منحتك علمًا.. فامنحني استغفارًا وجميل الدعاء
الشيخ محمود مصطفى اغبارية
رحل عنا رمز من رموز الصحوة، المجدد المفكر الداعية الكبير الموسوعي المربي، فقيه الدعوة، الشيخ الدكتور محمد أحمد الراشد -رحمه الله- الذي وهب حياته للدين والدعوة، وعاش من أجل أُمّته وهمومها، وحملها ناصحًا مرشدًا، وترك لنا إرثًا في التربية والتزكية، غاب عنا جسدا ولا يزال باقيا فينا بفكره وكلماته. شرّفني ربُّ العزة وأعانني أن اكتب أول رسالة علمية بعنوان “المنهج التربوي عند الشيخ محمد أحمد الراشد”، هي بحثي للماجستير، وقد أشرف على الرسالة الدكتور موسى البسيط، عميد كلية الدعوة سابقا في أم الفحم، وحسب اطلاعي المتواضع تعتبر هذه أول رسالة علمية عن التربية عند الأستاذ الراشد في العالم العربي والإسلامي، وقد تميزت الرسالة بالجمع بين الفقه التربوي والدعوي عند الراشد، وكان البحث على اساسيات ذكر التطبيقات المعاصرة ليستفيد منها أبناء المشروع الإسلامي والصحوة الإسلامية من علماء ودعاة وطلاب ومؤسسات ومنتديات، فكانت دراسة تأصيلية تطبيقية.
وقد تمَّ اختيار الدكتور الراشد عن غيره من المفكرين في الدعوة، لأن الله حباه من المواهب والقدرات العلمية والأدبية، وما تميز به عن غيره في تسخير أصول الفقه والفن والتراث والسياسة وعلومها للدعوة، وقد جمع بين العلم والعمل والصبر والكفاح والإبداع والهمة، كما منحه الله من المؤهلات وسخَّر له من الأدوات ما يجعله يتبوأ مكانة رفيعة في عالم الدعوة والدعاة والتربية والمربين.
ويتمتع المرحوم الراشد بفكر تربوي وعمق دعوي جمع بين علم الواقع وعلم الكتب، وعالج أمراض السائرين في مسيرة الدعوة مما كان له الأثر على شباب الصحوة الإسلامية. وأيضا يملك الطرح المتميز والجريء لنظريات جديدة في فقه الدعوة، مصدرها العلوم الإنسانية والطبيعية والدقيقة كالفيزياء، والتجربة والمحاكاة اليومية، ولم يسبقه إلى هذه النظريات أحد، كنظرية صناعة الحياة، وحركة الحياة وما شابه ذلك. كذلك اجتمع لديه الفقه الأصولي الدعوي، والربانية، والفن والإبداع، والنقد البنّاء، والسياسة الحاذقة، والخبرة التربوية، والقدرة على حسم قضايا الساعة في الساحة الدعوية، وجمع بين رسوخ العالم الشرعي، وقلب المتعبد الزاهد، ونفس الداعية المتجرد، وعقل الفيلسوف المتأمل، ومنهج المصلح العامل، وتأثير القائد الرباني، وتجديد المفكر الوسطي.
ومن الجدير ذكره، أنني لم أعثر على دراسات سابقة حول أدبيات محمد احمد الراشد التربوية، ولم أجد إلا مواضيع منثورة في المجلات كـ “مجلة الرسالة”، و”مجلة المجتمع”، وموقع “المسار”، و”الرواق”، و “محمد احمد الراشد”. هذا وبلغت كتب ورسائل الراشد التي عثرت عليها مطبوعة 45 كتابا ورسالة وكان آخرها “صداح داعية”، “تنظير التغيير”.
واحتوى بحثي للقب الثاني (الماجستير) في بداية فصوله عن حياة ومسيرة الراشد في ثمانية فصول، وبعدها تمَّ طرح النظريات التربوية عند الراشد ومنها: التربية الروحية، التربية الدعويّة، التربية الجماعيّة، التربية الجماليّة، التربية التكوينيّة. وكنتُ أذكر لكل نظرية تعريفها؛ وتأصيلها الشرعي وأهميتها وأثرها عند فقهاء الدعوة عامة، وعند الأستاذ الراشد خاصة. وكنت أذكر التطبيقات المعاصرة لكل نظرية من النظريات السابقة، وكانت محصلة التطبيقات 157 وسيلة تربوية دعوية تطبيقية.
وخلصتُ إلى مجموعة من الاقتراحات والتوصيات الهامة لأبناء المشروع الإسلامي من خلال قراءتنا للمنهج التربوي عند الراشد. وذكرت من التوصيات: تأسيس مجلس للإفتاء الدعوي، يُنسبُ له عدد من الفقهاء من أهل التخصصات الشرعية والدعوية والعلمية وما شابه ذلك، وإنشاء مكتب رصد للإعلام الدعوي من خلال مجلات أسبوعية وشهرية، ومواقع الانترنت وفيس بوك وتويتر ومواقع أخرى، وإقامة فضائية أو تنسيق مع فضائية، واستثمار إمكانات الفضائيات الأخرى، وتنمية القدرات للوصول الى المهارات التي تجسد مفهوم الكفاءة الدعوية في مجال الدعوة الى الله، وضرورة إعداد أبناء المشروع الإسلامي، إعدادا نوعيا ومتميزا في جميع الجوانب التربوية والدعوية والنفسية والإدارية والسلوكية، وأيضا إدراج علوم جديدة في المناهج التربوية؛ كالهندسة المعمارية، والخط، وفن القصة، والفلسفة، وعلم الآثار، والتاريخ، والاقتصاد، والإعلام، وعلوم الاجتماع في المناهج التربوية، وإجراء الدراسات والأبحاث حول العوائق التربوية والأساليب والحلول المناسبة للمشاكل التربوية، وتقديم خطط تربوية تطويرية تواكب متطلبات المستقبل مع المحافظة على ثوابت المجتمع الإسلامي، تزامنًا مع التطور العلمي، والانفجار المعرفي الملحوظ، ورصد ومتابعة فنون التربية الحديثة وأساليبها، والقيام بدراستها ومدى ملائمتها للعمل التربوي والاستفادة من مناهجها.
هذا ونوصي طلاب العلم والباحثين أن يستكملوا الجوانب الأخرى التي قلّد فيها الراشد غيره أو أبدع فيها، ووضع الأسس والقواعد التربوية والدعوية أو رفعها بالتطوير والتفريع.
“منحتك علمًا، فامنحني استغفارًا وجميل الدعاء”، بهذا العنوان ختم الشيخ الراشد كتابه أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي، حيث يقول الشيخ الراشد -رحمه الله-: من خاتمة فإذا ختمتَ كتابي -أصول الإفتاء- فادع لي وقل: (ربنا، عبدك هذا كتب لنا يعلمنا فقه الدعوة، وأقام لنا الدورات، وجرد لنا موسوعات الفقه ليستخرج ما نميز به الدرب، فاعف عنه، واغفر له، وتقبل منه ما خطّ قلمه ولهج به من الشرح لسانه، وأدخله الجنة بفضلك ورحمتك، ينعم بسلامها، ويلتذ بمباهجها ومع حورها بعد متاعبه في الحياة الدنيا، فقد سرق منه السارقون، واعتدى عليه الظالمون، وافترى عليه الحاسدون، فحاول الصبر ما استطاع، فعوِّضه خيرًا واتركه يتمدد في البقعة التي طلبها بين الأنهار الأربعة).
وفي الختام، أُقدم بحثي، وأُهدي رسالتي، لأبناء المشروع الإسلامي المبارك، حيث أشرفت على طباعة الرسالة دار النور المبين في عمان، حيث تقوم بعرض الكتاب في معارض استانبول والمدينة المنورة والجزائر وعمان ورام الله.