أخبار وتقاريرمقالاتومضات

معركة الوعي (213) نتنياهو ومسمار جحا قصة محور صلاح الدّين

حامد اغبارية

باعتراف شريكيّ نتنياهو في مجلس الحرب، وفي جريمة العدوان على غزة، الجنرالين جانتس وآيزنكوت، فإن نتنياهو لم يترك فرصة إلا وعمل من خلالها على تقويض كل إمكانيّة للتوصل إلى عقد صفقة مع حركة حماس، حتى في فترة الصفقة الأولى. وقد قال الرجلان مساء الثلاثاء ما يقولاه أثناء وجودهما في مجلس الحرب وبعد استقالتهما منه. وقد أوضحا في تصريحاتهما أن نتنياهو مستعد لعمل أي شيء من أجل الإبقاء على حكومته ومنع سقوطها، ومن ثم الحفاظ على مستقبله السياسي والشخصي. ومما قاله الرجلان فإن نتنياهو يعلم جيدا أن هناك خطة جاهزة لسد المنافذ في محور صلاح الدين (فيلاديلفي) من تحت الأرض، ولذلك لا مبرر لتمسكه (الآن) بالسيطرة على المحور ورفضه الانسحاب منه كأحد الشروط لعقد الصفقة، لأنه عاجز عن مواجهة الخطر الوجودي الحقيقي الذي يكمن في النووي الإيراني!

هذا الكلام، وإن كان يكشف ويفضح وينضح، إلا أنه جاء في إطار المناكفات السياسية الحزبية والصراع على السلطة وليس الصراع الوجودي. وبذلك فإن جانتس وآيزنكوت لا يختلفان عن نتنياهو في ابتعادهما عن قول الحقيقة الكاملة وممارسة الخداع للجمهور القطيع- الإسرائيلي. فنتنياهو الذي أمضى سنوات وهو يعرض الخرائط في كل مكان بما في ذلك الأمم المتحد ليشرح للقطيع العالمي عن “الخطر الإيراني” يعلم جيدا، كما يعلم جانتس وآيزنكوت، الذين يستعرضان قدراتهما الحكواتية دون خرائط، أن الخطر الوجودي الحقيقي على المؤسسة الإسرائيلية هي المؤسسة الإسرائيلية ذاتها، ولا شيء غيرها. وهي (أي المؤسسة الإسرائيلية) بذلك أشبه ما تكون بمدمن المخدرات السادر في غيّه، الذي يواصل السير في ذات الطريق المؤدي إلى الهلاك وهو يوجه إصبع الاتهام إلى الدنيا كلها، زاعما أنها هي التي تآمرت عليه.

فما هي قصة مسمار جحا، الذي يتمسك به نتنياهو هذه الأيام وكأنه هو – وليس غيره- الذي تقوم عليه القائمة ويضمن للمؤسسة الإسرائيلية الحفاظ على أمنها؟!
ما قصة محور صلاح الدين الذي يبدو أنه آخر قشّة يتمسك بها نتنياهو قبل أن يَغرق ويُغرق معه كل شيء؟

إليكم القصة، دون أن نسأل – طبعا – لماذا يتمسك به؟ فالسبب واضح… وهو أنه لا يوجد سبب حقيقي سوى ذريعة (تهريب الأسلحة) كوسيلة للتعطيل والتطويل. تعطيل الصفقة وإطالة أمد حرب الإبادة الانتقامية، ليس فقط ليشفي غليل شريكيه الفاشيين المتعطشين على الدماء الفلسطينية بن غفير وسموطرتش، بل لتحقيق أهداف المشروع الصهيوني في المنطقة، كإستراتيجية بعيدة المدى، ولينتقم لنفسه المصدومة بعد أن تلقى صفعة غيّبته عن الوعي يوم السابع من تشرين الأول الماضي.

محور صلاح الدين (نسبة إلى الناصر صلاح الدّين الأيوبي رحمه الله) هو شريط حدودي ضيق يمتد على طول أربعة عشر كيلومترا بين مصر وبين قطاع غزة، من البحر المتوسط شمالا إلى معبر كرم أبو سالم جنوبا، وفيه يقع معبر رفح- المتنفس الوحيد للقطاع إلى العالم الخارجي.

يعود تاريخ ترسيم محور صلاح الدين إلى سنة 1906، في وثيقة تفاهم بين الإمبراطورية العثمانية وبين بريطانيا التي كانت تحتل القطر المصري. وجراء ذلك قسمت مدينة رفح إلى قسمين، فلسطيني ومصري، وبعد النكبة لم يشكل المحور نقطة خلاف لأن قطاع غزة كان تحت الحكم المصري، وبعد هزيمة 1967 أيضا لم يشكل المحور مسألة خلافية بحد ذاتها لأن الجيش الإسرائيلي احتل قطاع غزة وسيناء. لكن مع انسحاب الجيش الإسرائيلي من سيناء العام 1982، عاد محور صلاح الدين إلى الواجهة.

بحسب اتفاقية “كامب ديفيد” بين أور السادات ومناحيم بيغن عام 1979، فإن محور صلاح الدين بقي تحت السيطرة الإسرائيلية. وكان هذا مؤشرا على خضوع النظام المصري للشروط الإسرائيلية، علما أن الشريط ليس له أي ارتباط جغرافي حدودي عريض ومباشر بأراضي 1948. وبحسب اتفاقية أوسلو (1993) فقد تعهد الاحتلال بإبقاء المحور ممرا آمنا لكنه بقي تحت سيطرته المباشرة.

في عام 2005 قرر أريئيل شارون الانسحاب (أو الفرار) من غزة وقطع الارتباط به نهائيا، بما في ذلك محور صلاح الدين. وفي ذات السنة وقّع الجانب الإسرائيلي مع النظام المصري (في عهد مبارك) على ما يعرف باسم “بروتوكول فيلادلفيا”، الذي يحد من الوجود العسكري للجانبين الإسرائيلي والمصري في المحور، ويسمح بموجبه للنظام المصري بوضع 750 شرطيا من حرس حدود على أن تكون مهمة القوة المصرية شرطية لمنع التهريب والتسلل، أو بكلمات أخرى لمنع الفلسطينيين في القطاع من استخدامه بما يضمن لهم العيش الكريم والآمن. وهذا يعني أن النظام المصري أدّى دور الحامية للاحتلال الإسرائيلي من أي “خطر” فلسطيني، وهو ذات الدور الذي تؤديه سلطة دايتون في الضفة الغربية.

وفي 2005 أيضا وقّعت تل أبيب مع سلطة دايتون ما يعرف باسم “اتفاقية المعابر” التي منحت السلطة الفلسطينية السيطرة على محور صلاح الدين. ويمكنك أن تقول، بعد انكشاف أوراق التنسيق الأمني، أن الاحتلال وقع تلك الاتفاقية وهو مطمئن تمام الاطمئنان إلى أن هناك من سيحرس له المحور دون أن يكلفه ذلك شيئا.

في عام 2007، وهي السنة التي حسمت فيه حركة حماس قضية القطاع وبسطت سيطرتها عليه، بعد أن انقلب عليها الجميع في محاولة لإفشالها بعد فوزها الكاسح في انتخابات 2006، سيطرت الحركة على محور صلاح الدين ليكون منفذ القطاع الوحيد بعد أن ضرب الاحتلال عليه حصارا مجرما ما يزال مستمرا إلى الآن، ترافقه حرب انتقامية مجنونة منذ الثامن من تشرين الأول الماضي.

في أواخر سنوات حكم نظام حسني مبارك قرر النظام تشديد الخناق على القطاع بحجة تهريب الأسلحة، ووضع جدارا تحت- أرضيّ فولاذيا وأغرق الأنفاق بمياه البحر. ثم كانت انفراجة قصيرة في السنة التي حكم فيها الرئيس الشهيد محمد مرسي، ليأتي الانقلابي عبد الفتاح السيسي ويكمل ما بدأه سيده مبارك، بل وأسوأ منه. ولعلنا نذكر ما قاله ذلك المتواطئ قبل سنوات: “لا نسمح أن تشكلّ أرضنا قاعدة لتهديد جيرانها أو منطقة خلفية لهجمات ضد إسرائيل”. وقد نفذ السيسي- وما يزال- ما وعد به “الشقيقة تل أبيب”.. إلى درجة إخلاء الجانب المصري من مدينة رفح من سكانها وتجريف بيوتها حتى أصبحت أثرا بعد عين.

بطبيعة الحال ونظرا لتشديد الحصار الخانق وتواطؤ النظام المصري، لم يكن أمام الغزيين إلا حفر الأنفاق تحت الأرض ليتمكنوا من التزود بأسباب الحياة الكريمة التي أراد فارضو الحصار (وهم كُثر) إذلالهم وحرمانهم منها ودفعهم إلى رفع الراية البيضاء والانفضاض من حول حركة حماس والانقلاب عليها.

وأثناء الحرب الحالية، وبعد أن دخلت قوات الاحتلال مدينة رفح سيطر جيش الاحتلال على المحور من جديد ليتخذه حجة من أجل السيطرة الكاملة على القطاع من جهاته الأربع.

وبغض النظر عن كون النظام المصري الحالي يلعب اليوم دور الوسيط في مفاوضات الصفقة بين حماس وبين الاحتلال فإن الدور الحقيقي الذي يؤديه منذ بدء الحصار، أسوأ مما مارسه الاحتلال طول سنوات الحصار إلى ما قبل الحرب الحالية.

فقد كانت الانقلابيون قد اتهموا الرئيس مرسي بالتواطؤ مع حركة حماس ودعم اِلإِرهاب، وكأن العلاقة بين أي نظام عربي وبين أي طرف فلسطيني شق عصا الطاعة الأمريكية – الإسرائيلية يشكل جريمة تستحق العقاب حتى الموت، ثم خرج نظام السيسي بتهمة دعم حركة حماس لما يسميه التنظيمات الإرهابية في سيناء عبر محور صلاح الدين، وهو ما لم يقم عليه أي دليل، تماما كما لم يقدم النظام أي دليل على كذبة اقتحام مقاتلي حماس للسجون أثناء ثورة يناير، بعد أن دخلوا سيناء عبر محور صلاح الدين أيضا!!

وها نحن اليوم نرى خنوع النظام المصري لسيطرة جيش الاحتلال على حدود مصرية فلسطينية دون أن يحرك ساكنا، اللهم إلا من همهمات ووشوشات وهمسات تعبّر عن الرفض الخجول والاحتجاج اللطيف…!

في نهاية المطاف فإنّ تمسك نتنياهو بالسيطرة على محمور رفح يشكل صفعة للنظام المصري وضربا لاتفاقية كامب ديفيد بعرض الحائط، قبل أن يكون سعيا إلى تضييق الخناق على القطاع وصولا إلى نزع سلاح المقاومة. فهل سينجح نتنياهو في مسعاه، أم أن قادم الأيام يحمل في طياته ما لا يتوقعه نتنياهو؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى