أخبار رئيسيةأخبار وتقاريرالضفة وغزةومضات

لا تعد كثيرًا إلى التاريخ.. بين يديك غزة!

براء نزار ريان

ما الذي يحصل لك حين تقرأ قصة بطوليّة وقعت في العصور الأولى؟
تقول لنفسك إن قلمَ كاتبها تصرّف فيها بعض التصرّف، وزيّنها ببلاغة أسلوبه، ولم يتوخَ نقلَ الوقائع بدقة، بل غلبَ عليه مزاجُ الوعظ، ولم يلتزم بصرامة التأريخ. وهذا أمرٌ طبيعي لأن وعيَ الإنسان ابنٌ لبيئته، فكل معنى لم يشهده المرء بعينيه، يصعب عليه تصديق وقوعه في التاريخ البعيد. بيد أن غزة وبعد عام من حرب الإبادة التي شنّتها عليها إسرائيل عقب طوفان الأقصى، صارت مثالًا قريبًا على القدرة البشرية في تقديم نماذج الصبر والرباط واعتناق المقاومة. ولم يكن الغزيّون اليوم نتيجة طفرة جينيّة أو مصادفة، بل حصيلة إعدادٍ تربويٍ فريد.

أحمد ياسين.. أثر الفراشة
لم يكن لإنسانٍ في عصرنا أثرٌ في وعي أهل غزّة مثل أثر الشيخ أحمد ياسين، من يوم كانوا يسمّونه الأستاذ أحمد، حتى لقّبه خصومه قبل مريديه بلقب “شيخ فلسطين”، وهو اللقبُ الذي كان يحبُّ أن يناديه به الرئيس الراحل ياسر عرفات.

كان الشيخ رحمه الله في السبعينيات والثمانينيات يتحرّكُ دعويًّا في دوائر متعددة، تبدأ من المدرسة التي يدرّس بها اللغة العربية والتربية الإسلاميّة، ومسجده بمخيم الشاطئ، المسجد الشمالي، الذي سمّي باسمه بعد استشهاده، ثم من خلال المجمع الإسلاميّ على مستوى القطاع، ثمّ في دائرة واسعة تشملُ فلسطين كلّها، حيثُ كان ينطلقُ في رحلات دعويّة تطالُها من أعلاها إلى أدناها، برغم التّعب والمشقّة اللتين تتضاعفان بسبب ظرفه الصحيّ.

بعد تحرر الشيخ من السجون الإسرائيلية سنة 1997، ابتدأت مرحلةٌ جديدةٌ من حياة الشيخ الدعويّة بغزّة، كانت السلطة الفلسطينية تلاحقُ قيادات الحركة الإسلامية بانتظام، بُعيد “ضربة 1996” التي كادت تستأصلُ الحركة أو وجودها الظاهر على الأقل، كانت السلطة تلاحقُ كوادر حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وتمنعهم من أدنى النشاطات وأبسطها، وتعتقلُ وتعذّب بلا حسيب أو رقيب، لكن الشيخ بعزيمته الحديديّة ورمزيّته الكبيرة وحالته الصحيّة التي تجعلُ اعتقاله مغامرةً كبيرة، انتزع لنفسه مساحةً لم تكن لغيره من قيادات العمل الإسلاميّ الحركيّة والدعويّة، وقام بواجب نفسه وإخوانه خير قيام، وقد أغضب ذلك السلطة منه مرارًا حتى فرضت عليه الإقامة الجبرية، ومنعت الناس من زيارته ولقياه عدّة مرات.

الشيخ أحمد ياسين

كان الشيخُ لا يفترُ عن الدعوة والتربية، له جدولٌ ممتلئٌ تمامًا بزيارات المساجد والوعظ والتعليم فيها، على طول القطاع وعرضه، والقطاع كثيرُ المساجد زاخرُها، وكان لا يدعُ مناسبة اجتماعيّة هامّة إلا ويحضرُها، قيامًا بالواجب الأخويّ، واستثمارا لها في الدعوة إلى الله عزّ وجل وحمل همّ فلسطين.

من أهمّ ما يُذكر للشيخ رحمه الله عنايته بالصّغار، فلم يكن يدانيه في اهتمامه بهم أحد، كانوا دائما محطّ نظره، وأولى أولوياته، وما صورتُه معهم في مسجد الخلفاء الراشدين وهو يجلسُ إليهم وحدهم، ويخصّهم دون الكبار بنفسه وبكلماته، إلا نقطةٌ في بحر اهتمامه بهم، وما فسح لهم من وقته وأفكاره ووصاياه.

كان يقول: “نحن واليهود في صراع على هذا الجيل، فإما أن يأخذه اليهود منا، أو ننقذه من أيدي اليهود”، كما روى عنه الوالد نزار ريان الذي استشهد في عام 2009 مع 15 من أفراد أسرته في قصف جوي على منزله في مخيم جباليا.

كان الشيخ ياسين رحمه الله إذا خرج في أيّ أمر من أموره، يلتفُّ الصغار حول سيّارته، فيأبى أن يتحرّك حتى يسلّموا عليه فردًا فردًا ويعرّفوا بأنفسهم ويحادثهم ويسألهم، مهما كلّفه ذلك من وقت، أو تسبب له في التأخّر.

كما كان يستقبلُهم في بيته مرحّبًا أعظم ترحيب، وكان يعاملهم كما يعامل أكابر الضيوف، وأذكر أنّ أجمل المجالس التي جمعتني بالشيخ، هي زياراتي له طفلا ضمن الأنشطة المسجدية أو الكشفية أو غير ذلك من النشاطات.

وكان للشيخ في نفوس أهل غزّة مكانةٌ عجيبة، كان بالنسبة إليهم مُدهشًا دهشةً لا تزيدُها الأيام إلا بهاء، فلا يتعوّدون وجوده، ولا يعتادون هذه المعجزة الإلهية السائرة فيهم اعتياد من يراها كلّ يوم، بل كلما اقترب منه أحدٌ ازداد به انبهارًا.

كان إذا حضر إلى مهرجان أو فعالية وقف الناسُ كلّهم على رؤوس أصابعهم، بل ربّما ارتقوا الكراسيّ، ينظرون إليه كأنّهم يرونه لأول مرّة، وهو الذي يعيش بينهم، ويصلّي معهم، ولا أظنّ أحدًا فاته السلامُ عليه ولو مرّة.

كان الشيخ رحمه الله انتصار الله عزّ وجلّ لعظماء الهمم من ضعفاء الأبدان، وإظهاره إعجازه فيهم، وإيداعهم سرّه العظيم، وكان أوضح مثالٍ لما يُسمّى أثر الفراشة، بضعف بدنها وجمالها، وأثرها الذي لا يزول.

المخيمات الصيفية والأنشطة اللامنهجية
يمتاز الشعب الفلسطينيّ، وخاصّة أهل غزّة، بالخصوبة العالية، وكثرة الإنجاب، نصفُ سكّان غزّة من الأطفال، يعتني أهلُ غزّة أعظم عنايةٍ بالتّعليم، التّعليم هو الطريقُ نحو التميّز في الصغر، والفلاح في الكبر، هو فخرُ الآباء والأمّهات، والبوابة الوحيدة -تقريبا- إلى الحياة الكريمة الممكنة، ينهمكُ الصغار في الدراسة عامهم الدراسيّ طوعًا أو كرها، فإذا أتى الصيّفُ ضجّت بالصغار البيوت، فتتلقّفهم المخيّمات الصيفيّة، تشغلُهم عن الشغب على أهاليهم ومشاكسة أقرانهم، ولم تكن من مخيمات أعظم شعبيّة وأشدّ إقبالا عليها واطمئنانا من الأهالي من مخيّمات الحركة الإسلامية.

كان الناسُ يتفرّقون في السياسة، وتجمع أولادهم المساجد طيلة العام، ومخيمات الحركة الإسلامية في الصيف، تجدُ الكبار ذوي مناصب في هذا التنظيم أو ذاك، لكنّ أكثر الأولاد مع المدّ الإسلاميّ الصاعد، لا يملكُ الآباء له صرفًا، ولا يجدون لردّه دافعًا، بل لعلّهم أرضى وأكثر اطمئنانا.

هذه المخيّمات كانت أخصب تُربة تنبتُ فيها بذور الجيل الجديد، الذي امتلأ إيمانًا ثم حمل البنادق بأياديه النحيلة، وقاتل إسرائيل مرة بعد مرّة وصولًا إلى هجوم الطوفان.

كانت المخيمات نشاطا جامعا، وإلى جوارها كان كثيرٌ من الأنشطة الأخصّ والأكثر نخبويةّ، مثل مخيمات القادة الصغار، وكانت تُعنى بشكل خاصّ بأوائل الطلبة، وكان يُحاضر فيها كبارُ قادة الحركة، مثل الأستاذ عبد الفتاح دخان، والشيخ أحمد ياسين، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي والدكتور إبراهيم المقادمة، وعندي حتى الآن ورقاتٌ خطّها أخونا القساميّ إبراهيم نزار ريان والذي استشهد في 2001 إثر اقتحامه مستوطنة “ايلي سيناي” شمال قطاع غزة وتمكنه مع زميله عبدالله شعبان من قتل 3 صهاينة وإصابة 17 آخرين، كان قد دوّنها من محاضرات في أحد مخيمات الأوائل، وعليها هذه الأسماء الكبيرة، وحسبُك بها لتعلم اهتمام القوم بالنشء وتربيته، وما أولوه من أوقاتهم وعنايتهم.

أثر المساجد كمّا وكيفا
يكادُ المسجدُ في غزّة يكون مركزًا لكلّ شيء، المناطقُ تُسمّى بأسماء المساجد، فهذا حيُّ الخلفاء الراشدين، وذاك حيُّ التوبة، وذاك حيُّ الرباط، وهكذا، هذه كلّها أحياء متجاورة في “معسكر جباليا” تسمّت بأسماء مساجدها.

ثمّ المسجد مجتمع الناسُ في كلّ أمر، في طابقه الأول يُصلّون صلاتهم، وفي الطابق المتوسّط مصلّى النساء، وفي الطابق الأول فرعُ دار القرآن، ومكتبة المسجد، وفي الطابق الثاني قاعة الأنشطة، يُسمع فيها النشيد ويُعرض المسرحُ الإسلاميّ الشعبيّ، وتقام المعارض الفنيّة الثورية، فإذا حضر رمضان استحال معظم الطوابق مناماتٍ للمعتكفين في المسجد، يعتكفُ الشبابُ العشر الأواخر كاملةً، من مغرب يوم عشرين رمضان حتى صبيحة العيد، يصلّون الليل بطوله، ولا ينامون إلا قليلا بُعيد الفجر أو الشروق، يخرجون إلى أشغالهم وحياتهم من المسجد وإليه يعودون.

وهكذا أصبح المسجد هو بيت الله ودارُ أهله بغزة بكلّ تعنيه الدّار من معانٍ، ففيه يُكرّم أوائل الطلبة، أو في ساحته، وفيه يُعقد قرانُ كثيرٍ من المقبلين على الزواج، وفيه تُوزّع الحلويات في المناسبات الخاصّة والعامّة، لا سيّما عند انتصار المقاومة أو خيبة العدوّ.

ولعلّ الأثر العظيم للمساجد في غزّة، هو سببُ حقد العدوّ عليها، واستهدافه لها بالقصف الانتقاميّ، ولم ينجح العدوّ في إثبات ما ادّعاه حول احتوائها على وسائل قتالية، أو استعمالها في الأعمال العسكريّة، إنّما يلاحقُ فيها الفكرة التي عجزت صواريخه عن اقتلاعها!

أعاد الغزيّون للمسجد سالف عهده زمن النبيّ صلى الله عليه وسلّم وصدر الإسلام، حين أحيوا ذكر نبيّهم بتدراس أحاديثه وسيرته، وعملوا بسننه ووصاياه، وأسسوها على ما أسسه وأصحابه الكرام من التقوى والإيمان، وأنصفوها بعض الإنصاف بعد أن جارت عليها الدنيا ومعانيها المادّية، وأرادت لها أن تنزوي في حياة الناس مبنى وبعض معنى، “لمسجدٌ أسس على التقوى من أول يوم أحقُّ أن تقوم فيه”.

مجتمع قرآني
لأهل غزة مع القرآن الكريم خصوصية وفضل عناية، وهو أوّلُ تفسيرٍ خطر لي عندما كان الناسُ يسألون عن سرّ صبر أهل غزّة على الفظاعات المروّعة، هل يصبرُ شعبٌ على الإبادة! هل ما تحمّله أهل غزّة في قدرة البشر! ليس السؤال عن النجاة، وإنّما عن الصّبر، والتعبير الصادق الحارّ عنه، عن تحدّي العدوّ بالله وباسم الله، هذا كلُّه له أسرار، لكن القرآن الكريم هو سرُّه الكبير.

بعد الطوفان، بدأ الناسُ يكتشفون غزّة، يسمعون عن مخيّمات حفظ القرآن، ويرون صورها، وصور الشهيد فلان، والشهيدة فلانة في أروقتها، ويتابعون في دهشةٍ أخبار صفوة الحفاظ، وجلسات سرد القرآن الكريم غيبًا على جلسةٍ واحدة، من الصباح إلى الليل! من كان يعلم أن هذا ممكنٌ أصلا! لا أنّه يحدث، كان يحدثُ وطالما حدث في غزّة، كانت غزّة تخرّج عشرات آلاف الحُفّاظ كل عام، ومنذ حكمت حماسُ غزّة مرّ جيلٌ كاملٌ لا تكادُ تجدُ فيه طالبا متفوقا إلا ويحفظ الكتاب الكريم، ولا تكادُ تجدُ فيه مصلّيًا إلا ويقرأ القرآن بأحكام التجويد.

كان لدار القرآن الكريم والسنّة، المؤسسة الغزيّة العريقة، جهودٌ كبيرةٌ في نشر علوم القرآن الكريم بغزّة، إن في مراكزها الكبيرة، أو في فروعها بالمساجد، لا تمرُّ على بقعةٍ في غزّة إلا وتجدُ فيها دورات تجويد منعقدة لجميع المستويات، وبرامج حفظ تناسب جميع الأعمار، ودورات تثقيفية في علوم الكتاب الكريم تبُزُّ أفضل المعاهد والكليات المتخصصة.

ولم يكن الكتابُ الكريم حاضرا في أهل غزّة حضوره السمعيّ والبصريّ فحسب، بل أهمُّ حضور له كان في قلوبهم، لا سيّما لحظة الفزع، حين “يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت”.

في أحد مواقع التواصل، سأل ملحدٌ فتاةً عشرينية من غزّة عن الله أين هو؟ ولماذا يصنع بهم هذا!

فأجابته بالعاميّة:

“الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة

ربنا خلقنا وهو يعمل فينا ما يريد

الله الغنيّ ويؤخر الظالمين ليوم تشخص فيه الأبصار

الدنيا لا تساوي شيئا

اعمل اللي بدّك إياه، يوجد حساب بالنهاية وكل هذه المعاناة لا تساوي شيئا مقابل الجنّة”.

فتأمّلتُ الجواب فإذا هو كلّه معانٍ قرآنية صافية، فعقّبتُ بهذه الآيات:

“الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم”، “وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون”، “لا يُسأل عما يفعلُ وهم يُسألون”.

هذا أثرُ القرآن فيمن قرأ القرآن بقلبه، وتشرّبه بروحه، وتمثّل معانيه، وثبته الله به أيام الفزع في الدنيا، وهو المأمول أن يثبته به يوم الفزع الأكبر.

مدرسة الإخوان المسلمين
تنتمي حركة حماس -روحيًّا وتربويًّا- إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك فإنّ حركة الجهاد الإسلاميّ انبثقت من فرع الجماعة في فلسطين أيضًا، ولم يكن خلافُها مع الجماعة الأمّ إلا خلافًا حول أولويات العمل، لا حول الفكر وخاصّة الشقّ التربويّ منه. وإن كانت التنظيمات الإسلامية -خصوصا حماس والجهاد- شهد الصعود الأكبر في فلسطين منذ ثمانينيات القرن الماضي، مقابل انحسار لفصائل منظمة التحرير، فإنّ الفكر التربويّ الإخوانيّ وجد طريقًا لاحبة إلى عالم الأفكار في الجيل الغزّي، تأثّرت به الأجيال داخل فصائل العمل الإسلاميّ وخارجها.

ينتظمُ شبابُ حماس في نظام الأسرة الإخوانيّة المعروف، وهو عملٌ يشملُ جميع أفراد التنظيم، بما فيه المقاتلين، ويشملُ كذلك المقرّبين منه فيما يُعرفُ بالأسر التنشيطية، حيثُ يجلسُ الشبابُ مع أستاذٍ لهم ذي بصرٍ بالعلوم الشرعية، مزوّدٍ بعدّة منهجية من الكتب الفكرية المشهورة في مدرسة الإخوان، مثل تفسير في ظلال القرآن لسيّد قطب، ورسائل الإمام حسن البنّا، وسلسلة إحياء فقه الدعوة لمحمد أحمد الراشد، والسيرة الحركية لمنير الغضبان، ويتعلّمون طرفًا من الفقه على مذهب الشافعيّة، أو من كتاب “فقه السنّة” لسيد سابق، أما دروس العقيدة فكانت تجري في الغالب على مذهب الحنابلة، حيثُ درس أكثرُ مشايخ الحركة في الجامعات السعودية، ورجعوا منها حنابلة في الأصول، شافعيّة في الفروع.

كانت الأسر التنظيمية الدعوية تحظى بدرجةٍ لا بأس بها من الحريّة العلمية، فبوسع الشيخ/الأستاذ أن يقدّم ويؤخّر ويبدّل، وبوسع المنتظمين أن يختاروا، الثابتُ الوحيد هو الكتاب الكريم والسنّة المطهّرة، ولهم أن يختاروا أيضًا ما يحفظون منهما وما يدرسون، ويتعاونون على ذلك، وكانت الأسرة برغم كونها لقاء أسبوعيًّا واحدًا، مزدحم البرنامج والتفاصيل، بابا مهمًّا من أبواب العلم والتربية، نظرًا لدوامها، وطبيعة العلاقة التي تربطُ أفرادها.

زاد المقاتلين
كل مقاتلٍ في القسّام هو عضوٌ في تنظيم الإخوان الفلسطينيّ بالضرورة، له أسرته الإخوانية التي يلتزمُ بها وبواجباتها، والتزامُه بها هو جزءٌ من التزامه الجهاديّ، لكنّه أيضًا يحظى بعنايةٍ تربويّة خاصّة وإضافيّة، فتُعقد لهم دوراتٌ وأنشطة، على مستوى المجموعة أو الفصيل أو الكتيبة، تقامُ بالتنسيق والتعاون مع التنظيم الدعويّ.

وكثيرا ما كان القادة التربويون والعسكريون يطوفون على المرابطين في أيام الأمن والخوف عل السواء، يعظونهم ويثبّتونهم ويذكّرونهم بما هم عليه من شرف القيام بالواجب، وما يتطلّبه ذلك منهم من مراجعة النيّة وتجديد الإخلاص، وتهذيب الأخلاق، واستحضار معاني الصبر والثبات وحبّ الاستشهاد.

كما لم تخلُ الدورات العسكريّة من محاضرات تثقيفية، دينيّة ووطنيّة وعسكريّة، وكما نقل أحدُ المطّلعين، وقف يومًا قائدُ كتيبة في القسّام، في محاضرةٍ بدورة قنصٍ نُخبويّة، وقال: “إنّ فعل القتل ليس فعلا سهلا، إنّه إزهاق روح، وهو ليس سهلا على النّفس السويّة، وإن كانت روح عدوّ، يجبُ أن تدرّب نفسك على قرار قتل جنود الاحتلال وتستعدّ لذلك، تستحضر في نفسك عدوانه وإجرامه، وما سيصنعه إن لم توقفه، وتستجمعُ غضبك المقدّس عليه وعلى ما يمثّله، وتضغطُ برفقٍ على الزناد، لتنظّف بلادنا والعالم منه ومن أمثاله، ثم تسعد بذلك وتقرّ عينُك، وتنطلق في طلب المزيد”.

كان من تربية المجاهدين لمنتسبي القسّام إشراكُهم في الدفع على تجهزيهم، فيدفعُ المجنّد على تسليح نفسه، وكان من مذهبهم أن يجعلوا الأولوية في السلاح لمن يدفع نصف ثمنه، وهنا يكتسبُ الجنديّ والسلاح والانتماء العسكريّ معاني عظيمة، يقول الجنديّ لنفسه: هذا سلاحي الذي اشتريته بلقمة صغاري، وهذا مشروعي الذي أدفعُ فيه دمي ومالي، ولا أتكسّبُ منه غير الجهاد والاستشهاد على طريق تحرير بلدي.

وهذا الإشراك في المشروع والاستثمار فيه لم يقتصر على المقاتلين فحسب، بل كانت كتائب القسام كلّما شحّ عليها المالُ أعلنت حملة تبرعات شعبيّة، وما كان أكثر من يستجيبُ لهم محبًّا راضيًا، لا سيّما من النساء، كنّ يلقين حليّهنّ ومجوهراتهنّ في عباءة القسّام المنشورة للمتبرّعين، راضيات سعيدات، حامدات داعيات.

شخصيّة القادة
حظيت الحالة الجهاديّة الغزّية بقادةٍ شجعان، فكلُّ قادة حماس السياسيين كانوا يشاركون في الرباط على الثغور، بعضهم يشاركُ من وقتٍ لآخر، وبعضهم منتظمٌ في كتائب القسام مثل أصغر جنديّ فيها.

الشيخ نزار ريان

وهنا يحضُر ذكر الوالد رحمه الله، الشيخ الشهيد نزار ريان، أستاذ الحديث الشريف، والداعية والخطيبُ والقائد السياسيّ والجماهيريّ، فقد كان يشغلُ منصبًا في أعلى القيادة السياسية للحركة بغزة، وهو مع ذلك جنديٌّ في كتائب القسام بأصغر رتبة، وكان شديد الحرص والالتزام العسكريّ، يحضرُ إلى نقطة الرباط أول أفراد مجموعته، ولم تكن مشاركتُه رمزية أو معنويّة، بل كان إذا حميت المعركة تقدّم الصفوف حتى يقف على أقرب النقاط إلى العدوّ، ويطوفُ على المجاهدين من جميع الفصائل؛ دخل مرّة على مجموعةٍ فقالوا له: يا شيخ نحن من فتح، ظنّوه يقصدُ غيرهم، فقال لهم: وأنا من فتح، فتح التي تقاتل العدوّ وتصدّ العدوان عن المعسكر أنا منها!

واستيقظتُ ذات مرّة على صوت مروحيات العدوّ، فسمعتُ صوت إطلاق نارٍ قويّ، كان صوت مضادّات أرضيّة من العيار الثقيل، وكنتُ أسمعه لأول مرة، فقمتُ من نومي فزعًا حتى توقّف الصوتُ، ورحلت المروحيات، فلم يلبث أن طُرق باب البيت، فإذا بالوالد يدخل وبيديه فوارغ رصاصٍ كبير، فوضعها في غرفة أماناته، وقال لي: “إذا متُّ فاجعلوها في قبري!” فإذا هو الذي كان يطلق النار على المروحيّة، كان ذلك الموقف العظيم أشبه بعملية استشهادية، وكان احتمالُ أن تستهدفه مروحية الأباتشي أكبر بكثير من أن تدعه، لكنّ المفاجأة أذهلت العدوّ -وكان أمرا يحصل لأول مرة- ففرّت الطائرة الحربية من أمامه.

كان لحضور الوالد رحمه الله وغيره من قادة الحركة السياسيين والدعويين والتربويين في ميادين القتال، يتقدمون الصفوف ويثبتون الجند، ويغامرون بأرواحهم وهم المطلوبون للعدوّ، أثرٌ كبير في نفوس الجند والحاضنة الشعبية جميعًا، ثم كان بموقف الوالد وأهله وثباتهم في دارهم تحت تهديد القصف، حتى ارتقوا جميعا شهداء، ستة عشر إنسانا هم رجل واحد وأزواجه وأطفاله، أعظمُ درسٍ في الثبات أدّى إلى رفض مخطط التهجير وإفشاله.

لقد كان موقفًا صادرًا عن وعيٍ عميق، وفهمٍ للماضي والحاضر والمستقبل، أدرك نزار ريان رحمه الله أنّ أفضل خيارات الفلسطيني إذا قيل له: مُت أو اخرج من بيتك أن يختار الموت، فاختاره لنفسه وأهله راضيًا مدركًا أنّه أحسن خياراتهم الدنيوية قبل الأخروية.

وكان الوالد رحمه الله على رأس الحملة الشعبية للتصدّي لتهديد العدوّ بقصف البيوت، وطلبه إخلاءها قبل دقائق من القصف، عقابًا جماعيّا للحاضنة الشعبية للمقاومة، فكان أول الصاعدين على سطح بيت آل بارود الذي انطلقت منه حملة حماية البيوت المهددة بالقصف، ومن معسكر جباليا انطلقت الحملة حتى شملت القطاع بطوله، كان ذلك التمرين المرُّ إعدادا للحظة الأعظم بُعيد الطوفان.

فلمّا هجم العدوّ على شمال غزّة، وصبّ الحمم على رؤوس أهلها يريد تهجيرهم، صمد أكثرهم، وفي معسكر جباليا تحديدًا صبر أكثر من 70% من الناس، أمام موتٍ يحصد الأرواح بالمئات، ولم يكن المثال الصارخ الذي قدّمه شيخ المعسكر وداعيته بعيدًا منهم، لقد رأى الوالد ببصيرته طمع العدوّ ورغبته الدائمة في إخراج الفلسطيني من أرضه، فقدّم روحه وأرواح أعزّ الناس عليه ليقدّم المثال، ونسأل الله ألا يذهب دمه ودماء جميع من استشهد على دربه ثابتًا هدرًا.

المصدر : الجزيرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى