العنصرية بتجلياتها الجديدة
المحامي علي أحمد حيدر
إن ظاهرة العنصرية المجتمعية والمؤسساتية الإسرائيلية تجاه المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل ليست ظاهرة جديدة، وكنا قد ساهمنا في الماضي بإصدار تقارير وكتابة مقالات والقيام بنشاطات متعددة مع أخوة وزملاء آخرين من أجل رصدها ومتابعتها ومواجهتها، بالإضافة الى الكثير من الأشخاص والمؤسسات التي وضعت جهودًا محمودة في هذا الموضوع. إلا أن هذه الظاهرة آخذة بالتوسع والازدياد واتخاذ أشكال وصور أكثر حدة وقسوةً وعدوانيةً وعنفًا في السنوات الأخيرة وخصوصا في ظل العدوان والحرب على كل من قطاع غزة ولبنان.
وكما يقول المؤرخ والمفكر حميد بوزارسلان: “يجب ألا نبحث عن ديناميات العنف في العنف نفسه، بل في السياقات التي تشهد نشوءه، وفي الآليات التي تؤدي بدورها إلى إطلاقه”.
لقد تناقلت وسائل الإعلام في الأيام الأخيرة فقط عدة حالات وأحداث اعتداء تنبع من منطلقات عنصرية وكراهية متجذرة وجهل واستعلاء على مواطنين عرب عُزل في مواقع وظروف وسياقات مختلفة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، سوف نورد في ما يلي ثلاث حالات فقط من بين الكثير من الحالات التي تمثل وتعكس بعض ملامح الظاهرة وتجلياتها: فقد تم مؤخرًا اعتقال، صيدلي مقدسي يعمل في صيدلية في مدينة، بيتح تيكفا لأنه يلبس خاتما نُقشت عليه كلمات (الله، رسول، محمد) بدعوى أنه يلبس خاتما يحمل شعار تنظيم داعش ويتماهى معه. والأنكى من ذلك، بأنه تمّ تمديد اعتقاله بأمر من محكمة الصلح، ولولا تقديم استئناف للمحكمة المركزية في اللد على قرار محكمة الصلح، والتي بدورها أنصفت الصيدلي وأطلقت سراحه ووبخت الشرطة على عدم مهنيتها، لكان ما زال الصيدلي معتقلا ومنبوذا، وكان من المرجح تقديم لائحة إتهام ضده بإمكانها القضاء على مستقبله.
هذا السلوك الذي سلكه الزبون المشتكي بالتعاون مع رجال الشرطة ومحكمة الصلح يشير إلى حالة الجهل بأسس الدين الإسلامي وأركانه، كما تدل على حالة التأهب القصوى والخوف وعدم الانضباط وانعدام المسؤولية، وتكامل الأدوار بين المجتمع والسلطة في كراهية العرب والمسلمين ورؤية العربي كعدو أو مشتبه من السهل الاستفراد به، استضعافه، اعتقاله ومصادرة حريته وتجريمه على العناصر والمركبات الأساسية لهويته القومية والدينية والاجتماعية وهذا تدهور خطير.
أما الحالة الأخرى، من العنصرية والعنف والاستعلاء والفوضى، هي قيام جندي يميني متطرف بالاعتداء بالضرب على كل من الشاب ماهر جهاد الصرايعة (19 عامًا) من قرية الباط غير المعترف بها في النقب بعد وصوله لمكان عمله في محطة وقود بكيبوتس “كفار عزة”، ذلك لأنه استمع لموسيقى عربية في السيارة. كما قام الجندي بالاعتداء بالضرب على العامل إبراهيم أبو عصا (29 عامًا)، في مدينة سديروت الذي حضر للدفاع عن زميله في العمل.
هذه الاستفزازات والاعتداءات والعنف من قبل جنود يرتدون الزي العسكري والمدججين بالسلاح على شباب عرب عُزل في أماكن عملهم وفي الحيز العام وتهديدهم وإخافتهم يعتبر تصعيدًا خطيرًا جدا وإن كان نسخًا لما يقوم به الجنود والمستوطنين بشكل يومي ضد الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة كما يشكل استدراجًا للشباب من أجل إجبارهم على الرد ومن ثم توريطهم.
أما الحالة الثالثة: والتي تثير المشاعر والاحاسيس فهي تصرف الطلاب والأهالي وإدارة المدرسة الشاملة زيلبرمان في مدينة بئر السبع وبلدية بئر السبع ووزارة المعارف مع طالبة عربية (12 عاما) تتعلم في المدرسة (الصف السابع) حيث أشارت في الأسبوع الماضي إلى معاناة أطفال غزة من جوع وموت، الشيء الذي دفع الطلاب اليهود إلى التجمهر حولها وتحقيرها والتنمر عليها واتهامها بدعم حماس كما رددوا اتجاهها هتافات وأغان عنصرية مثل “فلتحرق قريتكم”.
ومن المؤسف أن إدارة المدرسة قررت إبعادها وتنحيتها عن الدراسة لعدة أيام بدعم من وزارة التربية والتعليم ونائب رئيس البلدية بدعوى التحقيق في الحدث و”حماية الطالبة” ومعرفة إلى أين “تهب الرياح” بحسب تصريح مديرة المدرسة.
هذا القرار جعل مجموعة من الطلاب العرب الذين يدرسون في هذه المدرسة البقاء في بيوتهم خوفا من التنكيل بهم والاعتداء عليهم.
هذا التصرف الجماعي من قبل الطلاب وبدعم من الأهالي والوزارة والبلدية يشير إلى حجم ظاهرة الاحتقان والكراهية والعنصرية في المجتمع اليهودي في البلاد الذي لم يعد قادرا على سماع صوت إنساني من طفلة بريئة تجاه أطفال أبرياء.
كما يدل على أن العنصرية ليست مقصورة على الأقوال ولكن تحولت منذ مدة إلى الأفعال ولم تعد مجرد ممارسات فردية وإنما أصبحت سلوكا منهجيا تعتمده المؤسسات وتأخذ دورًا فاعلا وتحريضيا وخصوصا في فترة الحكومة الحالية التي تعتبر الأكثر تطرفا وعنصرية وعدوانية من بين جميع الحكومات والتي يصل مدى تحريضها إلى مواقع متعددة فتجد في كل حيز من يصغي لها ويترجم أجندتها سواء في ملعب لكرة القدم أو منظمة الطلاب الجامعيين في جامعة حيفا أو مستشفى أو مدرسة…إلخ.
لم تعد العنصرية مقصورة على تصريحات هلامية وأقوال فضفاضة أو حتى قوانين وقرارات حكومية، بل أضحت ممارسات يومية ضد أفراد ليس لسبب، بل لكونهم عربا وبغض النظر عن أماكن تواجدهم سواء في العمل أو التعليم أو في الحيز العام أو الخاص.. إلخ.
كما أن العنف والعنصرية تم استخدامها من قبل شرائح مجتمعية متعددة من العوام والنخب ومن قبل رجال سياسة وتربية وإعلام ودين وشرطة وجنود…الخ.
لا يمكننا كمجتمع أن نقف مكتوفي الأيدي حيال هذا السيل الجارف من العنصرية، وأن نردع العنصريين إلا إذا توحدنا وعملنا سويًا، نمّينا وبيَّنا عوامل قوتنا.
السياق الحالي يتطلب منا اليقظة والحذر والمسؤولية والتريث والحكمة والصبر وعدم الانجرار أو السماح للعنصريين باستدراج أي شخص إلى ما يبغونه ويخططون له، بل على العكس، أن نتمسك بقيمنا وأخلاقنا.
على ضوء تصاعد وازدياد الممارسات العنصرية، على المستشارة القانونية للحكومة أخذ دور أكثر فاعلية ومسؤولية لمراقبة، متابعة، محاكمة ومعاقبة العنصريين.
كما يجب على لجنة المتابعة وقيادات المجتمع العربي والسلطات المحلية ومؤسسات المجتمع المدني التنادي من أجل بحث ونقاش معمقين لوضع استراتيجية شاملة ومتكاملة، تتفق حول مواجهة العنصرية بأشكالها المختلفة، وتضع أهدافًا واضحة وآليات وأدوات ناجعة، وتتقاسم المسؤوليات لتحدي ومقاومة هذه الظاهرة الخطيرة، التي يريد اليمين الإسرائيلي، من خلالها، استدراجنا إلى مواجهة عنيفة وليس فقط إقصائنا والتمييز ضدنا. كما يترتب علينا التخلي عن النفسية والفكر الضحويّين، وأخذ مسؤولية على الواقع الصعب والمركب الذي نعيشه، وهو من أصعب المراحل منذ عام 1948، لأنه إذا لم نأخذ مسؤولية، ونبدأ عملا عربيا مشتركا وحقيقيا، فسوف تستمر مسيرة التردي.
وفي المقابل يجب عدم إغفال مسؤوليتنا في إيجاد شركاء ديموقراطيين وإنسانيين في المجتمع اليهودي من أجل التعاون معا في مواجهة هذه الظاهرة التي من المحتم أنها ستعود بالضرر عاجلًا أم آجلًا على جميع سكان البلاد.