات الطبية وهو ما يؤثر على قدرته على التعامل مع الجرحى الذين يصلون إليه.
وتسبب الحصار والعدوان بتوقف كامل للحركة التجارية والأسواق، وهو ما يعيق عملية تزوّد المواطنين بالمواد التموينية اللازمة.
ويضيف الزعانين “أوضاع الناس صعبة جدا لا يمكن وصفها، ولا توجد أي حركة بين المناطق، ومن ينتقل من منطقة لأخرى يتم استهدافه على الفور”.
ولفت إلى أن العدوان لا يتيح انتشال جثامين الشهداء، حيث تعجز فرق الدفاع المدني عن الوصول للكثيرين منهم، وتبقى جثثهم ملقاة في الشوارع.
ويضيف “وصلت العديد من المناشدات لطواقم الدفاع المدني لانتشال شهداء على الأرض وفي الطرقات، ممن حاولوا الخروج من منازلهم ولكن لم تتمكن الطواقم من انتشالهم”.
بدوره، حذّر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان -في تقرير أصدره الأحد- من أن “الذي ينجو من القتل والقصف المباشر في شمال القطاع، يبقى مهددّا بالموت جوعا أو عطشا”.
وأضاف أن السكان المحاصرين في منازلهم ومراكز الإيواء لا يستطيعون التحرك للبحث عن أي طعام في محيطهم.
وبيّن أنه رغم طلب جيش الاحتلال من السكان النزوح للجنوب عبر شارع “صلاح الدين”، فإنه يستهدفهم بمجرد خروجهم من منازلهم أو مراكز الإيواء التي يوجَدون فيها.
المصدر: الجزيرة