أهل السماح ملاح (1) هذا الذي أدخلك الجنة
ليلى غليون
بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسًا مع صحابته الكرام قال: “الآن يدخل عليكم رجل من أهل الجنة”، فدخل عليهم رجل من الأنصار، فلما كان الغد قال صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذاك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضا، فطلع نفس الرجل، مما زاد من شوق الصحابة لمعرفة السبب الذي جعله من أهل الجنة، فقرر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما محاولة اكتشاف الأمر، فذهب لهذا الرجل وطلب منه أن يبيت عنده بعض الليالي بحجة أن هناك خصومة حدثت بينه وبين أبيه، فوافق الرجل، وفي هذه الأيام كان ابن عمر يراقب الرجل في تصرفاته فلم يجده كثير صيام ولا كثير قيام، ولا وجد شيئًا مميزًا في عبادته إلا أنه قال له: يا عم قال عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا وأحببت أن أتعرّف على عبادتك التي أدخلتك الجنة، فقال الرجل: والله يا بني لا أزيد على الذي رأيت، ولكن إذا أردت أن أبيت وضعت رأسي على الوسادة وسامحت وعفوت عن كل من ظلمني وبت ليلتي لم أحقد على مسلم، فقال له ابن عمر: هذا الذي أدخلك الجنة.
التسامح والعفو والصفح كلها معان جميلة وراقية لخلق كريم ورائع يترك آثارًا طيبة على الفرد والمجتمع على حد سواء، فهو يورث في القلب الطمأنينة والراحة النفسية وفي نفس الوقت يرسي قواعد مجتمع مستقر آمن وخال من الأحقاد والضغائن والكراهية، كما أن التسامح من شيم الكرام عظماء النفوس، وكظم الغيظ من صفة الأبرار وديننا الاسلامي متأسس على هذه الفضائل التي يشهد لها الأعداء قبل الأصدقاء.
يقول تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } فصلت 34.
فما بال مجتمعاتنا اليوم تعج بالخصومات والمشاجرات والفرقة على أتفه الأسباب وأسفهها؟ ما بال الأخ لم يعد يطيق ولا يتحمل كلمة من أخيه ليقاطعه على إثرها الأيام والأسابيع وربما الشهور؟ ما بال الجيران وربما الأقارب وقد بنيت بينهم جدران شاهقة من القطيعة والكراهية، وإن فتشنا عن السبب وجدناه ربما مجرد شجار بسيط بين الأطفال، أو سوء تفاهم على حق أولوية في الشارع، أو نصف متر من الأرض أو يقل، حيث يدعي كل طرف أنه من حقه؟
ما بال الزوج يثور لأقل خطأ ترتكبه زوجته ولو لم يكن مقصودًا لتنشب نار الخلافات الزوجية وتعكر صفو سعادة الأسرة وينتشر هذا التعكير ويمتد ليشمل عائلة الزوج وعائلة الزوجة ويدخل الجميع في دوامة الخلاف الذي ربما يضع نهاية مأساوية للحياة الزوجية؟
بل ما بال الزوجة تستشيط غضبًا لتفعل ذات الشيء إذا أخطأ زوجها بحقها أو زل قليلًا لتنفجر أمامه كالبركان وتطلق قاذفات كلامها وتقول له “ما رأيت منك خيرًا ولا عشت معك يومًا سعيدًا”!!
وهي التي كانت بالأمس القريب تقول بأن زوجها خير الرجال لتبدأ تبوح بأسراره وتكشف مستوره، لا بل وربما تفتري عليه وتخبر بأمور ليست فيه، لتقطع بذلك حبال المودة بينهما وتهدم عشها الأسري وتشتت أطفالها، وقد نسيت هي، وقد نسي هو، أن العفو والحلم ليس فقط سيد الأحكام، بل هو صمام الأمان الذي يحفظ للأسرة (وللمجتمع) تراحمها وتماسكها وبقاءها، ولو وضع كل واحد منهما طاقة الغضب تحت إشراف العقل لملكا زمام الحكمة في السيطرة على الانفعالات التي لا تؤدي إلى خير ولو ملك كل فرد فضيلة الحلم والقدرة على امتلاك زمام النفس لكان هو بلا أدنى شك سيد المواقف كلها والكاسب في أي حال.
وقد قيل عن بعض الحلماء أن قلوبهم تغلي من الظلم، أما واقعهم فقد وصفه أحدهم:
ولربما ابتسم الكريم من الأذى وفؤاده من حره يتأوه
وقد قالها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: “ليس الشديد بالصرعة، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب”.
فما أعظمها من مكرمة، هي مكرمة العفو التي تدحر كيد الشيطان حين ينفث في النفس ويسول لها بالشر والحقد على الآخرين، وما أعظمها من فضيلة وهي تقهر وساوس الشيطان للانتقام والغضب والبطش ومقابلة السيئة بأسوأ منها، فكل ابن آدم خطاء وكلنا معرضون للوقوع في الخطأ والزلل، فاذا كان الله تعالى يغفر الذنوب ويعفو عن كثير، أفلا يسامح بعضنا بعضًا ويغفر بعضنا لبعض، فالصفح حاجة اجتماعية يطلبها الناس جميعًا حتى يعيشوا بسلام، والاعتذار خلق جميل يقرب المسافات بين القلوب المتجافية، فما أجمل أن نربي أنفسنا وأبناءنا على الصفح عمن أساء إلينا وعلى الاعتذار لمن أسأنا إليه، ومن شيم الأحرار قبول الاعتذار، يقول الشاعر:
اذا اعتذر اليك الصديق يومًا من التقصير عذر أخ مقر
فصنه عن جفائك واعف عنه فإن الصفح شيمة كل حر
يقول المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة رحمه الله، في كتابه (نحو مجتمع بلا مشكلات ): (ألا وإن الزهر يقبل بعضه بعضًا والجبال تعانق السحب، والماء يحتضن بعضه بعضًا، ونور الشمس يقبل فجاج الأرض، فلنتعلم من الطبيعة أن نحب وأن نعفو، وبالحب والعفو نجعل الحياة من حولنا جنة، ومن جعل الدنيا جنة كان جديرًا بدخول جنة عرضها السموات والأرض).