اللؤلؤ والمسك والعنبر والفرج القريب
الشيخ كمال خطيب
لا تعرف قيمة الشيء إلا عند غيابه وفقدانه وعند صعوبة الحصول عليه. فلا تعرف قيمة الطعام إلا عند الجوع، ولا قيمة الماء إلا عند العطش، ولا تعرف قيمة الدواء إلا عند الداء والألم، ولا تعرف قيمة البيت إلا عندما يسكن الإنسان في خيمة مهترئة، بل ولعلّه يفترش الأرض ويلتحف السماء، ولا تعرف قيمة الأمن إلا عند الخوف وقصف الطائرات وأزيز الرصاص ودويّ المدافع.
ولقد رأيناهم أبناء شعبنا في غزة يُقتلون وهم يسعون للحصول على كسرة خبز، وقد اختلطت دماؤهم بطحين حصلوا عليه بعد معاناة. وقد تناثرت أشلاؤهم على قماش خيمة قد قُصفت كانوا قد انتظروا أسابيع ليحصلوا عليها، فكانت لهم قبرا بعد أن كانوا يريدونها سكنًا وأمنًا.
ولأننا على يقين أن هذا الحال لن يدوم، وأن لهذه المحنة ستكون نهاية، ولهذا الليل فجر ساطع، إلا أن ذلك سيكون بعد مخاض عسير يعيشه أهلنا هناك وبعد ابتلاء عظيم ما تزال فصوله تتوالى.
وقد يقول قائل: وكيف سيكون بعد كل ما حصل خير وفرج، ومن أين يأتي الفرج وغزة دُمرت، وأهلها شُردوا والعرب قد خذلوهم والمسلمون يتفرجون عليهم؟ وكيف ستكون المنحة بعد المحنة، والأمل بعد الألم؟ وللجواب على هذا السؤال فإنها وقفات مع بعض مخلوقات الله تعالى ندرك معها أن الله على كل شيء قدير.
اللّبن
لو أنك كنت بين جماعة من الناس وجئت بقربة من جلد مملوءة بمادتين فرث ودم، والفرث هو خليط الطعام الذي يكون في كرش الحيوان، ثم أغلقت القربة جيدًا وخضضتها مرارًا وتكرارًا ثم قلت لمن حولك سأثقب قربة الجلد ثقبًا صغيرًا فماذا تتوقعون أن يسيل من القربة؟! لا شك أن الجواب الطبيعي سيكون أنه ما دام الخليط في القربة هو الفرث والدم فلن يسيل منها إلا سائل داكن اللون، منتن الرائحة، مقرف الطعم ولن تجد عاقلًا يقول غير ذلك، فهذا هو التحليل المنطقي وهكذا تقول الفيزياء في نتيجة خلط الفرث مع الدم.
ولكن خالق الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء البيولوجيا له جواب آخر، ولكن الله القادر على كل شيء والبديع سينتج من هذا المزيج من الرفث والدم شرابًا هو ألذّ شراب وله أجمل لون، إنه سيُخرج من هذا المزيج لبنًا حليبًا أبيض اللون خالصًا سائغًا للشاربين، قال الله الخالق سبحانه: {وَإِنَّ لَكُمْ فِى ٱلْأَنْعَٰمِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيْنِ فَرْثٍۢ وَدَمٍۢ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِّلشَّٰرِبِينَ} آية 66 سورة النحل.
سبحان الله من بين الفرث الذي هو خليط الطعام في الكرش، فإذا خرج من الكرش سمي روثًا أو زبلًا، وإذا بالمصنع الإلهي داخل المعدة يحول الفرث إلى دم يذهب إلى العروق، وبول يذهب إلى المثانة، وروث يذهب إلى المخرج، ولبن يذهب إلى الضرع، إنه حليب أبيض نقي صافي من رائحة الروث ومن لون الدم، فماذا عساك أن تقول سوى سبحان الله، إن ربي على كل شيء قدير.
المسك
قال سبحانه: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ*تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ*يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ*خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} آية 22-26 سورة المطففين. وقال رسول الله ﷺ: “والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك”.
فما هو هذا العطر الذي اسمه المسك؟ ومن أي أنواع الزهور تم استخلاصه؟ وأي رائحة نفّاذة وأي شذى للمسك حتى جعله الله عطر أهل الجنة؟
إنه ليس رحيق زهور ولا غيرها، وإنما هو غدة تكون في جسم نوع من الغزلان يسمى غزال المسك وفي الذكور فقط ولا يوجد في الإناث. فإذا أكل الغزال أنواع الأعشاب والثمار فاختلطت في كرشه، فيتحول قسم منه إلى الدم ويفرز هذا الدم عصارة ومادة تتجمع في غدة في بطن الغزال عند سرته تسمى النافجة.
فإذا وقع الغزال في شباك الصياد أو وُجد ميتًا، فإن أول ما يبحث عنه أصحاب الخبرة هي تلك الغدة “الكيس عند السرة” فإذا فجّروها وإذا بتلك الرائحة المذهلة النفّاذة التي هي عطر المسك ولروعة رائحتها فإن الله سبحانه قد جعلها عطر أهل الجنة.
فإذا كانت الفيزياء تقول إن نتاج ما أكله الظبي من الأعشاب والثمار البرية سيكون ذلك الفرث الذي يمتلئ به كرشه، فإذا أخرجه كان الروث والزبل. هكذا هي النتيجة عند كل الحيوانات وكل الغزلان إلا غزالًا واحدًا جعلته العناية الإلهية يفرز من بين ذلك الفرث مادة لا تسيل من الشرايين مع الدم ولا تخرج مع الروث وإنما تجتمع في غدة وكيس عند السرة هي أطيب وأزكى عطر يمكن أن يشمه الإنسان. فماذا عساك أن تقول سوى سبحان الله، إن الله على كل شيء قدير.
العنبر
إنه ذلك الحوت العظيم الذي يصل وزنه إلى ستين طنًا وطوله 20 مترًا ويعيش قريبًا من 70 سنة ويغوص في أعماق المحيطات إلى عمق ثلاثة آلاف متر. إنه ذلك الحوت الذي يبتلع ويأكل في اليوم الواحد مئات الكيلو جرامات من الأسماك وخاصة من الحبارى، وإذا تعسّر عليه هضم بعض هذا الطعام فإن كبد الحوت يقوم بإفراز مادة شمعية حول ذلك الجسم الذي لم يهضمه فتغلّفه وتغطيه ثم يقوم الحوت بقذف والتخلص من ذلك الجسم والمادة التي أفرزها إلى الماء، فما أن يلمسها الماء والهواء وأشعة الشمس فتمر بحالة الأكسدة فتتحول إلى ما يشبه الحجارة يبحث عنها الناس عند الشواطئ واسمها العنبر أو الكهرمان له رائحة عطرية جذّابة تستعمل في صناعة أجود وأندر أنواع العطور يقدّر سعر الكيلو الخام منها بـ أربعين ألف دولار.
إنه حوت عظيم في أعماق المحيط يأكل طعامه، وما لا يهضمه فإن كبد الحوت يفرز مادة ثم يقذفها إلى الماء وإذا بها تتحول من مادة لها رائحة منتنة تسمى “قيء الحوت” إلى عطر ثمين هو عطر العنبر. فماذا عساك أن تقول عند ذلك إلا سبحان الله العظيم، إن ربي على كل شيء قدير.
اللؤلؤ
قال الله تبارك وتعالى: {وَحُورٌ عِينٌ*كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} آية 23 سورة الواقعة. فقد وصف سبحانه جمال حوريات الجنة باللؤلؤ، وكذلك وصف الولدان الذين يقومون على خدمة أهل الجنة بقوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا} آية 19 سورة الإنسان. ووصف سبحانه الزينة التي يزين بها أهل الجنة فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} آية 23 سورة فاطر.
فما هو هذا اللؤلؤ وما هو سرّ جماله الأخّاذ، حتى إذا أراد سبحانه أن يقرب لأهل الدنيا صورة مخلوقاته في الجنة من الولدان والحور العين، فإنه يشبههم باللؤلؤ الذي عرفه أهل الدنيا بأنه لا أجمل منه، فما هو اللؤلؤ وما هو مصدره؟
فاللؤلؤ هو من أثمن أنواع المجوهرات، وتصنف اللآلئ أنها من أغلى وأثمن أنواع الحجارة الكريمة مع أنها ليست إلا مادة لزجة تفرزها بعض أنواع الصدف والرخويات عندما يدخل عليها جسم غريب، قد يكون قطعة غبار صغيرة جدًا داخل الماء فتهاجمها تلك المحارة بإفراز مادة تغطيها وتتكلس عليها. هذه المادة التي تكلّست حول ذلك الجسم الغريب تتحول إلى لؤلؤة جميلة مبهرة ثمينة، فإذا أراد أحد الأثرياء أن يقدم لزوجته أثمن هدية، فليس أثمن من عقد اللؤلؤ تتزين به نحور النساء.
والغريب أنه في موسم صيد المحار فإنه يتم استخراج اللؤلؤة من داخل الصدفة بينما يُرمى المحار في الماء لأنه لا قيمة له.
محارة تُلقى في الماء وهي التي أنتجت لؤلؤة سعر الواحدة منها بعيار قيراط واحد أي ما يعادل سبعين ألف دولار، والقيراط يساوي 200 ميلغرام، أي أن كل خمسة قراريط تساوي غرامًا واحدًا.
ولأن اللؤلؤة الثمينة تكون محفوظة ومستورة ومحجوبة داخل صدفة، فقد شبّه الشعراء المرأة المسلمة المحجبة مثل اللؤلؤة المحفوظة في الصدفة، فقال الشاعر اللبناني أمين ناصر الدين:
قل لمن بعد حجاب سفرت أبهذا يأمر الغيد الشرف
أسفورًا والحيا يحظره وتقى الله وآداب السلف
ليست المرأة إلا درة أيكون الدرّ إلا في الصدف
ترتقي الأمجاد تبقى حرّة لا تجاري الغرب في غير هدف
فماذا عساك أن تقول وأنت ترى محارة لا تساوي شيئًا تفرز مادة تتحول إلى لؤلؤة هي من أثمن أنواع الحجارة الكريمة، إنك لن تقول إلا سبحان الله، إن ربي على كل شيء قدير.
الفرج القريب
فإذا كان الله تبارك وتعالى له قوانينه الخاصة وله إرادته ومشيئته التي لا تشبهها ولا تساويها أبدًا إرادة البشر ومشيئتهم، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد صنع وأخرج من الفرث والدم حليبًا نقيًا صافيًا ناصعًا شهيًا، وإذا كان سبحانه قد أنتج وفرز من بين فرث الظبي والغزال أشهر أنواع الطيب والعطر إنه المسك طيب أهل الجنة، وإذا كان الله سبحانه قد أخرج من أعماق المحيطات وعتمتها وحلكتها ذلك القيء الذي يقيئه الحوت إذ يحوله إلى مادة العنبر يُصنع منها أرقى وأندر وأثمن أنواع العطور، وإذا كان الله سبحانه من خلال محارة ضعيفة رخوة تختبئ داخل صدفة قد صنع وأخرج لؤلؤة لها جمال وبريق أخّاذ يشد الناظرين،
فإذا كان الله سبحانه قادرًا على كل هذا وأكثر منه، فكيف ولماذا ومن أين تأتي للناس تلك الحيرة والقلق بل والشك بأن الله سبحانه لن يغيّر هذا الحال الصعب الذي نعيشه ولن يهلك الظالمين والطواغيت؟ فإذا كان سبحانه من بين الفرث والدم قد أخرج حليبًا، فكيف لا يصنع من الدم والدموع والألم أملًا فجرًا وقريبًا؟ وإذا كان سبحانه قد صنع في عتمة وقعر المحيطات ومن قيء الحوت عنبرًا وعطرًا، فكيف أنه لن يصنع من ظلمة واقعنا وسواد ليلنا فجرًا وإشراقًا ونورًا؟ وإذا كان سبحانه قد مكّن محارة مختبئة داخل صدفة أن تخرج لؤلؤة، فكيف لا يستطيع سبحانه لأمهات مختبئات في خيام التشرد والتهجير أن يلدن ويصنعن ويربين لآلئ وأقمارًا هم جيل الغد وعنوان المرحلة؟
فبمثل يقيننا وهو ما أكده الواقع والتجربة، أن من بين الفرث والدم يكون الحليب، ومن غدة في بطن غزال ميت يكون المسك، وفي قيء حوت يكون العنبر، وفي إفراز محارة يكون اللؤلؤ، فبنفس اليقين بإذن الله سيكون بعد الليل فجر وبعد العسر يسر وبعد الكرب فرج.
أليس هو رسول الله ﷺ الذي قال: “واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا” فكما أن المقصود بالنصر يتولد خلال الصبر وكذا الفرج وكذلك اليسر بإذن الله تعالى.
وإذا كان الحليب الصافي يُفرز من بين الفرث والدم، وإذا كان المسك يُفرز من فرث الغزال، وإذا كان العنبر يُفرز من قيء الحوت، وإذا كان اللؤلؤ هو من لُعاب محارة وكل هذه أُنتجت في مصانع العناية الإلهية التي لها قوانينها ونواميسها التي لا يفهمها البشر، فكذلك الفرج فإن له نواميس وقوانين إلهية قد لا يفهمها البشر، بل ولعلهم لا يرونها ولا يراها إلا أصحاب الفراسات الإيمانية الصادقة .
ولأن الفرج هو من صنع الله ووعد الله، فإننا واثقون مطمئنون بأنه آت وأنه قريب قريب.
لأنك الله لا خوف ولا قلق ولا غروب ولا ليل ولا شفق
لأنك الله قلبي كله أمل لأنك الله روحي ملؤها الألق
لا عزاء للمحبطين والمتشائمين واليائسين.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.